لا، لم يتحطم كل شيء، فقط حدثت بعض التغييرات المتمثلة في بعض الشظايا والقذارة، وأصبحت نوافذ المتاجر فارغة تقريبا ومليئة بالغبار حتى إنه لا يمكنك النظر خلالها. وفي شارع جانبي، ثمة حفرة ضخمة خلفتها القنابل ومجموعة من المباني المحترقة التي بدت كالسن المجوفة. لا بد أن ذلك بفعل مركب الثرميت. كل شيء هادئ هدوءا غريبا، والجميع شديدو النحافة. تأتي فصيلة من الجنود مسرعة، جميعهم في نحافة جرافة العشب، ويجرون أقدامهم. وللقائد شارب لولبي، ويقف كمدك البندقية، ولكنه نحيف أيضا ويسعل بشدة على نحو يكاد يمزق أحشاءه. ويتخلل سعاله محاولاته للصياح في الجنود بذلك الأسلوب القديم الذي يستخدمونه في ساحات تدريب الجنود؛ «أنت يا جونز! ارفع رأسك! علام تنظر في الأرض؟ كل أعقاب السجائر قد التقطت منذ سنوات.» وفجأة تداهمه نوبة من السعال يحاول إيقافها، لكنه لا يستطيع، فينحني بشدة لأسفل ويكاد يلفظ أحشاءه، ثم يتحول وجهه إلى اللون الوردي والأرجواني، ويرتخي شاربه، وتدمع عيناه.
يمكنني سماع دوي صفارات إنذار الغارات الجوية وأصوات مكبرات الصوت تصدح عاليا بأن قواتنا المجيدة قد احتجزت مائة ألف أسير. وأرى مؤخرة غرفة في دور علوي في برمنجهام حيث يبكي صبي عمره خمس سنوات ويصرخ طالبا قطعة خبز، وأمه لم تعد يمكنها التحمل، فتصيح فيه فجأة قائلة: «اخرس أيها الوغد الصغير!» ثم تخلعه ثوبه وتضربه بشدة على مؤخرته؛ لأنه ليس ثمة أي خبز ولن يكون. أرى كل ذلك. أرى الملصقات والطوابير على الطعام وزيت الخروع والهراوات المطاطية والمدافع الرشاشة التي تطلق النيران بغزارة من نوافذ غرف النوم.
هل سيحدث ذلك؟ لا أحد يعلم. في بعض الأيام يستحيل تصديق أن هذا سيحدث. وفي أيام أخرى أقول لنفسي إنه خوف نابع مما نقرؤه في الصحف. وفي أيام أخرى أعلم حتى النخاع أن الأمر آت لا محالة.
عندما وصلت بالقرب من تقاطع تشارينج كروس، كان الأولاد ينادون على طبعة تالية من الصحف المسائية؛ حيث المزيد من الهراء حول الجريمة. «الساقان: بيان جراح شهير.» ثم جذب انتباهي عنوان آخر: «تأجيل حفل زفاف الملك زوجو» الملك زوجو! اسم عجيب! يكاد يكون من المستحيل أن تصدق أن رجلا باسم كهذا ليس زنجيا شديد السواد كالفحم.
ولكن في هذه اللحظة حدث شيء غريب؛ فاسم الملك زوجو - الذي أظن أنه اختلط بصوت ما في حركة المرور أو رائحة روث الخيول أو شيء من هذا القبيل؛ لأنني رأيته عدة مرات ذلك اليوم - قد أيقظ شيئا في ذاكرتي.
إن الماضي لشيء غريب. إنه يرافقك باستمرار. أعتقد أنه لا تمر ساعة على الإطلاق دون أن تفكر في أشياء حدثت منذ عشر سنين أو عشرين سنة، وعلى الرغم من ذلك فهي معظم الوقت لا وجود لها؛ فهي مجرد مجموعة من الحقائق التي تعلمناها كغيرها من العديد من الأشياء في كتب التاريخ. ثم يأتي منظر أو صوت أو رائحة بالصدفة، وخاصة الرائحة، لتحفز ذكرياتك؛ ولا يأتي الماضي لك فحسب، بل تصبح فعليا في الماضي. كان هذا ما حدث لي في هذه اللحظة.
