Perang Negara Rasul (Bahagian Pertama)
حروب دولة الرسول (الجزء الأول)
Genre-genre
التأسيس
الباب الأول: بدر الكبرى
طالوت ومحمد
مشورة الأنصار
أحداث في بدر الكبرى
المزايدات في قصة بدر
قراءة أخرى
الباب الثاني: أحد
السياسة بعد بدر الكبرى
الهزيمة
Halaman tidak diketahui
فرز أحد
نتائج غزوة أحد
التأسيس
الباب الأول: بدر الكبرى
طالوت ومحمد
مشورة الأنصار
أحداث في بدر الكبرى
المزايدات في قصة بدر
قراءة أخرى
الباب الثاني: أحد
Halaman tidak diketahui
السياسة بعد بدر الكبرى
الهزيمة
فرز أحد
نتائج غزوة أحد
حروب دولة الرسول (الجزء الأول)
حروب دولة الرسول (الجزء الأول)
تأليف
سيد القمني
التأسيس
(1) التقريش والإيلاف
Halaman tidak diketahui
فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم . (المؤمنون: 24)
التقريش
يقول القاموس المحيط، إن الملأ هم الأشراف والعلية، وهم القوم ذوو الشارة والمظهر الحسن والشرف،
1
وهم في المعجم «المنجد» أشراف القوم، الذين يملئون العيون أبهة، والصدور بهجة.
2
هكذا وصف رجال الحكومة القرشية، في المرحلة قبل الإسلامية، في معاجمنا اللغوية. تلك الحكومة الابتدائية، التي تشكلت من كبار تجار مكة؛ أثريائها وعليتها، حيث مثل كل فرد منهم قومه في تلك الحكومة، بقدر ما يملك من إمكانات المظهر الحسن والشرف والأبهة؛ أي بقدر ما يملك من إمكانات مادية. وهي الحكومة التي تم تكريسها في «دار الندوة»، وعرف التاريخ أعضاءها باسم «الملأ».
ويلخص لنا «حسين مروة» أمر ندوة الملأ بإيجاز بليغ يقول:
إن سيطرة أرستقراطية قريش المالية والتجارية، كان لا بد لها أن تنتج بدورها مؤسستها السياسية، المعروفة تاريخيا بدار الندوة؛ البذرة الأولى للدولة في مجتمع مكة، والتي كان من شأنها أن تنظم العلاقات السلطوية لهذه السيطرة، مع الفئات الاجتماعية الأخرى، الخاضعة لاستغلالها الاقتصادي، وأن تضفي على هذه العلاقة وجهها الحقوقي الملائم للوضع التاريخي آنذاك، كما تفرض شرعيتها على تلك الفئات نفسها، التي أصبح عليها أن تخضع سياسيا، كما هي خاضعة اقتصاديا، لأرستقراطية قريش الحاكمة؛ الملأ. وكانت الندوة مجلسا يمثل الأرستقراطية، وفيها كانت تقضي قريش أمورها.
3
Halaman tidak diketahui
وحكومة الملأ إذن - كما هو مبين - كانت مجلسا سلطويا قام في مكة، من أجل إحكام سيطرة الأرستقراطية المكية التجارية على مختلف الشئون، بغرض تناغمها جميعا مع مصالحهم، بحيث يؤدي كل شأن دوره في حماية تجارتهم، واستمرار سيولتها، وضمان أمنها، دون أي توقف يمكن أن يهددها.
ولعل أهم الخطوات التي تمت بسبيل تأمين تلك المصالح، هي قيام مجلس الملأ نفسه، الذي ترافق مع خطوات أخرى، بدأت بالتقريش، ليتلوه الإيلاف، فكان التقريش خطوة أولى لتوحيد قبائل مكة وجمعها؛ أي تقريشها، وذلك زمن «قصي بن كلاب»، عندما استطاع مع حلفائه إجلاء قبائل «خزاعة» عن مكة، ليتمركز فيها مع أولئك الحلفاء، نتيجة مجموعة متضافرة من الظروف التاريخية، بدأت آنذاك تفعل فعلها في جعل مكة زمن «قصي» مركزا كبيرا لاستراحة القوافل التجارية، على طريق الخط التجاري ما بين الشام واليمن. وعليه فإن نظام التقريش جاء كشكل اجتماعي، أكثر تطورا بدرجة أعلى قليلا، من الأنظمة القبلية المتشرذمة المتقاتلة بالجزيرة، وكلون من التنظيم الاجتماعي الذي يجمع القبائل الحليفة لقصي في أضمومة وحزمة مترابطة بالمصلحة، مع استقلال كل قبيلة بشكلها العشائري المألوف. وهو ما نفهمه من شرح «ابن كثير» لهذا الشكل المجتمعي التقريشي في قوله:
وأما اشتقاق قريش، فقيل: من التقرش، وهو التجمع بعد التفرق. وقيل سميت قريش قريشا من التقرش، وهو التكسب والتجارة، حكاه ابن هشام رحمه الله. وقال الجوهري: الكسب والجمع، وقد قرش يقرش (نظن المقصود هنا القرش أي الهرس بالأضراس، كما تعني أيضا جمع القروش أي المال). وقال البيهقي: إن معاوية قال لابن عباس: فلم سميت قريش قريشا؟ قال: لدابة تكون في البحر، تكون أعظم دوابه، يقال لها القرش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته.
4
وهكذا يأتي هذا التفسير الجامع، معبرا صادقا عن حال قريش، وحال المرحلة التاريخية، متضمنا حال المرحلة المجتمعية؛ فالتقريش تجمع للقبائل التي حملت اسم قريش بعدما كانت شراذم قبلية متناثرة متصارعة، وما جمعها إلا المصلحة المادية المشتركة، وهي التكسب المادي. ذلك التكسب الواضح أنه ناتج التجارة على الخط التجاري، والذي تمثل في عشور جمركية تقبضها قريش نظير المرور والاستراحة في مدينتها، للموقع المتميز لمكة على الخط التجاري الدولي. ويحمل التعريف معنى هاما بربطه المتين والرائع لجمع الناس وجمع المال بالارتباط المصلحي، فالقرش هو مفرد القروش المجموعة، والقرش هو الكسب المالي، وهو في الوقت ذاته تجمع الناس في مجتمع مترابط (هو الكسب، وهو الجمع بعد التفرق)، ليبلغ التعريف كمال تبليغه البلاغي في تصوير حال هذا الجمع المتكسب، واستعداده للدفاع عن مصالحه. وتطور الأمر إلى حد النهم، فهو كالقرش السمك المتوحش لا يمر بشيء إلا أكله، مما يشير بالضرورة إلى وجود فئات أخرى، سقطت في حومة ذلك الحراك الاقتصادي الاجتماعي، وذلك في قرن الجمع والتجمع بالكسب والتقرش وجمع القروش، مع القرش بالأضراس الذي تمثله دابة البحر.
الإيلاف
أما التأليف بنظام الإيلاف، فكان - في رأينا واستنتاجنا - الخطوة الثانية والضرورية بعد التقريش، وهو ما طبقته أرستقراطية مكة القرشية بنجاح، للتأليف بين قبائل مكة التجارية، أو أثرياء مكة تحديدا، وبين القبائل الضاربة على الخط التجاري الواصل بين مكة، وبين حدود الإمبراطوريتين: الرومانية والفارسية، ثم تأليف ثان بين قريش وبين القبائل الضاربة في باطن الجزيرة في خطوط فرعية، ثم تأليف ثالث بين قريش وبين الإمبراطوريتين.
