الحسام المسلول على منتقصي أصحاب الرسول لبحرق اليمني (١)
_________
(١) كتب على طرة المخطوط: "فائدة: كان هذا المؤلف بالمنزلة الرفيعة من سعة العلم والتبحر في فنون الشريعة، وهو من أهل القرن العاشر، له من التآليف في الطب واللغة والحديث والفقه والتصريف والتاريخ كتب عديدة، منها مختصر الأذكار ومنها العروة الوثيقة وشرحها المسمى بالحديقة الأنيقة وكان الحبيب القطب عبد الله الحداد ملازما لقراءتها موصيا بها، وله حلية البنات والبنين وله شرح على لامية الأفعال وشرح على ملحة الإعراب. وله تأليف حافل في مناقب شيخه فخر الدين أبي بكر بن عبد الله العدني العيدروس. ترجم له العارف بالله سيدي عبد القادر بن شيخ العيدورس في النور السافر والقاضي محمد بن عبد الرحمن سراج بإجمال في مواهب الرؤوف في مناقب الشيخ معروف وغيرهما من التواريخ. وقال فيه بعض أكابر العلويين: هو بحرٌ رَقّ لا بحرق. وله كرامات ذكر بعضها عبد الرؤوف. وما أحسن ما قيل:
كن آخذًا قائم هذا الحسام ... فإنه العدة عند الصدام
ودعه في كفك واضرب به ... من مبغضي صحب النبي كل هام"
Halaman tidak diketahui
- بسم الله الرحمن الرحيم -
وبه ثقتي
الحمد لله أفضل الحمد وأكمله وأشمله، حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والشكر لمولى الحمد ومستحقه على ما من به من التوفيق والهداية إلى سواء الطريق، وأنعم به من العرفان والتحقيق، والاتباع والتصديق، لنبيه محمد ﷺ الذي فضله على جميع الخلائق، وبعثه بخير الأديان والطرائق، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وأعاذ إجماعها المعصوم من كيد الخناس واتباع الوسواس، وحفظ فيها كتابه المبين وشرعه المتين، بقوله ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ وقوله ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله». وقال ﷺ: "ستفترق أمتي إلى اثنتين وسبعين فرقة كل فرقة منها تدعو إلى النار، والناجية منها فرقة واحدة، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: هم المتمسكون بما أنا عليه وأصحابي". والصلاة والسلام على أشرف خلقه سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فقد وصلني كتاب كريم، من أخ في الله صديق حميم، وهو الفقيه الأجل الصالح الفاضل الكامل شرف الدين أبو القاسم بن سليمان الحرازي بلدا المنسوب إلى بيت الحاري، وهو يستغيث إلى الله ﷿ ثم إلى المملوك، يريد الجواب على ثلاثة عشر سؤالا مشتملة على شبه
1 / 45
مضلة، وأوهام عند إشراق الحق مضمحلة، يستغوي داعي الإسماعيلية من حمقى الرجال وطغام الجهال من هو شبه المجانين في الدين، ومن الزنادقة الغاوين، الذين خدعهم الشيطان اللعين، الذين قال فيهم وفي أتباعهم أصدق القائلين: ﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب﴾. فما خص به سيدي من السلام فعليه وعلى من حضر مقامه الكريم أضعاف أضعافه، وليعلم الأخ في الله تعالى أن الدعاء له ولهم مبذول، ومن الجميع مسؤول، والرجاء في الله حسن القبول.
ثم حاصل ما يشير إليه في المكاتبة والأسئلة أن قال السائل في مكاتبته: ويُنهى تعريف خاطركم الكريم أنه قد ظهر في جهاتنا فتنة عظيمة من رئيس الإسماعيلية عندنا، وصار يدعو من جاوره من أهل السنة إلى الدخول في مذهبه وبدعته، ويذكر لهم الأحاديث الواردة في فضل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ويستدل بها على تعين خلافته كحديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» وحديث «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وحديث المؤاخاة، إلى غير ذلك. ويحتج بها على أن عليا هو الوصي بالخلافة من رسول الله ﷺ، وأن خلافة الثلاثة قبله معصية غير مرضية، مخالفة لنص رسول الله ﷺ. واستحل بذلك سب الصحابة ﵃ لتعاونهم على تقديم أبي بكر فمن بعده ظلما. وقد غر بهذه الشبهة خلقا كثيرا، وعظم ضرره على أهل السنة، ولم يقع
1 / 46
من علماء تلك البلاد ما يدفع شبهته ويبطل حجته. وقد كتبت إليكم شبهته التي أغوى بها كثيرا من العوام، ولبس بها على الطغام، فتفضلوا بما يدفع شبهته من الحجج البالغة والبراهين الدامغة، والدلائل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار الصحابية والتابعية. فالغوث الغوث.
