حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ
«وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ»
تَألِيف
العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ
محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة ٩٧٧ هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة ١٠٦١ هـ
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى
تَحقِيقَ وَدِرَاسَة
لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ
بِإِشْرَافِ
نُورِ الدِّين طَالِب
دَارُ النَّوادِرِ
مقدمة / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة / 2
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ
مقدمة / 3
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة
الطَّبْعَةُ الأُولَى
١٤٣٢ هـ - ٢٠١١ م
ردمك: ٧ - ٨٤ - ٤١٨ - ٩٩٣٣ - ٩٧٨: ISBN
دَار النَّوادِر
سورية - لبنان - الكويت
مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت
سورية - دمشق - ص. ب: ٣٤٣٠٦ - هاتف: ٢٢٢٧٠٠١ - فاكس: ٢٢٢٧٠١١ (٠٠٩٦٣١١)
لبنان - بيروت - ص. ب: ١٤/ ٥١٨٠ - هاتف: ٦٥٢٥٢٨ - فاكس: ٦٥٢٥٢٩ (٠٠٩٦١١)
الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: ٤٣١٦ حولي - الرمز البريدي: ٣٢٠٤٦
هاتف: ٢٢٢٧٣٧٢٥ - فاكس: ٢٢٢٧٣٧٢٦ (٠٠٩٦٥)
www.daralnawader.com - [email protected]
أسَّسَهَا سَنَة: ١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٦ م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
مقدمة / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَة التَّحقِيق
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أمّا بعد:
فإن الله- ﷾ قد جعل هذه الأمة وسطًا بين الأمم، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣].
والوسط هو: الخيار والأجود.
ولذا خصَّها ﷾ بأكمل الشرائع، وأنهج السبل، وشرَّفها بمكارم الأخلاق ومعاليها، وكرَّه لها سفاسفها وأدانيها، فحثَّهم وأمرهم بالتشبه بمن امتدحهم في كتابه، وأنالهم الدرجة الرفيعة المبينة في آياته من قوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ
مقدمة / 5
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)﴾ [المجادلة: ٢٢].
وقال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ١١٣ - ١١٤].
وقال- جلَّ شأنه-: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: ٦٩]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على معالم أولي الأخلاق من الأنبياء والصالحين ومكانتهم وفضلهم.
ثم إن الله تعالى لما أراد لهذه الأمة أن تكون خير الأمم، وأكثرَها هدًى وبصيرة، حذَّرها من سلوك طرق الضلالة والهلاك، والتشبه بمن ظلم نفسه، وزاغ عن المنهج القويم الذي ارتضاه ﷾ لبني آدم؛ فقال- ﷻ في جملة آيات كثيرة: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: ١١٥].
مقدمة / 6
في فلك هذه الآيات وغيرها ألَّف العلاَّمة نجمُ الدين الغزيُّ كتابه الموسوم بـ "حسن التنبه لما ورد في التشبه"، والذي يُعدُّ أجمعَ موسوعة قرآنية حديثية فقهية وعظية في هذا الباب؛ حيث لم يعهد له مثالٌ سابق، ولا شبيهٌ لاحِق، جرَّد لتأليفه مطيَّة العزم والهمَّة، وبثَّ فيه أشياء مهمَّة، وقد بقي في تأليفه قرابة الأربعين عامًا يحرِّر وينقح، ويزيد ويفيد.
وقد ذكر فيه من يحسُنُ التشبهُ بهم من الملائكة والأخيار من بني آدم والصالحين والشهداء والصديقين والنبيين، والتخلُّقُ بأخلاقهم وصفاتهم وأعمالهم.
ثم ذكر مَنْ لا يحسُن التشبهُ بهم من الشياطين، وكَفَرَة الأقوام الغابرة؛ كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون، ثم أهل الكتاب والأعاجم وأهل الجاهلية والمنافقين والمبتدعة والفاسقين.
ثم ختم الكتاب بفصل عزيز نفيس في التوبة والإنابة.
وقد حَفَل هذا المؤلَّف بجملة وافرة من الاستشهاد بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والآثار.
وبثَّ فيه فوائد ومسائل كثيرة فقهية، ونثر الأجوبة والفتاوى للمرضِيَّة، وعُني فيه بذكر تفاسير الأئمة، وشرح غريب القرآن والسنة النبوية.