وبالإيلاف، وللإيلاف، كان يتم توزيع المكاسب بشكل تناسبي، بما يضمن حماية طريق الإيلاف من إغارة البدو، وتأمينه لمصلحة الجميع، وهو ما يقول فيه «المسعودي» موجزا: «وأخذت قريش الإيلاف من الملوك، وتفسير ذلك الأمن.»
5
وعلى الطريق التجاري وفروعه الهامة، ارتبطت قريش بالإيلاف والعهود مع شيوخ قبائل الجزيرة، شيوخ قيس، واليمامة، وتميم، وأقيال اليمن، وملوك غسان والحيرة، كما وكلوا عنهم وكلاء في جوش ونجران، وغيرها من المواضع الهامة في شبه الجزيرة.
Halaman tidak diketahui
6
وقد اتبعت قريش في تأليفها أساليب منوعة، فهناك من رضي من شيوخ البدو على الطرق التجارية بالهدايا والجعالات، بينما اتفق آخرون على حماية طريق الإيلاف الكبير نظير الاشتراك مع قريش في تجارتها، وهو ما يتضح من إشارة «الجاحظ» لدور «هاشم بن عبد مناف» في تأليف قبائل العرب بإشراكهم في التجارة،
7
وما رواه «ابن سعد» عن تأليف «هاشم» للقبائل الضاربة على الطريق الشامي بحمل بضائعهم دون أجر.
8
ثم ما ذكره «البلاذري» عن دور «هاشم» وولده «عبد المطلب» في عقد المعاهدات وأخذ الحبال من ملوك روما وحمير، ودور «عبد شمس» في تألف نجاشي الحبشة، ثم دور أخيه «نوفل» في تأليف أكاسرة فارس وأخذ عهود الأمن منهم.
9
وهكذا، كان نظام الإيلاف، تأمينا للطريق، وطمأنة معلنة للإمبراطوريتين المنتظرتين على نهاية خط طريق الإيلاف، للقوافل القادمة من مكة، بحيث ضمنت مكة بإيلافها أمان الرضى الإمبراطوري عن دورها، وعن اقتدار ملئها، في تأمين وصول المواد المطلوبة والسلع الهامة، في مواقيتها دون تأخير. ولعل ما يعبر عن وعي العرب بهذا المعنى في نظام الإيلاف، يتضح في أبيات لمطرود بن كعب وهو ينشد:
يا أيها الرجل المحول رحله
هلا نزلت بآل عبد مناف؟
Halaman tidak diketahui
هبلتك أمك لو نزلت عليهم
ضمنوك من جوع ومن إقراف
الآخذون العهد من آفاقها
والراحلون لرحلة الإيلاف
10
أما القرآن الكريم، فكان بصدق تبليغه، مفصحا، موجزا، مبلغا ببلاغته أمر الإيلاف وعلاقته بالأمن، وبالبيت الإلهي المكي، في قول الآيات - في سورة تحمل اسم قريش:
لإيلاف قريش *إيلافهم رحلة الشتاء والصيف *فليعبدوا رب هذا البيت *الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
وقد هيأ مكة للقيام بهذا الدور التاريخي، مجموعة متسارعة من الأحداث، وظروف تلاحقت لتتراكم على صفحة المنطقة وتتوزع على خريطتها؛ حيث كان مركز اليمن الزراعي والتجاري قد تهاوى قبل العصر الجاهلي الأخير بزمان، بينما تضعضعت أحوال الممالك العربية الشمالية (الغساسنة والمناذرة) في العصر الجاهلي الأخير، قبل الإسلام بفترة وجيزة، ووقعت تحت الاحتلال المباشر من الفرس والروم، وهو ما أحدث - ولا شك - فراغا سياسيا في المنطقة الممتدة من سواحل المحيط الهندي جنوبا، وحتى الخط الفاصل بين الإمبراطوريتين في بادية الشام شمالا.
وقد ساعد على رسم تلك الخريطة السياسية، انهيار مجموعة طرق أخرى لم يبق آمنا من بينها سوى الطريق المار بمكة، قادما من موانئ اليمن ليتجه شمالا، ثم يتفرع إلى فرعين نحو فارس شرقا وروما شمالا وغربا في داخل الحدود الفلسطينية والمصرية. وكان انهيار مجموعة الطرق التجارية الأخرى راجعا إلى تلك الحرب الطويلة الضروس، التي دارت بين الفرس والروم ، ومطاردة كل منهما الأخرى في كافة المواضع الممكن الوصول إليها لقطعها. ولم يبق في المنطقة آنذاك طريق مأمون، سوى الطريق البري المار بمكة، لمنعته الصحراوية على غير أهله، مما انتهى به إلى طريق أوحد مؤهل للقيام بأمر تجارة العالم؛ وهو ما أدى إلى تحول مكة عن وضعها زمن «قصي بن كلاب» كمحطة ترانزيت كبرى قابضة للعشور، إلى مركز للأرستقراطية المكية التجارية في العصر الجاهلي الأخير؛ حيث تمكنت تلك الأرستقراطية بتراكم رأس مال العشور والتجارات الصغيرة، من الانتقال عن قبض العشور إلى شراء البضائع القادمة من المحيط الهندي وموانئ اليمن، والاتجار بها لحساب تلك الأرستقراطية، لتمسك عندها بعنان تجارة عالم ذلك الزمان.
11
Halaman tidak diketahui
ولنا أن نفترض بدء ذلك التحول عن قبض العشور إلى القبض على تجارة العالم، كانت المرحلة التي عمدت فيها قريش إلى إنشاء نظام الإيلاف بعد التقريش. ففي مرحلة التقريش كانت قريش تقبض عشورها، وما كان يعنيها كثيرا أمان الطريق؛ فهي تتاجر تجارتها البسيطة مع القادمين والآيبين، وتأخذ العشور من السارق والمسروق، ومن ثم تطور الأمر عندما أصبحت التجارة ملكا كاملا لها. ذلك التطور الذي استدعى السعي الجدي لتأمين تلك التجارة بنظام الإيلاف. وهي ذات المرحلة التاريخية التي نعتقدها مرحلة الفوز للصراع التنافسي التجاري؛ ومن ثم السيادي، داخل مكة ذاتها، والذي انتهى كما هو واضح بالمصادر الإسلامية، إلى سيادة مالية شبه كاملة للفرع الأموي، مع خسران واضح لأبناء عمومتهم الفرع الهاشمي.
ولنا أن نتصور ذلك التراكم المالي وهو ينزع عن الترانزيت إلى المركزية التجارية، ينمو من خلال خبر «الواقدي» وتأكيده أنهم كانوا يربحون في تجارتهم عن الدينار دينارا،
12
حتى بلغ رأس مال بعض القوافل مائة ألف دينار للقافلة الواحدة. ويمكن أن نعلم المدى الذي وصل إليه تضخم رأس المال القرشي من خبر سلعة واحدة، ترفيهية كمالية، هي الطيوب، والتي كان يطلب منها الروم والفرس في العام ما تصل قيمته إلى مائة مليون درهم.
13
أما قافلة «أبي سفيان» التي كانت سببا بعد ذلك في غزوة بدر الكبرى فقد أسهم فيها البيت الأموي بأربعة أخماس رأس المال. وكان لأسرة «أبي أحيحة» وحدها ما يصل إلى ثلاثين ألف دينار، وهي أسرة أموية، وذلك من مجموع أموال القافلة البالغ خمسين ألف دينار.