وقد علمتم أن الرد عليهم من فروض الكفاية ﴿يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون﴾ فالهمة الهمة، القيام القيام، وجاوبوا بجواب مبسوط شاف كاف مع المبادرة، فإن داعي الإسماعيلية قد كتب جوابا على ما يدعيه من الأحاديث التي كتبتها لكم مطولا ثم ختم بأبيات من شعره يمدح فيها مذهبه وأهله ويذم من خالفه فاجعلوا أيضا ختم جوابكم أبياتا من الشعر في فضل السنة وأهلها، وفضل الصحابة، وفضل الأئمة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
الأحاديث التي أوردها الإسماعيلي يؤيد بها مذهبه
فمن الأحاديث التي أوردها الإسماعيلي ما في مسند الإمام أحمد أنه ﷺ أخذ بيد علي ﵁ بعد أن جمع الناس للصلاة بغدير يقال له غدير خم -بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم- وقال: «ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: بلى، قال: «اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وقال الإسماعيلي: إن المولى في الحديث بمعنى الأولى، وأنه إنما أراد لعلي من الولاء عليهم ما له ﷺ من الولاء، قال وقوله قبل ذلك: "ألستم
1 / 47
تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم" بيان لهذا وإلا لذهب ذلك سدى، وقال لو كان المولى بمعنى الناصر أو غيره لم يحتج إلى جمع المسلمين وإشهادهم ولا أن يأخذ بيد علي لأن ذلك يعرفه كل أحد، ولا كان يحتاج إلى أن يدعو بقوله «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» لأن مثل هذا لا يكون إلا لإمام مفترض الطاعة. وبهذا الحديث وغيره من نحو قوله ﷺ: «علي ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي» وقوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ونحو حديث المؤاخاة احتج على ما ادعاه. فبينوا حل هذه الشبهة.
ومنها: أنه زعم أن عليا ﵁ استنقذ أم ابنه محمد بن الحنفية من يد أبي بكر حين سباها في الردة ثم تزوجها علي من وليها بعقد صحيح، إذ كان يرى أن لا يحل لأبي بكر سبيها لأنها من قوم لم يجر منهم ما يوجب قتالهم، وإنما كان منهم منع الزكاة فقط، وذلك لا يوجب الردة. هذا كلامه، وأراد بذلك أن عليا كان يقدح في خلافة أبي بكر ولا يعتقد صحتها.
ومنها: أنه زعم أن عليا لم يصل صلاة خلف أبي بكر ولا غيره ولا تأمر عليه أبو بكر ولا غيره.
ومنها: سؤال من السائل نفسه: أخبرونا كم صلى أبو بكر بالناس من أيام في مدة مرض رسول الله ﷺ، وهل صلى النبي ﷺ خلف أبي بكر ﵁ في مرضه كما صح أنه ﷺ صلى خلف عبد الرحمن بن عوف في صحته؟
1 / 48
ومنها: أنه زعم أن دفن أبي بكر وعمر عند رسول الله ﷺ ما كان عن إذن منه، ولا أمر أن يشق لأحد في بيته قبر، وقال الله تعالى: ﴿لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم﴾.
ومنها: أنه زعم أن لكل نبي وصيا، وكان النبي ﷺ يأمر بالوصية في الأولاد وقضاء الديون، فكيف ترك نفسه ولم يوص بالخلافة إلى أحد في زعمهم، ويترك الأمة يتيهون في الضلالة.
ومنها: أن المسلمين أجمعوا على تسمية علي ﵁ وصي النبي ﷺ، فوجب أن يكون وصيا بالخلافة.