وحلاَّه بأشعاره التي طابت معانيها، وحسُنت مبانيها، وشَرُفت مراميها.
مقدمة / 7
وقد ناهزت موارده المئةَ مَورد وزيادة؛ من مؤلَّفٍ حديثيٍّ، وتفسيريٍّ، وفقهيٍّ، ووعظيٍّ إرشاديٍّ.
فجاء كتابًا بديعًا، مفيدًا، جامعًا لكل ما هو مستحسَنٌ في الشرع وغيرُ مستحسن، حافلًا بتحقيقاته النفيسة، وفوائده الجليلة، وتنبيهاته القيمة، وإشاراته اللطيفة، فكان بحقٍّ - كما وصفه مؤلِّفه بأنه -: كتاب كريم، تطمئن إليه قلوب الأتقياء، وتنشرح له صدور الفضلاء، وتنقبض منه نفوس أهل الآراء الفاسدة والأهواء (١).
وكان - جزمًا - كتابًا موضوعًا لطريق العمل بمقتضى العقل والعلم اللذين بهما يصير الإنسان إنسانا كاملًا، فمن ظفر بهذا الكتاب، وتمسك به، وعمل بما فيه، كان إنسانا كاملًا، وبشرًا سويًا، ورُجي له زيادة الهداية من الله تعالى، كما قال ﷾: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: ٧٦].
وهذا الكتاب إنما هو للإرشاد إلى أن يتجرد العبد عن مساوئ الأخلاق والأعمال والأقوال، ويتبدل بها محاسن الأخلاق والأعمال والأقوال (٢).
هذا، وقد وفقنا الله تعالى للوقوف على ثلاث نسخ خطية للكتاب؛ أجلُّها النسخة الخطية التي كتبها المؤلف ﵀ بخطه، ثم النسخة الخطية التي كتبت في حياته، وعليها تعليقاته بخطه، ثم نسخة
_________
(١) انظر: (١/ ٦).
(٢) انظر: (١٢/ ٢٧٠ - ٢٧٢) من هذا الكتاب.
مقدمة / 8
ثالثة مفيدة في مجملها.
وإذ نشكر الله تعالى على إخراج هذا السِّفْر الجليل لأول مرة بهذه الحُلَّة وهذا الجهد الذي نَحْسَبه قد بلغ الغاية المنشودة - بإذن الله - تحقيقًا وإخراجًا، لابدَّ من توجيه الشكر والثناء إلى اللجنة العلمية التي قامت على تحقيق هذا العمل المبارك - إن شاء الله - وهم الأساتذة والباحثون الأفاضل:
١ - محمَّد خَلُّوف العبد الله.
٢ - د. محمود أحمد صالح.
٣ - جمال عبد الرَّحيم الفارس.
والشكرُ موصولٌ لجميع الإخوة الأفاضل والأخوات الفاضلات، الذين وفِّقوا في مجال النَّسخ والمراقبة والمقابلة والتنضيد والفهرسة لهذا الكتاب.
هذا وصلى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
حَرَّرَهُ
نُوْرُ الدِّيْن طَالِب
دمشق الشام
١٧/ ربيع الأول/ ١٤٣٢
مقدمة / 9
الفَصْلُ الأَوَّلُ تَرْجَمَةُ العَلاَّمَة نَجمِ الدِّينِ الغَزِّي (١)
مُحمَّدُ بنُ محمدِ بنِ محمدِ بنِ محمدِ بنِ أحمدَ بنِ عبدِ الله بنِ مُفرِّجِ ابنِ بدرٍ، وتقدم تَمامُ النَّسبِ في ترجمة أخيه أبي الطَّيب (٢).
_________
(١) هذه الترجمة منقولة عن "خلاصة الأثر" للمحبي (٤/ ١٨٩)؛ فإنه قد أوفى في ترجمته، وطوَّل عن غيره ممن ترجمه، وقد حَلَّينا هذه الترجمة بفوائد أخر مقتبسة من كتابه هذا: "حسن التنبه"، ومن غيرها من الكتب.