تحريم المواسم
وإضافة إلى الإيلاف بعد التقريش، تمكنت مكة، على المستوى الداخلي للجزيرة، من استقطاب القبائل المتناثرة في الباطن والأطراف لسوقها المركزي، بتكتيك تدفعه المصلحة، يتجاوز المفاهيم الدينية القبلية المتعصبة، فقامت تستضيف في كعبتها أرباب قبائل الجزيرة على تعددها وتناقضها؛ تلك الأرباب التي كانت في نظر أصحابها أسلافا صالحين. وكان الرب هو جد القبيلة البعيد وسيدها ورمزها، ومعبودها، وضامن وحدتها وتماسكها. فكانت تلك الضيافة لسادة القبائل ورموزها، ضيافة حسنة لكل القبائل، وسبيلا إلى التقريب بين القبائل بتجاور الأرباب من الأسلاف، في فناء معبد واحد، بحيث حاز كل رب نفس القدر من الحرمة. ولم تجد قبائل الجزيرة في تلك الضيافة غضاضة، بل رحبت بدورها بتلك الخطوة وسارعت إليها، وقد بدت تسييدا أوسع، ونشرا لأمر رب كل قبيلة خارج حماه، وخارج دائرة نفوذه القبلي وحدوده الإقليمية، مع الأخذ في الحسبان الاعتبار الأكثر أهمية، وهو انهيار الطرق التجارية الأخرى المارة بمواطن تلك القبائل في بقاع الجزيرة، مما أدى لسقوط معابدها وكعباتها وتدني شأن آلهتها، بفقدها الأساس الاقتصادي مع تحول طرق التجارة عنها، إضافة إلى التنامي الذي حققته الظروف لمكة، وهو ما أضعف شأن الأسواق الأخرى إلى حد التضاؤل والتهميش.
14
وعليه؛ فقد كانت ضيافة الكعبة المكية للأرباب القبلية، تأليفا آخر لقبائل الجزيرة جميعا، وهو ما ساعد على مزيد من تمركز التجارة بمكة، مع اتصال مكة بفروع للطرق نحو الأسواق الداخلية الضاربة في بطن الجزيرة. وزاد في المركزة التجارية والدينية والقبلية بل واللغوية لمكة ولهجتها القرشية، بعد أن أصبحت لغة قريش ذات السيادة والانتشار، فأصبحت مكة مزارا لكل العرب، وحاز موسمها التجاري الأكبر (موسم الحج) مكانة لا تضارع، بعد أن أصبح موسما لكسبهم وعبادتهم وسمرهم ومرحهم، حتى كادت مكة - على المستوى العرفي - أن تكون عاصمة لجزيرة العرب كلها.
Halaman tidak diketahui
وبسبيل مزيد من الحفاظ على المكاسب ودوامها، تمكن الملأ القرشي من تنظيم أسواق بعينها، في هيئة مواسم منظمة بمواقيت ومواسم المحاصيل، سواء في الجزيرة أو شرق أفريقيا أو الهند، ووفق خطوط الرياح في المحيط الهندي، وموعد وصول شحنات البحر من الهند وشرق أفريقيا إلى موانئ الساحل اليمني، ووقت الطلب الشمالي لتلك البضائع والسلع بتقدير دقيق، يأخذ في اعتباره أصغر العوامل، حتى طبيعة المناخ وموجات الحرارة والبرودة، مع تحريم مواقيت تلك الأسواق إيمانيا ومصلحيا، لضمان الموسم الأكبر (موسم الحج)، الذي تجمع فيه مواد بضائع الساحل اليمني وأسواق الجزيرة الداخلية، لتشق رحلتها الصيفية إلى الشمال، بحيث أصبحت أشهر الحج والسفر الصيفي أشهرا حراما. ثم كان في الإمكان - للمصلحة التجارية، وحسب ظروف تطرأ أحيانا، وحسب الطلب، وتغير مواقيت السنة العربية القمرية مع السنة الشمسية الزراعية المحصولية، ولضبط الأشهر الحرام القمرية مع الرحلتين ومواسم الحصاد - تحريك تلك المواقيت، ونقل الأشهر من مواضعها بالإزاحة، فيما يعرف بنظام النسيء.
15
ولمزيد من الضمانات، نظم الملأ نواة أولى لقوات مسلحة من العبيد، ومن الأحابيش، كانت مهمتهم الأساسية حماية أصحاب رءوس الأموال والشخصيات الكبرى، وحراسة بيوت رجال الملأ، ثم المهمة الأساسية، وهي حراسة القوافل التجارية.
وعليه؛ فقد أخذت مكة - بتسارع - تتحول إلى حاضرة، تتناقض مع البداوة والقبلية في داخلها، كما تتناقض مع المحيط المتشرذم حولها في جزيرة العرب؛ ومن ثم كان ضروريا أن تمر مكة بتحولات بنيوية هائلة، في تركيبتها الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، التي انتهت بها من قبائل متشرذمة، إلى قبائل متقرشة، خاضعة لرجال الندوة من حكومة الملأ، لتنضج - باشتراك المصالح - تقريشها، إيلافا على محيطها القبلي في الجزيرة، وبخاصة القبائل التي ألفها طريق الإيلاف الأكبر.
المتغير الاجتماعي
يسوق «ابن سعد» في طبقاته خبرا، يوافقه عليه جميع رواة السير والأخبار، والخبر يقول: إنه حين تغلبت قريش على خزاعة، وتسلم «قصي بن كلاب» - بعد أن كثر ماله وعظم شرفه - زعامة قبائل مكة المتحالفة معه، التي تقرشت، قطع «قصي» مكة أرباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم.
16
وقد ذهب الكاتب «برهان الدين دلو» مذهب الباحث «حسين مروة»، في تحديد المغزى التاريخي لهذا الحدث، بأنه «كان تصنيفا اجتماعيا لسكان، مكة بطون قريش وحلفائها، روعي فيه الوضع المالي دون العرف القبلي؛ إذ جعلهم صنفا ممتازا أدنى أسكن في الظواهر، وهم قريش الظواهر، وكانت قريش الظواهر متبدية أو شبه مستقرة.»
17
وقد ركن الكاتب هنا، في تقديره لسوء أحوال «قريش الظواهر» المادية، إلى تقرير الباحث المؤرخ «جواد علي» في مفصله عن تاريخ العرب قبل الإسلام.
Halaman tidak diketahui
18
ومن ثم استنتج من التصنيف المشار إليه:
إن الوضع المالي والتجاري لأبناء القبيلة، أصبح يحتل المركز الأول من الاعتبار، فكان أن أصبح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار في مقدمة قريش البطاح؛ لأنهم صاروا أوفر مالا وأعظم تجارة، ثم احتلت أمية في قريش الجاهلية الأخيرة مكان الصدارة، مذ أصبح فيهم أعظم التجار ثراء، وبسطت سلطانها المالي والتجاري على كثير من قبائل المنطقة العربية خارج مكة. وبفضل مركز أمية المالي والتجاري، فإن أمراء القوافل كانوا منهم.