ومنها: أن عثمان لما ولي قعد على المنبر في مقعد رسول الله ﷺ في ذروته مع أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه نزل عن ذلك درجة وعمر درجتين. وأنه نفى أبا ذر، وآوى مروان، وأقطعه فدك، وهي صدقة النبي ﷺ. إلى غير ذلك من الأمور التي من فعل بعضها لم يستحق الإمامة ووجوب الطاعة.
ومنها: أن عمر كسر سيف الزبير وضرب سعد بن عبادة، وذلك يقدح في إمامته.
ومنها: وهي من السائل أنه أشكل علينا ما ذكره الواحدي في تفسير قوله تعالى: ﴿وإذ أسر النبي﴾ الآية أنه قال لحفصة: "أبوك وأبو عائشة واليا أمر الناس بعدي فإياك أن تخبري أحدا" وقال: كره أن ينتشر ذلك في الناس فما سبب هذه الكراهة وهو مأمور بالتبليغ. وكذلك في الحديث الذي ذكر فيه الرؤيا أنه ﷺ وزن هو وأبو بكر فرجح بأبي بكر، فوزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر بعمر، ووزن
1 / 49
عمر بعثمان فوزن عمر بعثمان، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهة في وجه النبي ﷺ ما سبب هذه الكراهة. وكذلك حديث أنه ﷺ قال للعباس: "إن الله فتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه". وقال العلماء: أراد بذلك بقاء الخلافة في أولاده إلى يوم القيامة، فأين خلافة بني العباس اليوم؟
ومنها: صح أن عليا زوج ابنته أم كلثوم التي أمها فاطمة من عمر ﵃، فكيف صح هذا النكاح وغير الهاشمي ليس بكفء للهاشمي؟ وقال الشافعي ﵁: ليس للرجل أن يزوج ابنته الصغيرة من عبد ولا من غير كفؤ فلو فعل ذلك لم يصح النكاح لأنه خلاف الغبطة والمصلحة.
ومنها: ما روي أن فاطمة جاءت إلى أبي بكر ﵁ وادعت أن النبي ﷺ نحلها فدكا أو سهما من فدك، وأقامت عليا وأم أيمن يشهدان بذلك فلم يعطها شيئا وقامت مغضبة.
ومنها: أن داعي الإسماعيلية زعم أن الخلافة محصورة في آل النبي ﷺ بما رواه البزار أنه ﷺ قال: «إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يقترقا حتى يردا علي الحوض». فقرن العترة بكتاب الله والتمسك بكتاب الله واجب فكذلك العترة. انتهى كلامه.
فبينوا لنا ذلك بيانا شافيا متع الله بكم المسلمين.
ومن جملة شعره الذي ختم به احتجاجه على ما يدعيه من بدعته قوله:
وخذوا الجوابا مبينا ومبرهنا ... عني فإني عبد آل محمد
من فضلهم وعلومهم لي حجة ... كالشمس نورا واضحا للمهتدي
ولهم ولائي لا أريد سواهم ... ومتين حبلهم به وثقت يدي
1 / 50
قرنا كتاب الله ﷻ ... لا افتراق إلى ورود المورد
سفن النجاة إذا طغى موج الهوى ... وأمده بدع كموج مزبد
وهم أولو الذكر المبين ومنهم ... أنوار صدق أصلها من أحمد
آل الرسول وحيدر من مثلهم ... في الخلق في شرف يجل وسؤدد
فهذه جملة أسئلته، وحاصل أبياته من جملة خمسة عشر بيتا، فالله الله، الغوث الغوث، الغارة الغارة. أيدكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فيسر الله الجواب بتصنيف يهدي إلى جادة الصواب، ويكشف عن تلك المشكلات النقاب، ويزيل عن الواقفين الوهم والشك والارتياب، ويبطل تلك الشبهة الزائغة، ويفضح تلك الدعاوى الفارغة أداء لفرض الكفاية وقياما بواجب النصح والرعاية، وسميته "الحسام المسلول على منتقصي أصحاب الرسول". وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. وصلى الله على أشرف خلقه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
- بسم الله الرحمن الرحيم -