وانظر ترجمته في: "نفحة الريحانة" للمحبي (١/ ٢٨٢)، و"تراجم الأعيان من أبناء الزمان" للبوريني (ق ١٤٣)، و"مشيخة أبي المواهب الحنبلي" (ص: ٦٣ - ٧١)، وهي كالترجمة التي ساقها المحبي في "الخلاصة"، و"ديوان الإسلام" لشمس الدين الغزي (٣/ ٣٨٥)، و"فوائد الارتحال ونتائج السفر في أخبار القرن الحادي عشر" لمصطفى الحموي (٢/ ٤٤)، و"تراجم بعض أعيان دمشق" لابن شاشو (ص: ١٠١ - ١٠٤) - المطبعة اللبنانية - سنة (١٨٨٦ م)، و"هدية العارفين" للبغدادي (٦/ ٢٨٥)، و"الأعلام" للزركلي (٧/ ٦٣)، و"معجم المؤلفين" لكحالة (١١/ ٢٨٩).
(٢) قال فيها (١/ ٣٥) بعد قوله: "ابن بدر": "بن بدري بن عثمان بن جابر ابن ثعلب بن ضوي الغزي بن شداد بن عاد بن مفرج بن لقيط بن جابر بن وهب بن ضباب بن حجير بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب العامري، يتصل نسبه بعامر بن لؤي".
مقدمة / 11
محدِّثُ الشام، ومسندُها، الشيخُ الإمام، نجم الدين، أبو المكارم، وأبو السعود، بن بدر الدين، بن رضي الدين، الغزي، العامري، الدمشقي (١)، الشافعي، شيخ الإسلام، ملحِقُ الأحفاد بالأجداد (٢)، المتفرِّدُ بعلوِّ الإسناد.
ترجم نفسَه في كتابه "بُلْغةُ الواجد" في ترجمة والده البدر، فقال: مولدي كما رأيتُه بخط شيخ الإسلام: يوم الأربعاء، حادي عشر شعبان المكرم، سنة سبع وسبعين وتسع مئة، وسطَ النهار، وقتَ الظهيرة، ودعا لي الوالد بعدما كتب ميلادي؛ فقال: أنشاه الله تعالى وعَمَّره، واجعله ولدًا صالحًا برًّا تقيًا، واكَفَاه واحَمَاه من بلاء الدنيا والآخرة،
_________
(١) قال المؤلف ﵀ في كتابه هذا "حسن التنبه" (٥/ ١٥٢): وقد قلت متحدثًا بنعمة الله تعالى على أن جعلني من أهل الشام، ولاسيما دمشق - حرسها الله -:
مُهاجَرُ إبراهيمَ داري ومَولدِي ... ومنشأُ آبائي الكِرامِ ومَحْتِدِي
دمشقُ التي قَدْ بُورِكت وتَقدَّسَت ... بمجتَمعٍ للصالحينَ ومَشْهَدِ
(٢) قال المحبي في "نفحة الريحانة": النجم الأرضي، وأبوه البدر المضي، وجده الرضي، ثلاثة في نسق، طلعوا فأناروا الغَسَق، وقدمهم في النباهة، أعلى قدرهم في الوجاهة، فمن يدانيهم، وإلى الكواكب مراميهم، وهم في القديم والحديث، أئمة التفسير والحديث.
مقدمة / 12
وجعله من عباده الصالحين، وحزبه المفلحين، وعلمائه العاملين (١)، ببركة سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله نعم الوكيل. انتهى ما وجدته بخط الشيخ الوالد.
ولا بأس بذكر شيء مما منَّ الله تعالى عليَّ به على عادة علماء الحديث، دان كنتُ في نفسي مقصِّرًا، وعن حَلْبة العلماء مقهقِرًا، فأقول:
_________
(١) قال المؤلف ﵀ في كتابه هذا "حسن التنبه" (٢/ ٥٤٥): ومنذ كنت طفلًا ما حلا لي إلا صحبة الصالحين، ولا طمحت نفسي إلا إلى اللحاق بالعلماء العاملين، وكان ذلك بدعوة من والدي شيخ الإسلام، دعا لي بها عندما بشِّر بولادتي، ودعا لي بمثلها قبل وفاته بنحو يوم.