19
ونرى من واجبنا هنا التوضيح - حتى لا يختلط الأمر - حيث كان بنو عبد مناف وبنو عبد الدار أبناء لقصي سيد مكة - المتقرشة - الأول، والمطلق النفوذ، والأكثر مالا، وكان طبيعيا أن يكون ورثته في مقدمة قريش البطاح، وليس كما ذهب «دلو» لكون وفرة مالهم الأساسي كانت من التجارة، وإنما لورثتهم ألوية التشريف والسيادة عن سلفهم «قصي»، مما أعطاهم فرصة الحصول على النصيب الكامل من المكوس الجمركية لبضائع الترانزيت المارة بمكة. وهي الألوية التي يشرف كل منها على لون من الخدمات المأجورة، التي كانوا يؤدونها للتجار المارين بمكة بقوافلهم، والتي حملت أسماء ألوية التشريف التي نظمها «قصي»، للحصول على النصيب الأعظم من المكوس، وتمثلت في (السقاية، والرفادة، والحجابة، والسدانة، واللواء، والندوة ... إلخ).
والاعتراض من جانبنا يقوم على حجة أن تلك المرحلة كانت قبل انتقال قريش إلى مرحلة التجارة لحسابها. إلا أن إشارة الكاتب «دلو»، التي تؤكد أن الوضع المالي لأبناء القبيلة قد أصبح يحتل الموقع الأول من الاعتبار، فهو الأمر الذي لا يمكن النزاع حوله.
ومع ذلك الثراء الذي أصابت حظوظه أفرادا من عشائر مكية مختلفة، ومع تحول هؤلاء النفر عن قبض العشور إلى التجارة لحسابها، ومع حجم تلك التجارة الهائل؛ كان طبيعيا، بل كان محتما، أن تبدأ الانقسامات الطبقية الحادة في الظهور بوضوح داخل القبيلة الواحدة، وهو ما انعكس بدوره على الوضع القبلي للقبائل الأخرى بالجزيرة، المرتبطة بحركة مكة التجارية، وهو ما كان العامل الأول في تهشيم الأسس القديمة لروابط القبيلة، وسيولة لزوجتها الجامعة لأفرادها، نتيجة للتطور التجاري، وما صاحبه من تقسيم للعمل، وتضخم ملكيات رءوس الأموال، مقابل فارق طبقي كبير، نتيجة لتفاوت توزيع الثروة، مع اختلاف الأوضاع والأدوار في العملية التجارية التي تقودها مكة، أو بالتحديد نفر متبعثر في قبائلها. شكل الأساس الاقتصادي المتين بينهم رابطة قيادية للعملية التجارية، فتوزعت الأدوار ما بين ملاك للمال، إلى أدلاء للقوافل، وحراس مسلحين، وعمال تشهيلات للشحن والتفريغ، وآخرين يبتهلون الفرص على الطريق لتقديم الخدمات الضرورية للقوافل، في نقاط محددة ومحطات قاموا بإنشائها على الطريق للترغيب في الاستراحة، وبيع خدمات الراحة. هذا إضافة إلى المتاجرين الصغار، وشيوخ القبائل الذين يتقاضون الإتاوات، ثم الأهم وهو انتشار التعامل النقدي بعملات الفرس والروم، وهو ما أدى جميعه لفوارق وتفاوت، فكك بالتدريج روابط النظام القبلي القديم، نتيجة حتمية لوجود العبيد والمعدمين على الطرف الآخر غير المستفيد من العملية التجارية القائمة داخل ذات القبيلة، ومن ثم بدأت قيم القبيلة القديمة تتراجع.
والمعلوم أن القيم القبلية القديمة، كانت تقوم على المساواة المطلقة، والامتلاك الجماعي لوسائل الإنتاج والثروة، ومن ثم توافقت معها علاقات الإنتاج. فكان الولاء الجماعي للقبيلة، وتماسك الكل في القبيلة مع أي فرد فيها مهما صغر شأنه ضد الكون جميعا، فهي تأخذ بثأره حتى لو تآكلت جميعا، ثم هو معها كترس في آلة عسكرية متحركة دوما، لا رابط لها سوى تلك اللزوجة الاجتماعية، والسلف المشترك العزيز على جميع نفوس الأفراد. فكانت القبيلة، وكان السلف، هو الوطن، وكان ذلك اللون من العلاقات الاجتماعية هو الضمان الوحيد لسلامتها كوحدة محاربة متنقلة.
ولكن بعد التطور السريع، واستقرار أكثر القبائل، خاصة القوية، على الطريق التجاري الرئيسي ، أو الطرق الفرعية، وظهور الفوارق الطبقية الحادة داخل القبيلة، لم تعد القبيلة مسئولة كل المسئولية عن الفرد فيها، وبدأت تظهر حالات خلع الأفراد الذين يمكن بحمقهم جلب الضرر للقبيلة التي شرعت في الاستقرار، فظهرت طائفة الخلعاء المتشردين. ثم من جانب آخر ظهرت جماعات الصعاليك، أولئك الأفراد الذين بدءوا بدورهم يرفضون المنطق الجديد، ويهجرون قبائلهم. وأخذ تراكم رأس المال لدى أفراد بذاتهم يفعل فعله في تحول الولاء عن القبيلة إلى الطبقة، كما أخذت قيم الولاء الجمعي تنداح مخلفة وراءها شكلا جديدا من العلاقات الاجتماعية الأكثر تطورا، تمثلت في الفردية التي اتضحت في إمكان تحدد قيمة الفرد دون جماعة، مع تحول قيمة الشرف عن النسب القبلي وعدد النفر إلى قدر ما يملك من مال، وهو ما أفصح عن نفسه في تكوين جيش العبيد والأحلاف والأحابيش، الذي كان مؤشرا بالغ الدلالة على بدء منطق جديد، يمكن فيه الاستغناء عن النفورة وعزة النفر القبلي، بعد أن بات ممكنا شراء النفر المسلح والمدرب، أو الحليف بالمصلحة المادية، وهو ما بدأ يخرج بالفرد عن القبيلة إلى التحالف المصلحي مع أفراد من قبائل أخرى، وهو شاهد واضح البرهنة على بدء تفجر الأطر القبلية.
وهكذا أمسى ممكنا أن تجمع المصالح بين أصحاب الثروات على تفرقهم بين قبائل مختلفة، وعلى أن يجمع الشقاء بين المستضعفين على تفرقهم بين قبائل مختلفة، وهو ما يشهد عليه بدء ظهور تجمعات أكبر من القبيلة، تمثلت في أحلاف يأتينا خبرها في أسمائها عبر كتب السير والأخبار، مثل حلف ذي المجاز وتنوخ، وحلف قريش والأحابيش، وحلف الفضول، وحلف المطيبين، وحلف لعقة الدم، وحلف الأحلاف، وحلف الرباب، وحلف الحمس ... إلخ. لتشير الظاهرة إلى توجه اجتماعي جديد ينحو نحو التوحد على أساس من المصالح المشتركة.
Halaman tidak diketahui
وإعمالا لجدل الأحداث أخذ الفارق الطبقي بالاتساع السريع والهائل ليصبح سواد العرب من الفقراء والمستضعفين يعملون في رعي الأغنام والفلاحة وتجارات البيع البسيط، يسكنون الخيام والعشش والأكواخ الحقيرة، ويسمعون عن الخبز ولا يأكلونه؛ حيث كان الخبز من علامات الوجاهة والثراء، ولا يعرفون عن اللحم سوى الصليب، وهو ودك العظام؛ تجمع وتهشم وتغلى على النار طويلا؛ ليحصلوا منها على الصليب. وغالبا ما عاشوا على مطاردة ظباء الصحراء وأورالها ويرابيعها. ونقصد بهؤلاء الفقراء؛ عرب صرحاء من أبناء قبائل متميزة، دفعتهم إلى الأسفل آلة التغير الاقتصادي والمجتمعي.