وله الحمد، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الذي من على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وأكرم عصابة السنة بحبله المتين، ونصرهم فكانوا هم الغالبين، وآتاهم الفهم في كتابه المستبين، وهداهم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم زيغ الضالين، وضلال الملحدين، ووفقهم للاقتداء بسيد المرسلين، وآله الأكرمين، وصحبه الهادين المهتدين،
1 / 51
صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
أما بعد: فقد سمعت نداءك أيها الأخ المستنجد، وأجبت دعاءك أيها الصارخ المسترشد، سلك الله بنا وبك قصد الطريق، وأمدنا وإياك بالعصمة والتوفيق، بما يجب علي لك من حق الإخاء والوداد، ولله ورسوله من نصرة الدين والجهاد، ولأئمة المسلمين وعامتهم من النصح والإرشاد. فإنك ذكرت أنه قد انتشرت عندكم فتنة طار شررها، وشاعت لديكم محن عم ضررها، من شخص من رؤوساء الإسماعيلية الضلال، استحوذ على طائفة من العوام الجهال، لبس عليهم بدعته فاتبعوه، واستخفهم بشبهته فأطاعوه، استزلهم بما يورد من الأحاديث الواردة في فضل أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه عن صحيح اعتقادهم، واستزلهم بزعمه موالاته ونصرته عن طريق رشادهم، حتى أدى بهم ذلك إلى القدح في خلافة الصديق ومن بعده من الخلفاء الراشدين، ثم سب سائر الصحابة ونسبتهم إلى الفسوق والمروق من الدين. وإنك تحب ما تستظهر به في دفع شبهته، وتستضيء به من السنة من ظلم بدعته، فاعلم أولا أن هذا دخان نار قد أوقد تقبل هذا الأوان، وغبار جدار قد وقع منذ دهور وأزمان، قد تبين فيها الرشد من الغي، واستبان فيها الصريح
1 / 52
من اللي، وعرف فيها الحق من الباطل، والباطل من الهدى، فمن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
مقدمة فيما يتعلق بهذه المسألة من معتقد أهل السنة والجماعة
وذلك في بيان خمسة أشياء: وجوب الإمامة، ثم بيان شروطها، ثم بيان ما تثبت به، ثم بيان الإمام الحق، وترتيب الخلفاء في الفضل، ثم بيان ما يجب لهم ولسائر الصحابة من التعظيم.
وجوب الإمامة
الأول: قال أهل الحق: يجب على الأمة نصب إمام متبع في كل عصر وأوان، لأن به ينصر الدين، ويتمكن من قمع المفسدين، ويؤخذ ما يجب أخذه، ويدفع ما يجب دفعه ﴿ولولا دفع الله الناسب عضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين﴾. والدليل على ذلك إجماع الصحابة ﵃ بعد وفاة رسول الله ﷺ على أنه لا يجوز خلو الوقت عن من يرجعون إليه بعده في أمر الدين والدنيا مع أنهم أعلم الناس وأورعهم وأتقاهم. بل لما خطبهم أبو بكر وقال: ألا إن محمدا قد مات، وإنه لا بد لهذا الدين ممن يقوم به؛ بادر الكل إلى قبول قوله، وتركوا أهم الأشياء وهو دفن رسول الله ﷺ. ثم لم يزل المسلمون على ذلك.
1 / 53
هذا مع أنا نعلم أن مصالح العباد من أمر المعاش والمعاد لا تتم إلا بإمام يرجعون إليه، وإلا ربما أدى ذلك إلى هلاكهم جميعا، والتجربة تشهد لذلك مما يثور من الفتن ويهيج من المحن عند موت الولاة إلى استقلال وال آخر، بحيث لو تمادى ذلك لتعطلت المعايش وأدى إلى رفع الدين وهلاك المسلمين.
شروط الإمامة
الثاني: يجب أن يكون الإمام (ذكرا) لأن النساء ناقصات عقل ودين، (بالغا) لقصور عقل الصبي واحتياجه إلى من يكفله، فضلا عن أن يكون كافلا للأمة كلها، (عاقلا) لما ذكر في الصبي، مسلما لقوله تعالى ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المسلمين سبيلا﴾، (عدلا) لئلا يجور، (حرا) لئلا تشغله خدمة السيد، (قرشيا) لقوله ﵊: «الأئمة من قريش»، ثم إن الصحابة أجمعوا على العمل بمقتضاه، (مجتهدا) في الأصول والفروع ليقوم بأمر الدين، (ذا رأي) ليقوم بأمر الملك، (شجاعا) ليقوى على الذب عما يجب عليه القيام بحفظه. فهذه عشر شرائط.