وقال ﵀ (١١/ ٥١٠): ونظر إلي بعض العلماء وأنا في أوائل الطلب، فوجد مني فهمًا وحذقًا، فقال: لا يُستكثر عليه ذلك؛ فإنه ابن فلان، ثم تمثل بالمثل، فقال: إن هذا الشبل من ذاك الأسد، فلم يزل ذلك يبعثني على طلب العلم والميل إلى التقوى والخير إلى يومنا هذا، وإلى الممات إن شاء الله تعالى بحيث إني أقول: [من مجزوء الرمل]
أَعْرَضَ القَلْبُ أَبِيًّا ... عَنْ هَوى لُبْنَى وَلَيْلَى
وَلَقَدْ شَمَّرْتُ حَزْمًا ... فِي رِضَى مَولايَ ذَيْلا
مائِلًا عَمَّا سِواهُ ... فِي بَقايا العُمْرِ مَيْلا
أَمْتَطِي مِنْ هِمَّةِ القَلـ ... ـبِ إِلَى لُقياهُ خَيْلا
طائِعًا رَبِّي نهَارًا ... بِالَّذِي يَرْضَى وَلَيْلا
عائِذًا مِنْ أَنْ أُلاقِي ... يَوْمَ أَلْقَى اللهَ وَيْلا
مقدمة / 13
رُبّيت في حِجْر والدي وتحت كَنَفه حتى بلغتُ سبعَ سنوات، وقرأتُ عليه من كتاب الله تعالى قِصَار المُفَصَّل، وحضرتُ بين يديه يومَ عيدِ الفطر عامَ وفاتِه، وقلتُ: يا سيدي! أريد أنْ أقرأَ عليك من أوَّل البقرة، قال: وتعرف تقرؤها؟ قلت: نعم، قال: هاتِ المصحفَ، فجئتُه به، فقرأتُ عليه الفاتحةَ، ثمَّ مِنْ أوَّل البقرة إلى ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾، فقال لي: يكفيكَ إلى هنا، فأطبقتُ المصحفَ بعد أن لقَّنني: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وأنعمَ عليَّ حينئذ بأربعِ قِطَعِ فِضَّةٍ ترغيبًا لي، وأمرني وأنا ابنُ ستِّ سنواتٍ أن أصومَ رمضانَ، ويعطيَني في كلِّ يومٍ قطعةَ فِضَّة، فصُمتُ مُعظمَ الشهر، وكان ذلك ترغيبًا منه وحُسنَ تربية، وصُمتُ رمضانَ السنةَ التي ماتَ فيها إلا يومًا أو يومين وأنا ابنُ سبع (١)، وبقيت أجلس معه للسحور، وكان يدعو لي كثيرًا، وأحْضَرني دروسَه (٢) أنا
_________
(١) قال المؤلف ﵀: وكان والدي شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - بعد أن أمرني بصوم رمضان وأنا في السنة السابعة من عمري - وهي سنة أربع وثمانين وتسع مئة - يقول لي: كلما صمت يومًا، أعطيتك درهمًا، فصمت رمضان كله إلا يومين أو ثلاثة. انظر: (١٠/ ٢٢٣) من هذا الكتاب.
(٢) جاء على هامش "مشيخة أبي المواهب الحنبلي" (ص: ٦٨): قال النجم في أواخر الشرح المذكور - يعني: منبر التوحيد - مانصه: حضرت شيخ الإسلام الوالد ﵁ سنة اثنتين وثمانين وتسع مئة بالمدرسة التَّقَوية باطن دمشق المحمية، وقد كنت حضرت دروسه بالتقوية، ثم بالشامية الجوانية، وبالجامع الأموي وأنا ابنُ خمس سنوات، إلى أن توفي في سادس عشري شوال سنة =
مقدمة / 14
وأخي الشيخُ كمالُ الدِّين في سنة اثنتين وثمانين، وثلاث وثمانين، وأربع وثمانين.
وحدَّثتني والدتي عنه: أنه كان يقول: إنْ أحياني اللهُ تعالى حتَّى يكبُرَ نجمُ الدِّينِ، أقرأْتُه في كتاب "التنبيه"، وأجازني فيمن حضر دروسه إجازةً خاصة، وأجازني في حزبه الذي كتبه لمفتي مكةَ الشيخِ قُطْبِ الدِّين إجازةً عامةً في عموم أهل عصره من المسلمين (١).