ويلي تلك الطبقة في التدني، طبقة الموالي، وهم من أبناء قبائل أخرى تركوها ولجئوا لقبائل مخالفة، أو كانوا أسرى فك أسيادهم أسرهم، أو أعاجم أرقاء أعتقهم سادتهم بمقابل. وقد شكل هؤلاء طبقة بين أبناء القبيلة الخلص الصرحاء وبين العبيد.
ثم طبقة أخرى ظهرت بدورها نتيجة التفاوت الطبقي الحاد، وتكونت من أفراد تلبستهم روح التمرد على أوضاع المجتمع الجديد، فتصرفوا بتلك الروح فأضروا بمصالح السادة، فخلعتهم قبائلهم وتبرأت من فعالهم بإعلان مكتوب أو في الأسواق العامة، وهي الطبقة التي عرفت باسم «الخلعاء».
أما أبرز تلك الطوائف أو الطبقات التي أفرزها المتغير الاقتصادي المجتمعي، فهي «الصعاليك»، وهم فئة لا تملك شيئا من وسائل الإنتاج، تمردت على الأوضاع الطبقية، بل وشنت عليها الحرب؛ بخروجهم أفرادا عن قبائلهم باختيارهم، وتجمعهم على اختلاف أصولهم في عصابات مسلحة. وأبرز الأسماء التي وصلتنا منهم: عروة بن الورد، وتأبط شرا، والسليك ابن السلكة، والشنفرى، وقد أطلق عليهم العرب «الذؤبان»، و«العدائين» لسرعتهم.
وقد روي عن هؤلاء أنهم كانوا ذوي سمات متميزة، من الشهامة والمروءة والنبالة، وأخلاق الفروسية، فكانوا لا يهاجمون إلا البخلاء من الأغنياء، ويوزعون ما ينهبون على الفقراء والمعدمين، بعد أن شكلوا لأنفسهم مجتمعا فوضويا؛ شريعته القوة، وأدواته الغزو والإغارة، وهدفه الأول السلب والنهب، وهدفه الأخير تعديل الموازين المجتمعية.
وتروي لنا كتب السير والأخبار وطبقات الشعراء أشعارا للصعاليك؛ ينعكس فيها الإحساس المرير بوقع الفقر عليهم وفي نفوسهم، ويضج بشكوى صارخة من الظلم الاجتماعي، وهوان منزلتهم. فهذا «قيس بن الحدادية» يخبرنا أنه لم يكن يساوي عند قومه عنزة جرباء جذماء. أما الأخبار عن الشنفرى فتروي كيف أسلمه قومه هو وأمه وأخاه رهنا لقتيل عن قبيلة أخرى، ولم يفدوهم، وكيف تصعلك الشنفرى ورفع سيف ثورته بعد أن لطمته فتاة سلامية؛ لأنه ناداها: يا أختي؛ مستنكرة أن يرتفع إلى مقامها.
ومن مثل تلك الأخبار نستطيع تكوين فكرة واضحة عن المدى الذي فعله المال داخل القبيلة، مما أدى بالصعاليك إلى فصم علاقتهم بقبائلهم، وتكوين جماعتهم المسلحة ضد الأغنياء؛ لينزعوا منهم مقومات الحياة الإنسانية التي أهدرها الواقع، وهو المبدأ الذي يتجلى واضحا في شعر «عروة بن الورد» وهو يقول:
إذا المرء لم يبعث سواما ولم يرح
عليه ولم تعطف عليه أقاربه
فالموت خير للفتى من حياته
Halaman tidak diketahui
فقيرا، ومن موت تدب عقاربه
وفي ضوء الحاجة لليد العاملة في خدمة آلة الاقتصاد الجديد، بدأت بلاد العرب تعرف النظام العبودي، وكان مصدره السبي والنخاسة وعبودية الدين، حتى جاء وقت أصبحت تجارة العبيد بمكة تجارة منتظمة، تأتي بهم من سواحل أفريقيا الشرقية، وهم الطائفة السوداء، ومنهم من كان يشترى من بلاد فارس والروم وهم الطائفة البيضاء، لاستخدامهم في حراسة القوافل وأعمال الري الصناعي والزراعة والحرب. وليس أدل على كثرة هؤلاء العبيد من أن «هندا بنت عتبة» أعتقت في يوم واحد أربعين عبدا من عبيدها، كما أعتق أبو أحيحة سعيد بن العاص مائة عبد؛ اشتراهم وأعتقهم.
ومع النظام العبودي انتشرت عادة التسري بالإماء، فكان للرجل أن يهب أو يبيع أو ينكح أمة أو يجعلها مادة للكسب بتشغيلها في البغاء، ثم يأخذ ناتجها المولود ليباع بدوره.
وعندما جاء الإسلام حرم البغاء، ولكنه أبقى على نظام ملك اليمين ضمن ما أبقى عليه من أنظمة الجاهلية وقواعدها المجتمعية، ولكنه رغب في العتق وحض عليه.
لكن؛ علينا هنا أن نكون حذرين، فالمرحلة كانت مرحلة بدء، وكل تلك التطورات لم تكن تعني تفجيرا كاملا ومبرما للقديم؛ لأنه بقليل من الجهد، يمكننا - ونحن ندرس مجتمع مكة تحديدا - أن نلحظ المحتوى الطبقي الجديد، وهو يتخفى برداء أو شكل قبلي عصبي عشائري قديم، بمعنى أن الجديد قد تزيا بالقديم. وسعت كل مجموعة من الأثرياء إلى ربط أفراد قبيلتها بهم وبمصالحهم، بالعطاء والمنح، وإشراك صغار تجار القبيلة في قوافلهم التجارية، مما أسفر في المجتمع المكي تحديدا عن محتوى طبقي يتخفى داخل نسق عشائري، تمثل في انقسام المجتمع القرشي إلى حزبين كبيرين قبليين، بين أبناء العمومة، أو إلى طبقتين ولكن بملامح وقسمات قبلية، يمثلهما البيت الأموي الثري، والبيت الهاشمي الذي غلب عليه الفقر، وبخاصة في بيت عبد المطلب. وإن كان من العلمية التوضيح أن ذلك الانقسام بدوره لم يكن تام التحديد بفواصل قاطعة مانعة، بل كان يتضمن بعض التداخل الطبقي بين العشيرتين، فضمت الطبقة الثرية أفرادا من هاشم، مثل العباس بن عبد المطلب، وأبو لهب «عبد العزى»، يشاركون أمية المصلحة الطبقية؛ ولذلك فإن المحتوى، وإن تغير، فقد ظل يتخفى بأردية عصبية النسق، وظل الشكل القديم محافظا مع تغير المحتوى. لقد كانت المرحلة مرحلة بدء؛ بدء تحول، بدء طور انتقالي.