1 / 54
ولا يشترط أن يكون هاشميا خلافا للشيعة للإجماع على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ولا يكون معصوما خلافا للإمامية، ولا عالما بجميع المسائل المتعلقة بالدين.
ما تثبت به الإمامة
الثالث: تثبت الإمامة إما بالنص من الإمام السابق بالإجماع أو بأن يبايعه أهل الحل والعقد، خلافا للشيعة. ولا يشترط حضور جميع أهل الحل والعقد لأن الصحابة ﵃ مع صلابتهم في الدين اكتفوا بمجرد عقد بيعة عمر لأبي بكر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، فبايعوهما، ولم يتوقفوا في صحة إمامتهما إلى اجتماع أهل المدينة فضلا عن اجتماع أهل العصر.
الإمام الحق
الرابع: الإمام الحق بعد رسول الله ﷺ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ﵃ لما سبق أن طريق ثبوت الإمامة إما بالنص وإما بعقد البيعة. وقد انعقد الإجماع على أنه ﷺ لم ينص لأمته على استخلاف أحد معين، وعلى انعقاد البيعة لأبي بكر، ثم نص أبو بكر على خلافة عمر، ثم عقدها المسلمون لعثمان، ثم لعلي ﵃.
وأما ترتيبهم في الفضل فأجمع أهل السنة على ترتيبهم فيه على ترتيبهم
1 / 55
في الخلافة ما خلا طائفة من السلف فإنهم توقفوا في التفضيل بين علي وعثمان، ومنهم من فضل عليا عليه، ونقل ابن عبد البر أن إجماع الخلف انعقد على ما عليه جمهور السلف من الترتيب. هذا مع الاتفاق على أن عثمان إمام حق لأن من استكمل شروط الإمامة صحت إمامته وإن كان مفضولا، بل قد تجب تولية المفضول لكونه أصلح أو لكون نصب الأفضل مثيرا فتنة، إذ المعتبر في ولاية كل أمر معرفة مصالحه ومفاسده، ورب مفضول في علمه وعمله هو بالإمامة أعرف وبالرعية أشفق وأرأف.
يجب تعظيم كافة الصحابة
الخامس: يجب تعظيم كافة الصحابة ﵃، والكف عن القدح في منصبهم الجليل، وتطلب المحامل الحسنة والتأويلات اللائقة بقدرهم فيما ينقل عنهم بعد العلم بصحة ذلك عنهم، وعدم المسارعة إلى ما ينقله عنهم المؤرخون والأخباريون وأهل البدع المضلة المبطلون. وإنما المعتمد على ما يورده العلماء الراسخون في علم الحديث والسير بالأسانيد المعتمدة. فإذا صح ذلك وجب حمله على أحسن المحامل لأن تقريره يؤدي إلى مناقضة كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ؛ والخلف في قولهما محال، ثم يؤدي إلى هدم أركان الشرع من أصله والإزراء بشارعه وناقله وأهله، لأن الصحابة الذين نقلوا إلينا الشرع والتوحيد والنبوة والرسالة والإسلام والإيمان والصلاة والزكاة والصيام والحج والحلال والحرام إلى غير ذلك، ومتى تطرقت الأوهام إلى القدح فيهم انخرمت عدالتهم وردت روايتهم وشهادتهم، وصار هذا الدين الذي هو خير الأديان شر الأديان لكون حماله فسقة، وكان القرآن مفترى، وكان قوله فيهم ﴿أولئك
1 / 56
هم الصادقون﴾ و﴿التائبون العابدون﴾ ﴿رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ إلى غير ذلك: زورا وبهتانا، وكان الرسول متقولا على الله. وقوله: "أصحابي كالنجوم"، (١) و«خيركم قرني»، و"يحمل هذا العلم" إلى غير ذلك إفكا وباطلا، وكان الخير كله والصدق والنزاهة مع أعداء الله القادحين فيهم الذين حدثوا بعدهم وأحدثوا بدعهم لا مع الله ورسوله وكتابه، وصار جميع الأنبياء والمرسلين المبشرين برسالة محمد ﷺ كذبة، والكتب المنزلة عليهم من عند الله مختلقة، وصار جميع العلماء والأحبار والعارفين بالله الأخيار من أول الدهر إلى آخر الأعصار على باطل وضلال لاتفاقهم على تصديق الصحابة فيما نقلوه وعملهم بعلمهم الذي عنهم حملوه إلى ما لا يحصر من الكفر والضلال، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وهذا في الحقيقة هو المقصود لهذه الفرقة الضال التي ظاهر مذهبها الرفض، وباطنها الكفر المحض. وإلا فكيف يخطر بقلب من يدعي الإيمان الإزراء بسادة المؤمنين وأركان الدين، أو يتطرق إليه القدح فيهم أخذا بقول ﴿من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة﴾، وعدولا عن ثناء الله عليهم في مواضع عديدة في كتاب عزيز ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد﴾.