ثم رُبِّيت بعد وفاته في حِجر والدتي أنا وإخوتي، فأحسنَتْ تربيتَنا، ووفَّرتْ حُرمتَنا، وعلَّمتْنَا الصلواتِ والآدابَ، وحَرَصَتْ على تعليمنا القرآنَ، وجَازَتْ شيوخَنا على ذلك وكافأَتْهُم، وقامَتْ في كَفالتنا بما هو فوقَ ما تقوم به الرِّجالُ، مترمّلةً علينا، راغبةً من الله سبحانه في حُسن الثواب والنَّوال، وجزيل الحَظِّ من قوله ﷺ: "أنا أولُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الجَنَّةِ، أَلاَ إِني أَرَى امْرَأةً تُبادِرُني، فأقولُ لها: مَالَكِ؟ ومَنْ أنتِ؟ فتقول: أنا امرأةٌ قَعَدْتُ على أيتامٍ لي" رواه أبو يعلى من حديث أبي هريرةَ ﵁، قال الحافظ المُنذري: "وإسناده حسن - إن شاء الله تعالى -.
_________
= أربع وثمانين وأنا ابن سبع سنوات؛ لأن مولدي في ثالث عشر شعبان سنة سبع وسبعين، فسمعت دروسه في التفسير من أواسط سورة النساء.
(١) وقد روى المؤلف ﵀ عن والده في مواضع عدة بأسانيده في كتابه "حسن التنبه"؛ انظر مثلًا: (١/ ٣٨٨)، (٢/ ٦٦، ١٢٧، ٢٠٦، ٢٧٢، ٥٤٩)، (٤/ ٣٨٥، ٤٤٧، ٤٨٠)، (٩/ ٤٦٣، ٥٢٥، ١٢/ ٣٥٧).
مقدمة / 15
وقال ﷺ: "أَنا وامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الخَدَّينِ كَهَاتَيْن يَوْمَ القِيَامَةِ"، وأومأ بيده - يزيد بنُ زُريعٍ: السَّبَّابةَ والوسطى - "وامرأةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجهَا، ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمالٍ، حَبَسَتْ نَفْسَها عَلَى يَتَامَاهَا حتَّى بَاتُوا أَوْ مَاتُوا"، رواه أبو داود، عن عوف بن مالك الأشجعي ﵁.
قال الخَطَّابي: السَّفعاء: التي تَغَيَّر لونُها إلى الكُمُودة والسَّواد من طول الأيمة؛ يريد بذلك: أنها حبسَتْ نفسَها على أولادها، ولم تتزوج فتحتاج إلى الزِّينة والتصنُّع للزوج. فجزاها الله عنَّا أحسنَ الجزاء، وعَوَّضها عَمَّا تركَتْ من أجله لوجهه في دار البقاء.
وساعدها على ذلك كلِّه شقيقُها الخَواجا زينُ الدين عمر بن الخواجا بدر الدين حسن بن سبت، وأجزل إلينا خيرًا، وكانت معيشتُنا من رَيعِ وَقْفِ جَدِّنا ومُلكِ أبينا وميراثِه الذي تلقَّيناه عنه، أحسنَتْ والدتُنا التصرفَ في أموالنا، وفي مُؤْنتنا وكسوتنا، ولم تُحَمِّلْنا مِنَّة أحدٍ قطُّ، وتقول: هو ببركة والدهم (١)، ثم إنها - أعزَّها الله ومَدَّ في أجلها - أشغلتنا بقراءة القرآن، وطلب العلم؛ فقرأتُ القرآنَ على الشيخ عثمان اليماني.
ثم نقلني الوالدُ قبل وفاته إلى الشيخ يحيى العماري (٢)، فختمت
_________
(١) قال المؤلف ﵀ (٢/ ٥٤٨) من كتابه هذا: "وأخبرني غير واحد: أن الشيخ الوالد ﵁ وهبه شيئًا من النقد، فحرص عليه، وحفظه في كيسه - أو خزانته -، فكان سببًا لنمو ماله، وحلول البركة فيها".
(٢) وقد نقل في كتابه هذا عنه، انظر: (١٠/ ٢٢٢).
مقدمة / 16
عليه القرآن مراتٍ، وأقرأني في "الأجرومية"، و"الجزرية"، و"الشاطبية"، و"الألفية"، تصحيحًا وحفظًا لبعضهنَّ، وحفِظْتُ عليه معظمَ القرآن.
قلتُ: وقد ترجمَهُ في "الكواكب"، وقال: إنه كان من أولياء الله تعالى ممن تُطوى له الأرض.
قال: ثم أخذتُ في طلب العلم، فتردَّدتُ إلى مجلس الشيخ العلاَّمةِ زينِ الدينِ عمرَ بنِ سلطان مفتي الحنفية، فقرأت عليه "الأجرومية" حفظًا وحلًاّ، وشَرْحَهَا للشيخ خالد.