ويمكن للمطالع في تلك المرحلة، أن يلحظ أمرا له مغزاه، فسيجد فقر هاشم وبني عبد المطلب طارئا جديدا، وهو ما يدفع إلى افتراضه متصلا بالمنافسة التجارية التي يقع فيها البعض بالضرورة خاسرا، كما يفترض اتصاله بالصراع بين البيتين الهاشمي والأموي، الذي يضرب بجذوره في الماضي إلى أيام الجد «قصي بن كلاب»، وهو الصراع الذي استعر حول حيازة ألوية التشريف السيادية، والتي بلا جدال كانت سلطوية في بعض مناحيها كما في لواء «الندوة» ولواء «اللواء»، وهي الألوية التي استحر صراع حرور حولها لأنها كانت عاملا حاسما في القسمة الطبقية. وبينما اعتمد الأمويون في تقوية سلطتهم ونفوذهم على مزيد من التراكم الثروي، وعقد الموادعات والتحالفات التي تضمنها المصالح المادية المشتركة مع قبائل أخرى، فإن الهاشميين لجئوا إلى كسب مزيد من التشريف وألويته بتكتيك آخر، زاد في فقدهم للأساس المادي باستمرار، لكنه كان منحى يهدف إلى كسب ولاء القبائل بالعطاء والبذل، لكسب الشرف الرئاسي بالجود والفضل. فهذا هاشم، يضع ثروته جميعها تقريبا في قافلة قوامها الزاد، لفقراء مكة والقبائل، في سنوات المجاعة المسنتة، وقام يهشم الثريد باللحم للجوعى بيديه، لذلك لقب هاشما، أما اسمه الحقيقي فكان «عمرا»، وفي ذلك يقول «ابن كثير»: ... هاشم واسمه عمرو، سمي هاشما لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل، كما قال مطرود بن كعب الخزاغي في قصيدته ...
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما
سفر الشتاء ورحلة الأصياف
Halaman tidak diketahui
20
وإشارة «مطرود بن كعب» هنا، لعلاقة هاشم برحلتي الشتاء والصيف، إضافة لما سبق وأشرنا إليه في أخذه الإيلاف لقريش من الملوك وزعماء القبائل، تلقي ضوءا على علاقة البيت الهاشمي الوطيدة، القديمة، بالنظام التجاري الملكي، باعتباره أحد المؤسسين لنظام الإيلاف، ودوره في التجارة العالمية، التي - لا شك - جعلت بيت هاشم أياما، بيتا ثريا ينافس البيت الأموي. وإن أفقره ذلك الأمر غير الواضح بكتبنا التراثية، والذي أرجعناه افتراضا إلى السقوط في حلبة المنافسة، وإلى عنصر آخر غير تام الإقناع، وإن كان ذا دور هام، وهو الكرم والعطاء، لإقامة تحالفات مطلوبة في الصراع، وكسبا للرجال في حومة مقبلة. وإن كان ذلك العنصر في منطق الجزيرة وطبعها المجدب الشظف، وخاصة في تلك المرحلة الطبقية، ربما كان منطقا مقنعا للعرب أنفسهم بحق التشريف السيادي لهاشم، فكان للكرم لديهم مغزاه السياسي والاجتماعي، وكان مما يدعم الكريم بالتسييد وما يستتبعه التسييد من سلطة، وهو ما يدل عليه قول «حاتم الطائي» أكرم العرب وأشهرهم في هذا الضرب السيادي:
يقولون لي: أهلكت مالك فاقتصد
وما كنت - لولا ما يقولون - سيدا
21
ثم يخبرنا التاريخ أن «هاشما» قد دفع بالصراع دفعة كبرى، عندما دعم حلفه ضد «أمية» بزواج شرفي تعاقدي، مع أهل الحرب والدم والحلقة من بني النجار، خزرج يثرب، وأن أخاه «المطلب» سار على نفس المنحى التكتيكي، وأن «عبد المطلب بن هاشم» قام بدعم آخر لحلف «هاشم/يثرب-الخزرج» بزواج آخر، واستمر في البذل حتى لقبته العرب بالفياض لكثرة جوده،
22
في الوقت الذي حافظ فيه ولده العباس على ماله، فكان كثير المال، وهو ما يشير إلى ممكنات الثراء في البيت الهاشمي، لولا بذل هاشم وعبد المطلب وآله، وبخل شديد وحرص في العباس، حدثتنا عنه كتب السيرة في أكثر من مناسبة.
المستوى الفكري
ومع مزيد من التراكم على خط التطور ، كان لا بد أن يتزايد التناقض بين الشكل والمحتوى، حتى يبلغ مداه التفجيري للإطار أو الشكل، لصالح المحتوى الجديد، بعد تراكم الجديد داخل إطار ضاق به ولم يعد يسعه. وقد ساعد على زيادة ذلك التناقض بين الشكل والمحتوى، بقاء الشكل أو الإطار محكوما بعلاقات استهلكها التطور السريع، فتفسخت القيم القبلية، رغم الإصرار الظاهر على استدامتها. هذا بالطبع مع الإفراز الفكري للمرحلة التي اصطبغت بالشكل المادي النفعي، فاستبطن المحتوى الجديد، داخل فكر قديم، لكن فقط للمسامرات الفكرية، والندوات الديوانية، والممارسات الطقسية، والتبريرات النفعية، دون إيمان حقيقي. فعلى المستوى الواقعي، أمسى ظاهرا رفض العربي وخاصة المكي، لكثير من أشكال المعجزات الميتافيزيقية القديمة، خاصة إذا ما كان ذلك المكي من الطبقة الثرية الأرستقراطية، المترفة والمتحققة، حتى أصبحت تلك الميتافيزيقا القديمة في مأثوره الجديد - على لسان الصفوة التي أتاحت لها الثروة التزود بالثقافة الحضارية في مدارس الإمبراطوريات وجامعاتها - مجرد أساطير الأولين، وما كان يتم استدعاؤها عن قناعة، بل من باب التخديم على المصالح المادية. ولم يعد الفكر الديني ومفاهيمه، سوى أسلوب لتنسيق المكاسب، ومطية لمنافع مادية بحتة.
Halaman tidak diketahui
ومن ثم تخبرنا صدور كتب السير والأخبار، بتسامح مطاط في قبول أي دين وأي معتقد، مهما بدا شاذا وغير مألوف، شرط أن يكون دافعا لمزيد من الحضور التجاري، أو على الأقل شرط ألا يكون متضاربا مع المصلحة التجارية. وكان أمرا مفروغ الحدوث، أن يبلغ ذلك التناقض مداه على كافة المستويات.
فعلى المستوى الاقتصادي، كان تركز الثروة بيد أفراد دون آخرين داخل القبيلة، دافعا لمزيد من تناقض الشكل القبلي والمحتوى الطبقي. وكان مفترضا وصول التناقض لمرحلة التفجر لصالح المحتوى الطبقي، لولا أن الشكل القبلي كان يؤدي للقيادة المكية ولمصالح الملأ تحديدا، مكسبا أكبر من التحول النهائي نحو الشكل الطبقي؛ لأن بقاء القبيلة وإطالة أمدها، كان يعني مزيدا من التراكم الثروي لأرستقراطية مكة، وهو الأمر الذي يفسره المستوى الفكري.
وعلى المستوى الفكري: نحتاج بعض التأني هنا لنحاول وضع لوحة واضحة للمستوى الفكري والمحتوى المعرفي لهذه المرحلة.