فأين قول القادح فيهم المنتقص لهم المزري بهم من قول الله تعالى الذي لا يبدل القول لديه
_________
(١) في هامش الأصل: "هذا حديث ضعيف"
1 / 57
ولا يتصور أن ينعكس مدحه ذما ولا رضاه سخطا، ﴿لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون. أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم﴾
فهذه الخيرات والفلاح والجنات المعدة لمن هي؟
﴿للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا﴾ الآيات.
﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾.
وهذا الرضا الأبدي من المراد به؟
﴿رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا﴾.
﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾.
وهذه البيعة الرابحة من تولى عقدها؟
﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾.
وهذه الأوصاف الجميلة من هو الموصوف بها؟
1 / 58
﴿الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله﴾. ﴿فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما﴾.
يا عجبا كيف تكون العصاة الفسقة بزعم الدعاة المرقة أحق بكلمة التقوى وأهلها، هلا كانوا هم أحق بها وأهلها لزعمهم أنهم على الحق لا الصحابة وأتباعهم. أغلطٌ صدر من البارئ جل وعلا حتى أعطى القوس غير باريها، أم سهو حصل ممن لا يضل ولا ينسى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور حتى يقول فيهم ذلك مع علمه بما سيكون منهم من التبديل والتحريف! كلا والله بل كان الله بكل شيء عليما، وكانوا هم أحق بها وأهلها أزلا وأبدا، وعلم الله لا يتبدل، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
ثم كيف أطنب في مدحهم في كتابه وعلى لسان رسوله وهو يعلم ما يصدر منهم من التعاون على الظلم والعدوان وقول الزور والبهتان قبل أن يدفنوا نبيهم ويجهزوه، أغش منه لرسوله المحبوب مع ما له عنده من المكانة، أم عجزت قدرته النافذة عن أن يختار لرسوله من يصحبه بالصدق ويؤدي شرعه بالأمانة، أم أنزل كتابه وأرسل رسوله للإضلال لا للإرشاد حتى مدح فيه من هو مذموم عنده من العباد.
1 / 59
فاعتبروا يا أولي القلوب والأبصار، ﴿وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير. إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير﴾
فصل
وما أورده الخصم من تعداد مناقب لسيدنا أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ففضل علي لا ينكر، وعلو منصبه وجلالة قدره أشهر، فوق ما ذكر بأضعاف كثيرة وأكثر، ولكن للصديق أيضا من الفضل ما هو أكبر، ونصيبه من عطاء الله أتم وأوفر، ﴿كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا. انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا﴾. وكما أن الرسل فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، فكذلك أتباعهم وأتباع أتباعهم هم درجات عند الله، والله بصير بما يعملون.
ثم إن كلامنا هذا إنما هو تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، وأما الخصم فإنه يلزمه على مذهبه الفاسد إبطال ما احتج به، ورد ما أورده، لأن هذه الأحاديث كلها وغيرها إنما رواها الصحابة الذين أبطل عدالتهم ورد شهادتهم، ونقلها عنهم أتباعهم القائلون بمعتقدهم. ورد شهادتهم على مذهبه أولى. فكيف احتج بروايتهم فيما وافق رأيه وهواه، وردها فيما هو أهم من ذلك من نقل أصل الدين وما سواه. وأيما أعظم: اعتقاد التفضيل، أم اعتقاد هدم قواعد الشرع والتعطيل.
