لا يملك القارئ العادي وعيا مباشرا بمشكلة النص؛ لأن القارئ يتجاوب تجاوبا مباشرا مع العلامات الرمزية التي تحويها الصفحة تبعا لأنماط سلوك اكتسبها في سن مبكر. فالنص هو جزء من «عملية القراءة» وليس شيئا تتدبره. كما أن متعة القارئ لا تنشأ عن فهم العوامل التاريخية على هذا النحو، وإنما من التلاحق السريع للأحداث، والعمق الأخلاقي للصراع، وجمال التعبير، ومنطقية الحبكة. دعونا في هذا الفصل نتأمل الكيفية التي يتحكم بها هوميروس في تلك العناصر الأدبية. (1) القراء القدامى والمعاصرون
إن تجربة القارئ المعاصر مع «الإلياذة»، بأي لغة كانت، مختلفة تماما عما قد يكون اليوناني القديم قد عرفه. فنحن نمتلك القدرة على إتمام قراءة النص بأكمله في بضعة أيام ولإدراك تركيبه والقصة التي يرويها هوميروس إدراكا واضحا، وهو ما لم يكن من الممكن مطلقا أن يتحقق في العالم القديم. فالنصوص الأولى للقصائد الهوميرية لم يكن الغرض منها متعة القارئ، وإنما تقديم العون لأولئك الذين شرعوا في الإحاطة بأسرار الكتابة الأبجدية ليعيدوا تكوين نسخة سماعية من الصياغة الفعلية للشاعر واستظهارها. لا بد وأن النصوص الكاملة لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد - التي كانت مثار اهتمام هائل، وذات تكلفة باهظة لنسخها، وغير ملائمة للتخزين أو التشاور بشأنها - كانت بالغة الندرة ومن الصعب إيجادها. لهذا السبب كانت قصائد «دائرة الملاحم»، التي ظهرت لاحقا والتي كانت أقصر كثيرا، معروفة في العصر العتيق على نحو أفضل كثيرا من «الإلياذة» و«الأوديسة»؛ وذلك استنادا إلى التمثيلات الفنية للأساطير الإغريقية. ومن غير المتصور أن أحدا على الإطلاق، في القرون الثامن والسابع والسادس قبل الميلاد قد جلس و«قرأ» ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة» كما نقرؤها هذه الأيام.
كانت المرة الأولى التي قدمت فيها «الإلياذة» و«الأوديسة» أمام الجمهور في العالم القديم، بقدر ما نعلم، في مهرجان عموم أثينا في القرن السادس قبل الميلاد، عندما - بحسب
pseudo-Plato «المحاورات المنسوبة كذبا إلى أفلاطون» (انظر الفصل 1، قسم «لوح بيليرفونتيس: حجج فريدريش أوجست وولف») - كان مجموعة من الرابسوديين المتعاقبين يؤدون أجزاء منها، «رجل يعقب آخر كما لا يزالون يفعلون في زماننا هذا» (بسبب الطول المفرط للقصائد كان من غير الممكن أداؤها كاملة في هذا المهرجان). والدليل الوحيد الذي بين أيدينا على تمثيل فني أقدم للقصائد هو فيض الرسوم التي تصور سمل عين بوليفيموس في أوائل القرن السابع قبل الميلاد (انظر شكل
2-5 )، والتي تشير إلى أن جزءا مقتطفا من «الأوديسة» كان منتشرا انتشارا واسعا. وقد يكون اليوناني معرضا على نحو معتاد لمثل هذه المقتطفات في تعليمه، وهو الأمر الذي كان أساس مأخذ زينوفانيس في القرن السادس قبل الميلاد.
على النقيض، يمكننا في الوقت الحاضر أن نطالع القصائد باللغتين اليونانية أو الإنجليزية. ولو كانت المطالعة باللغة اليونانية، فإن القارئ، مهما كان متمرسا، سوف يتحير باستمرار إزاء الصيغ الغريبة والمفردات غير المعروفة، وهي الصعوبات التي من أجلها وجدت شروحات مستفيضة للقارئ المجد؛ فكل بضعة أبيات تحتوي على كلمة لن تتكرر ثانية أبدا. بل إن هوميروس نفسه، على ما يبدو، لم يكن يفهم دوما معنى كلماته وبعض تراكيبه النحوية، وإنما ينقل شيئا ورد إليه بأسلوب الصياغة الشفاهية. إن قراءة ملحمتي هوميروس باللغة اليونانية، حتى للمتمرسين، هو أمر بطيء وصامت.
عندما نقرأ باللغة الإنجليزية تمسح أعيننا الصفحة بسرعة في صمت، مستغلة فواصل الأبيات والكتابة بالأحرف الكبيرة وفواصل الكلمات وعلامات الترقيم لاستيعاب الطابع الشعري الذي وضعت قواعده لأجل الصفحة المطبوعة. إن تجربة كهذه يمكن أن تكون مشوقة، ولكنها ضئيلة الصلة بخبرة فرد من جمهور هوميروس المفعم بالحياة؛ حيث كان ثمة صلات وثيقة، أو بخبرة جمهور أحد رواة الملاحم (رابسودي)، حيث تكون براعة الممثل هي الأهم. (2) أسلوب هوميروس
يدهش الجميع لأسلوب هوميروس الغريب (على الرغم من أن المترجمين غالبا ما يخفونه)؛ فهو يتسم بالتكرار المفرط؛ إذ يتكرر بيت من كل ثمانية أبيات على الأقل مرة واحدة. والتكرار الحرفي للرسائل والتوجيهات الأخرى هو سمة ذات صلة وتعكس منشأ القصائد من ناحية كونها نصا مكتوبا عن طريق الإملاء الشفاهي. وثمة مثال واضح على ذلك في الكتاب الثاني من «الإلياذة»، عندما يجهز زيوس حلما ملفقا ليرسله إلى أجاممنون، ثم بعد ذلك يكرر إله الحلم توجيهات زيوس على أجاممنون بحذافيرها. ثم يقصه أجاممنون على الملوك الآخرين (الإلياذة، 2، 11-15 الذي يكافئه 2، 28-32 وكذلك 2، 65-69). وتظهر تكرارات مماثلة في أدب بلاد ما بين النهرين، على الرغم من أنها ليست نصوصا مكتوبة عن طريق الإملاء الشفاهي.
والأهم من كل ذلك النعوت المتكررة المتواترة التي حيرت ميلمان باري كثيرا:
ثم أجابه آخيل «ذو القدمين السريعتين» وقد اشتد غضبه: لقد خدعتني أيها «الإله الذي يعمل من بعيد»، و«أشد الآلهة قسوة ...» (الإلياذة، 22، 14-15)
Halaman tidak diketahui