معلوم أن عجز الإنسان وضعفه أمام ظواهر الطبيعة المتقلبة وقواها، مع قصور تجربته ومعرفته، كان هو الدافع لتصور قوى مفارقة «ميتافيزيقية»، هي التي تقف وراء متغيرات الطبيعة وثوراتها وغضبها وسكونها. ولأن تلك الظواهر لم تكن مفهومة، فقد جاءت تلك القوى أيضا غيبية؛ ولذلك ارتبطت عقائد الناس في أربابها بوسطها البيئي؛ حيث عبرت عن ذلك الوسط وأظهر مظاهره وأكثرها تكرارا وديمومة، ومن هنا قدس العربي أجرام السماء التي تظهر بكل وضوح في ليله الصحراوي المنبسط، دون حواجز حتى الأفق بدائرته الكاملة، كما قدس الأحجار بخاصة ذات السمات المتفردة منها، فبيئته رمال وصخور وأحجار وقد غلب انتشار الصخور البركانية في جزيرة العرب لانتشار البراكين فيها، وأطلقوا عليها اسم الحرات من الحرارة والانصهار.
لكن اتساع رقعة الجزيرة على خطوط عرض واسعة أدى إلى تباين ظروف البيئة والمناخ مما أدى إلى تعدد مماثل في الظواهر، وبالتالي تعددية في العبادات. هذا ناهيك عن وعورة المسالك في الجزيرة؛ والتي أدت إلى ما يشبه العزلة لمواطن دون مواطن، خاصة تلك التي في الباطن، مما أدى إلى احتفاظها بألوان من العقائد الموغلة في قدمها وبدائيتها، نتيجة عدم الاحتكاك بالثقافات الأخرى التي تساعد على تطور الراسب المعرفي، ومن ثم العقائدي.
وهكذا يمكنك أن تجد إضافة لعبادة أجرام السماء وعبادة الأحجار والصخور بقايا من ديانات بدائية كالفيتشية والطوطمية، وعبادة الأوثان وعبادة الأسلاف.
والفيتشية أكثر ديانات الجزيرة انتشارا بين أهلها، وهي تقدس الأشياء المادية كالأحجار؛ للاعتقاد بوجود قوى سحرية خفية بداخلها، أو لأنها قادمة من عالم الآلهة في السماء أو من باطن الأرض حيث عالم الموتى. وقد ظلت تلك العقائد قائمة حتى ظهور الإسلام.
أما الطوطمية، التي تعتقد بوجود صلة لأفراد القبيلة بحيوان ما مقدس، فتظهر في مسميات قبائل العرب (أسد، فهد، يربوع، ضبة، كلب، ظبيان ... إلخ)، لذلك كانوا يحرمون لمس الطوطم أو حتى التلفظ باسمه؛ لذلك كانوا يكنون عنه؛ فالملدوغ يقولون عنه السليم، والنعامة يكنى عنها الملجم، والأسد أبي الحارث، والثعلب ابن آوى، والضبع أم عامر، هكذا. هذا إضافة إلى تقديس الأشجار، مثل ذات أنواط التي كانوا يعظمونها، ويأتونها كل سنة فيذبحون عندها ويعلقون عليها أسلحتهم وأرديتهم.
كذلك عبد العرب كائنات أسموها «الجن» خوفا ورهبة، ودفعا لأذاها، وظنوها تقطن الأماكن الموحشة والمواضع المقفرة والمقابر. وكان العربي إذا دخل إلى موطن قفر حيا سكانه من الجن بقوله؛ عموا إظلاما، ويقف قائد الجماعة ينادي: إنا عائذون بسيد هذا الوادي. وتصوروا الجن كحال العرب، فهم قبائل وعشائر تربط بينهم صلات الرحم، يتقاتلون ويغزو بعضهم بعضا، ولهم سادة وشيوخ وعصبيات، ولهم من صفات العربان كثير، فهم يرعون حرمة الجوار ويحفظون الذمم ويعقدون الأحلاف، وقد يتقاتلون فيثيرون العواصف، ويصيبون البشر بالأوبئة والجنون. وقد نسبوا إلى الجن الهتف قبل الدعوة مباشرة، حيث كثرت الهواتف أي الأصوات التي تنادي بأمور وتنبئ بأخرى بصوت مسموع وجسم مرئي. وقد اعتمد الكهان على تلك الاعتقادات فزعموا أنهم يتلقون وحيهم عن الجن، وأن بإمكانهم الصعود إلى السماء والتصنت على مصائر البشر في حكايات الملأ الأعلى مع بعضهم عمن في الأرض، وإن الكاهن بإمكانه معرفة مصائر البشر عبر رفيقه من جواسيسه على السماء من الجان.
أما أشد العبادات انتشارا وأقربها إلى الظرف المكاني والمجتمعي، فهي عبادة الأسلاف الراحلين. ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غاية التطور في العبادة في العصر قبل الجاهلي الأخير، حيث كان ظرف القبيلة لا يسمح بأي تفكك نظرا لانتقالها الدائم وحركتها الواسعة وراء الكلأ، وهو التنقل الذي يلزمه لزوجة جامعة لأفرادها، تم تمثله في سلف القبيلة وسيدها الراحل الغابر، فأصبح هو الرب المعبود وهو الكافل لها الحماية والتماسك، بوصفها وحدة عسكرية مقاتلة متحركة دوما. فاستبدلت بمفهوم الوطن مفهوم الحمى، والذي يشرف عليه سيدهم وأبوهم القديم وربهم المعبود، حيث تماهى جميع أفراد القبيلة فيه. ومن هنا كان الرب هو سيد القبيلة الراحل القديم، الذي تمثلوه بطلا مقاتلا أو حكيما لا يضارع، ومن ثم تعددت الأرباب بتعدد القبائل، ونزعت القبائل مع ذلك نحو التوحيد. وهي المعادلة التي تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى، لكن بساطة الأمر تكمن في أن البدوي في قبيلته كان لا يعبد في العادة ولا يبجل سوى ربه الذي هو رمز عزته ورابط قبيلته، ولا يعترف بأرباب القبائل الأخرى، وهو الأمر الذي نشهد له نموذجا واضحا في المدون الإسرائيلي المقدس، حيث عاش بنو إسرائيل ظروفا قبلية شبيهة، فيقول سفر الخروج: «من مثلك بين الآلهة يا رب.» أي أن القبلي كان يعرف أربابا أخرى لقبائل أخرى، لكن ربه هو الأعظم من بينها؛ لذلك كان البدوي في قبليته يأنف أن يحكمه أحد من خارج نسبه، لأن نسبه هو ربه هو سلفه، هو ذاته، هو كرامته وعزته؛ لذلك كانت عبادة الأسلاف أحد أهم العوامل في تفرق العرب القبلي، وعدم توحدهم في وحدة مركزية تجمعهم.
Halaman tidak diketahui
ولم يأت الاعتراف بآلهة أخرى لقبائل أخرى إلا فيما بعد، بعد دخول المصالح التجارية للمنطقة، واستعمال النقد، وظهور مصالح لأفراد في قبيلة ترتبط بمصالح لأفراد في قبيلة أخرى، مما أدى لاعتراف متبادل بالأرباب. وهو الأمر الذي بدأ يظهر خاصة في المدن الكبرى بالجزيرة على خط التجارة، في العصر الجاهلي الأخير، كما حدث في مكة والطائف ويثرب وغيرها.