1 / 60
﴿فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾.
جعلوا شغلهم الأهم مسألة التفضيل، وصرفوا همهم إلى غير ما أمروا به من القال والقيل، مع أنه مفروغ منه، و﴿تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون﴾. أولئك قوم قد لحقوا بالله، وعرف كل منهم منزلته عند الله، ﴿في مقعد صدق عند مليك مقتدر﴾، ﴿إخوانا على سرر متقابلين﴾، والواجب على من بعدهم لهم ما يجب على الأولاد لآبائهم من البر والإحسان والاستغفار المأمور به بنص القرآن: ﴿والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا﴾. فإنهم آباء أهل الإسلام، إذ هم الذين آووه ونصروه، ثم مهدوه وقرروه، ثم أدوه كما سمعوه، فجزاهم الله عنا أفضل الجزاء. وكل ما ورد من الفضائل في حق علي وغيره فعنهم نقل ومنهم عرف. وكيف ينسب المبتدع نفسه إلى أنه أتقى منهم وأقوم بدين الله وأطوع لله وأعلم بمراد الله، وينسبهم إلى أنهم خالفوا رسول الله فيما سمعوا منه مشافهة وخالفوا الله ورسوله في تقديم مفضول على فاضل والتمادي على الباطل. ﴿فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى﴾.
ثم لم يزل العلماء والأولياء والفقهاء والقراء وغيرهم يتناقلون هذه الأخبار وغيرها مما هو مشهور على مر الأعصار، ويودعونها في تصانيفهم ويتقربون إلى الله بذكرهم في تواليفهم، ولم يصل الموافق والمخالف إلى عملها إلا بواسطتهم، وهم معتقدون لما عليه الصحابة من ترتيب الخلفاء في التقديم وتوفية
1 / 61
كل منهم ومن سائر الصحابة ما هو له من الإجلال والتكريم. فلو علموا أن تلك الأحاديث مصادمة لما فعلوه ومضادة لما اعتقدوه، لكان كتمها وتبديلها بعكسها أهون إثما مما ارتكبوه من مخالفتها كفاحا والتمادي في الباطل إلى الموت وسن سنة قبيحة منسوبة إلى الله ورسوله كذبا يعمل بها من بعدهم إلى يوم القيامة. فأي مصيبة أعظم في دين الله من هذا الاعتقاد، وأي فساد في الدنيا والآخرة أشنع من هذا الفساد ﴿سبحانك هذا بهتان عظيم. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين. ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم﴾ ﴿ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين﴾.
اللهم إنا كما نشهد لك بالوحدانية ولنبيك بالتبليغ فإنا نشهد لهم بالصدق فيما إلينا عنك أوصلوه، وعن نبيك نقلوه، وبأداء الأمانة فيما من أمر دينك تحملوه، ولا نتخذهم أربابا، ولا نجعل بعضهم على بعض أحزابا، بل هم عبيد لك مربوبون، سامعون لك مجيبون، دعاهم نبيك فتابعوه، وعلى نصر دينك بايعوه، فصدقوا كما سميتهم الصادقين، وما بدلوا تبديلا.
1 / 62
فصل في ذكر طرف من ثناء الرسول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وثناء أهل البيت الطيبين الطاهرين على السادة الأتقياء والبررة الأصفياء وحثه أمته على حبهم والتحذير عن سبهم وأمره باتباعهم والاقتداء بهم والكف عما شجر بينهم
فمن ذلك قوله ﷺ: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» رواه البخاري ومسلم.
و«لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» أخرجه البخاري ومسلم.
وقوله: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن أذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه" أخرجه البخاري. (١)
"إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعنة الله على شركم" أخرجه الترمذي.
"سألت ربي عن اختلاف أصحابي من بعدي فأوحى إلي يا محمد: إن أصحابك عندي كالنجوم في السماء بعضهم أقوى من بعض ولكل نوره، فمن أخذ بشيء مما هم عليه فهو عندي على هدى" أخرجه رزين في جامعه.
"إن الله اختارني واختار لي أصحابا فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه
_________
(١) إنما أورده في التاريخ الكبير. وقال: "في إسناده نظر" في الضعفاء الكبير للعقيلي.
1 / 63