ثم لزِمْتُ درسَ شيخنا شيخ الإسلامِ شهابِ الدينِ العيثاويِّ (١)، فقرأت عليه "شرح الجزرية" للمكودي، وقرأت عليه "شرح المنهاج" بتمامه إلَّا فرقًا يسيرًا من أواسطه وأواخره، ولكن سمعت عليه ما فاتني، وقرأت عليه نصفَ "شرح المنهاج الصغير" الأول لشيخ الإسلام والدي، وسمعتُ عليه مواضعَ صالحةً من "شرح المحلَّى"، وقرأت من أوائل "شرح البهجة" للقاضي زكريا، وسمعت عليه من أول "الإرشاد" وأوسطه بقراءة الشيخ محمد بن داود، وصاحبِه الشيخِ محمد الزوكاري الصالحيين، وسمعتُ عليه "عقيدة الشيباني" بقراءة أبي الصفاء بن الحمصي، وله عليَّ تربية وحُنُوٌّ وعطفٌ، وهو أعزُّ شيوخي عندي، وأحبُّهم إليَّ - جزاهم الله عني خيرًا -، وقرأتُ عليه
_________
(١) أبو العباس أحمد بن أبي الندى يونس العيثاوي الشافعي، وقد ذكره ونقل عنه في عدة مواضع من كتابه هذا، انظر: (١/ ٣٥٢).
مقدمة / 17
في الحديث من أول البخاري وغيره، وإلى الآن في صحبته من سنة إحدى وتسعين وتسع مئة ثلاثَ عشرة سنة - أطال الله صحبتَنا، ومتَّعني بحياته، ونفعني ببركته (١) -.
ولزِمْتُ شيخَنا مفتي الفِرَق شيخَ الإسلام أبا الفضل محمد محبّ الدين القاضي الحنفي (٢) - أعزَّ الله جانبه -، فقرأتُ "شرحَه على منظومة الشيخ العلامة محب الدين بن الشحنة"؛ كما تقدم في ترجمته، ومن أوائل "المُطَوَّل"، وقرأتُ عليه نحو ربع "صحيح البخاريِّ"، وكتب لي به وبغيره إجازة بخطِّه، وهو - متَّع الله بحياته - إلى الآن يُوصِلُ إلينا إحسانَه وإنعامَه، علمًا وثناءً ومالًا، وغير ذلك مما لا نستطيع مكافأته إلَّا أن يجازيَهُ الله عنَّا أحسنَ الجزاء، ويمتِّعنا بحياته وعلومِه ما تعاقب الصباحُ والمساء.
وقرأت على السيد الشريف، الحسيب النسيب، الامام، العلامة، اللَّوْذَعِيِّ المحقِّقِ، الفَهَّامة، قاضي القضاة في حلب، ثم المدينةِ، ثم آمد بضميمة الإفتاء بها وقضاءِ البيرةِ السيدِ محمدِ بنِ السيدِ محمدِ بنِ السيدِ حسنٍ السُّعوديّ - تغمَّده الله تعالى برحمته - حين قدم علينا دمشق الشام
_________
(١) وكان الشيخ العيثاوي يحبه ويجله، ويعامله معاملة الوالد لولده، واستنابه في حياته في وظائفه وخطبه، ثم زوجه إحدى بناته، فولدت له بدرَ الدين محمدًا، ثم ماتت، فزوجه أختها، ولما حضرته الوفاة، أذن له بالكتابة على الفتوى. انظر "فوائد الارتحال" لمصطفى الحموي (٢/ ٤٧).
(٢) وقد نقل عنه في كتابه هذا، انظر: (٢/ ١٤٢).
مقدمة / 18
في سنة ثمان وتسعين وتسع مئة، مواضعَ من "تفسير القاضي العلامة ناصرِ الدين البيضاوي"، منها: تفسير قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ الآيتين بإشارته، وأجازني بمروياته، منها: "تفسير المفتي الأعظم والإمام الأقدم أبي السُّعود محمد بن العمادي - رحمه الله تعالى"، ولم أر في موالي الروم أذكى منه، ولا أرغبَ في العلم منه - رحمه الله تعالى -.