وقد دأب بعض مفكرينا في شئون الدين - عافاهم الله - على الحط من شأن عرب الجزيرة قبل الإسلام، وتصويرهم في صورة منكرة وسار على دربهم أصحاب الفنون الحديثة في القصة والسيناريو والأعمال الفنية السينمائية، بحيث قدموا ذلك العربي عاريا من أية ثقافة أو حتى فهم أو حتى إنسانية، حتى باتت صورته في ذهن شبيبتنا، إن لم تكن في أذهان بعض المثقفين بل والكتاب أيضا، أقرب إلى الحيوانية منها إلى البشرية. وقد بدا لهؤلاء أن القدح في شأن عرب قبل الإسلام، وإبرازهم بتلك الصورة، هو فرش أرضية الصورة بالسواد، لإبراز نور الدعوة الإسلامية بعد ذلك، وكلما زادوا في تبشيع عرب الجاهلية، كلما كان الإسلام أكثر استضاءة وثقافة وعلما وخلقا وتطورا على كل المستويات. وإن الأمر بهذا الشكل يبعث أولا على الشعور بالفجاجة والسخف، ثم هو يجافي أبسط القواعد المنطقية للإيمان، فالإيمان يستمد قيمته من دعوته، ومن نصه القدسي، وسيرة نبيه. فقيمته في ذاته، قيمة داخلية ، وليست من مقارنته بآخر. أما الأنكى في الأمر، فهو أن تتم مقارنة الإلهي بالإنساني، لإبراز قيمة الإلهي إزاء نقص الإنساني، في تلك الحال ستكون ظالمة لكليهما: الإلهي والإنساني؛ فالإلهي لا يقارن بغيره، كما أن مقارنة الإنسان به فداحة في التجني على الإنساني بما لا يقارن مع الإلهي.
وقد فطن «الدكتور طه حسين» إلى ذلك الأمر وعمد إلى إيضاحه في كتابه «الأدب الجاهلي» مبينا مدى تهافت الفكرة الشائعة حول جاهلية العرب قبل الإسلام، وكيف أن تلك الفكرة أرادت تصوير العرب كالحيوانات المتوحشة. لإبراز دور الإسلام في نقله الإعجازي لهؤلاء الأقوام المتوحشين، فجأة دون مقدمات موضوعية، إلى مشارف الحضارة، فجمعهم في أمة واحدة، فتحوا الدنيا وكونوا إمبراطورية كبرى. هذا بينما القراءة النزيهة لتاريخ عرب الجزيرة في المرحلة قبل الإسلامية تشير بوضوح، إلى أن العرب لم يكونوا كذلك. أما الركون إلى عقائدهم لتسفيههم، فهو الأمر الأشد فجاجة في الرؤية، فيكفينا أن نلقي نظرة حولنا، على الإنسان وهو في مشارف قرنه الحادي والعشرين، لنجده لم يزل بعد يعتقد في أمور هي من أشد الأمور سخفا ومدعاة للضحك.
والمطالع لأخبار ذلك العصر المنعوت بالجاهلي، في كتب الأخبار الإسلامية ذاتها، سيجد في الأخلاق مستوى رفيعا هو النبالة ذاتها، وسيجد المستوى المعرفي هو المستوى المعرفي للأمم من حولهم. وأن معارفهم كانت تجمع إلى معارف تلك الأمم معارفهم الخاصة. فقط كان تشتتهم القبلي وعدم توحدهم في دولة مركزية، عائقا حقيقيا دون الوصول إلى المستوى الحضاري لما جاورهم من حضارات مركزية مستقرة. وهو الأمر الذي أخذ في التطور المتسارع في العصر الجاهلي الأخير نحو التوحد في أحلاف كبرى، تهيئة للأمر العظيم الآتي في توحد مركزي ودولة كبرى.
فعلى مستوى المعارف الكونية، كان لدى العرب تصورات واضحة، تضاهي التصورات في الحضارات حولهم؛ فالأرض كرة مدحاة، والسماء سقف محفوظ تزينه مصابيح هي تلك النجوم، وفيه كواكب سيارة، أطلقوا عليها «الخنس والجواري الكنس». فهذا «زيد بن عمرو بن نفيل» يحدثنا عن التصور الكوني المعروف في بلاد الحضارات في قوله:
دحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
بينما نجد «أمية بن عبد الله الثقفي»، يصور لنا ما درج عليه العالم القديم من تصور للسماء سقفا بلا عمد، وأنها طبقات سبع، وأن الشهب فيها حماية ورصدا ومنعا للجن من استراق السمع على الملأ الأعلى.
أما على مستوى المعارف الدينية، وكانت سمة عصرها، وهي المنحولة عن عقائد الرافدين القديمة ومصر القديمة وبلاد الشام وفلسطين، وجاء تفصيلها مجملا في مدونات التوراة، فهو الأمر الذي كانت تعرفه جزيرة العرب، فهذا «الأفوه الأودي» يأبى إلا أن يسجل أسماء أبناء نوح في قوله:
ولما يعصمها سام وحام
Halaman tidak diketahui
ويافث حيثما حلت ولام
أما طول العمر النوحي فكان مضرب المثل، وهو يؤخذ في مديح الأعشى لإياس:
جزى الله إياسا خير نعمة
كما جزى المرء نوحا بعدما شابا
في فلكه إذا تبدلها ليصفها
وظل يجمع ألواحا وأبوابا
وهو ما جاء أيضا في ضرب الراجز، رافضا عمرا كعمر نوح:
فعلت لو عمرت سن الحل
أو عمر نحو زمن الفطحل
والصخر مبتل كطين الوحل
Halaman tidak diketahui
صرت رهينة هرم أو قتل
وكان انتشار قصص التوراة في معارف الأمم يجد صداه في معارف ذلك العصر، فها هو «أمية بن أبي الصلت» يقدم حوارا شعريا بين موسى وهارون وبين فرعون، يقول فيه:
وأنت الذي من فضل ورحمة
بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له: اذهب وهارون فادعوا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له: أأنت سويت هذه بلا
وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له: أأنت رفعت هذه
بلا عمد، أرفق إذا بك بانيا
Halaman tidak diketahui
بل وعرف العرب قصة مريم وولدها، وسارت فيهم كقصة معلومة، وهو ما صاغه «أمية» شعرا بدوره، إضافة إلى ما جاءت به المسيحية عن يوم بعث ونشور، مضافا إليه ما سبق إليه المصريون من القول بحساب للموتى أمام موازين العدل في قاعة الحساب السماوية. فهذا شعر بقي عن «قس بن ساعدة» يقول:
يا ناعي الموت والأموات في جدث
عليهم من بقايا برعم خرق
دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم
فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا
حتى يعودوا لحال غير حالهم
خلقا جديدا كما من قبله خلقوا
فيهم عراة ومنهم في ثيابهم
منها الجديد ومنها المبهج الخلق
وهو الأمر الذي يوضحه شعر «زيد بن نفيل» وهو يصور أحوال الحساب ونتائجه في قوله:
Halaman tidak diketahui
ترى الأبرار دارهم جنان
وللكفار حامية السعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا
يلاقوا ما تضيق به الصدور
وهو ذات الأمر الذي فصل أمره «أمية الثقفي» في قوله:
باتت همومي تسري طوارقها
أكف عيني والدمع سابقها
مما أتاني من اليقين ولم
أوت برأة يقصى ناطقها
أم من تلظى عليه واقدة النار
Halaman tidak diketahui
محيط بها سرادقها؟
أم من أسكن الجنة التي وعد
الأبرار مصفوفة نمارقها؟
لا يستوي المنزلان ولا
الأعمال تستوي طرائقها
وفرقة منها أدخلت
النار فساءت مرافقها
أما «علاف بن شهاب التميمي» فيؤكد:
وعلمت أن الله يجازي عبده
يوم الحساب بأحسن الأعمال
Halaman tidak diketahui