وأجازني من المصريين شيخُنا شيخ الإسلام شمسُ الدين الرمليُّ المِصْريُّ، وشيخُنا العارف بالله تعالى الأستاذُ الأعظم زينُ العابدين البَكْريُّ - متَّع الله بحياتهما -، كتابةً إلي.
قلت: وسمع المُسلسل بالأولية من محدِّث حلب شيخِ الإسلام محمودِ بنِ محمدٍ البيلونيِّ الشافعيِّ حين قدم دمشقَ في سنة سبع بعد الألف، وأجازه بمروياته.
وأخذ عن محدِّث مكةَ المشرفةِ شيخِ الإسلام الشمسِ محمدِ بنِ عبدِ العزيزِ الزَّمزميِّ الشافعيِّ في سنة سبع بعد الألف.
قال: وفتح الله تعالى عليَّ بالنظم والنثر والتأليف من سنة إحدى وتسعين وتسع مئة، وذَكَرَ من شعره قولَه:
لو بُحْتُ بالحبّ الذي ... أَضْنى الفؤادَ وكَلَّما
لَبَكى لِيَ الصخرُ الأَصَـ ... ـمُّ وكاد أنْ يتكلَّما
ثم قال بعد ذلك: ودخلتُ في يوم عرفةَ سنة اثنتين وتسعين وتسع مئة على شيخ الإسلام الشيخِ إسماعيلَ النابُلُسيِّ أهنِّيه بالعيد،
مقدمة / 19
فرأيت عنده جماعةً، منهم: شيخنا العلامة المنلا أسدُ بنُ مُعينِ الدِّين.
أقول: فعُلم من قوله ذلك: أن المنلا أسدًا من مشايخه، ثم رأيتُه ذكر في ترجمة الأسد في "الكواكب": أنه قرأ عليه في "شرح الشذور" لابن هشام، ودروسًا من "شرح الجاربردي على الشافية".
ثم قال: ومن مؤلفاتي:
"نظم الأجرومية"، سميته: "الحُلَّة البَهِيَّة"، واقتديت في نظمها بوالدي لـ "شرح الأجرومية"، لطيف ممزوج.
و"شرح القَطْر" لابن هشام.
و"شرح القواعد" لابن هشام - أيضًا -.
و"شرح منظومة والدي في النحو" نظمًا في أربعة آلاف بيت سميته: "المِنْحة النجميَّة في شرح المُلْحَة البدريَّة"، قرَّظ العلماء عليها.
و"منظومة في النحو" مئة بيت.
و"منظومة في التصريف والخط" كذلك مئة بيت.
و"نظم العقيان في مورثات الفقر والنسيان" للناجي، وهو غير نظم الجد الشيخ رضيِّ الدين.
ومختصر في النحو سميته: "البهجة".
وكتبتُ قطعة على "التوضيح" لابن هشام.
مقدمة / 20
وقطعة على "الشافية" لابن الحاجب.
و"شرح لامية الأفعال" لابن مالك في التصريف في شرحين ممزوجين، الأول منظوم من بحر الأصل، وقافيته في نحو ألف بيت.
ونظم شرح شيخنا علامة العصر المحبِّ الحَمَويِّ على منظومة العلامة المحبِّ بن الشحنة في المعاني والبيان.
و"نظم فرائض المنهاج" في الفقه.
و"شرح منظومة والدي" في ضبط شأن القاعدة الفقهية: كلُّ ما كان أكثرَ عملًا أو أشقَّ، فهو أكثر في الثواب، وسميته: "تحفة الطلاب".
وشرحت أبياتًا لصاحبنا الشيخِ أبي الوفا الحَمَوي العَبْدَري في شروط تكبيرة الإحرام، بالتماس منه، في شرحين: الأول منثور سميته: "الدرة المنيرة في شروط التكبيرة"، والثاني منظوم سميته: "تحفة النظام في تكبيرة الإحرام".
وشرحت كتاب "اللآلئ المُبْدَعة في الكتابات المخترعة" لشيخ الإسلام الجد.
ونظمت "خصائص الجمعة" في منظومة سميتها: "اللآلئ المجتمعة".
ونظمت كتاب "رواة الأساطين في عدم الدخول على السلاطين" للشيخ السيوطي.
واختصرت كتاب "المنهل الرَّوِيّ في الطبِّ النبويِّ" له - أيضًا - في مختصر سميته: "المختار".
مقدمة / 21