وجدت نفسي في الكنيسة الرعوية ببلدة لوير بينفيلد، وقد عدت ثمانية وثلاثين عاما إلى الوراء. بالحديث عن المظهر الخارجي، أعتقد أنني كنت لا أزال أسير في شارع إستراند وأنا بدين وفي الخامسة والأربعين من عمري وبطقم أسنان وقبعة مستديرة، ولكن في داخلي كنت جورج بولينج البالغ من العمر سبع سنوات، وأحد الأبناء الصغار لصامويل بولينج، تاجر الذرة والحبوب القاطن في 57 هاي إستريت بلوير بينفيلد. كنا في صباح يوم الأحد، ويمكنني أن أشم رائحة الكنيسة. كيف يمكنني أن أشم رائحتها؟! تعلم الرائحة التي تكون في الكنائس، تلك الرائحة الخاصة المألوفة التي تنم عن أن المكان به رطوبة شديدة وأتربة وتعفن. وثمة نفحة من شحم الشموع، وربما دخان بخور، ورائحة بعض الفئران؛ وفي صباح يوم الأحد تمتزج بتلك الرائحة قليلا رائحة الصابون الأصفر وصوف الملابس، ولكن الرائحة السائدة هي رائحة الأتربة والعفن المألوفة، التي تشبه رائحة الموت والحياة ممتزجين معا. إنها كرائحة غبار الجثث في الواقع.
في تلك الأيام كان طولي حوالي أربع أقدام. وكنت أقف على وسادة الركوع كي أتمكن من الرؤية عبر المقاعد الخشبية أمامي، وكان يمكنني الشعور بملمس رداء أمي الأسود المصنوع من الصوف في يدي. وكنت أشعر كذلك بجوربي المرفوع فوق ركبتي - فقد كنا نرتديها بهذا الشكل في تلك الأيام - وحافة الياقة العريضة البيضاء التي كانوا يأزرونني بها في صباح يوم الأحد. يمكنني كذلك سماع أزيز آلة الأرغن وصوتين قويين يصدعان بالمزامير؛ ففي كنيستنا كان ثمة رجلان يقودان الغناء، وفي الواقع كانا يغطيان على الآخرين فلا يسمع لأحد غيرهما صوت. كان أحدهما يدعى شوتير، وكان سماكا، وكان الآخر العجوز ويثرال، وكان نجارا وحانوتيا. وكانا قد اعتادا الجلوس كل منهما أمام الآخر على كلا جانبي صحن الكنيسة على المقعدين الخشبيين الأقرب للمنبر. كان شوتير رجلا قصيرا وبدينا بوجه أملس شديد الحمرة وأنف كبير وشارب متدل ولحية تبعد كثيرا عن فمه. أما ويثرال فقد كان مختلفا تماما؛ فقد كان شيطانا عجوزا في نحو الستين من عمره، نحيفا وطويلا وقويا، وذا وجه كالجمجمة وشعر رمادي متيبس يبلغ طوله نصف بوصة في جميع أنحاء رأسه. لم أر قط رجلا على قيد الحياة يبدو تماما كالهيكل العظمي مثله؛ إذ يمكنك رؤية كل خط في الجمجمة في وجهه، كما أن جلده كان كالرق، وكان فكه الكبير الأشبه بالمصباح مليئا بالأسنان الصفراء التي تصعد وتهبط كفك هيكل عظمي في أحد متاحف التشريح. ولكن مع كل هذا الضعف بدا قويا كالحديد؛ كما لو أنه سيعيش مائة عام وسيصنع توابيت كل فرد في تلك الكنيسة قبل أن يموت. كان صوتاهما مختلفين كذلك؛ فقد كان في صوت شوتير نوع من الصخب اليائس والمعذب، كشخص في عنقه سكين يصرخ بآخر كلماته طلبا للمساعدة. أما ويثرال فقد كان ذا صوت كضوضاء قصف الرعد المروعة والمضطربة المتولدة من أعماقه، كصوت دحرجة براميل ضخمة ذهابا وإيابا تحت الأرض. وعلى الرغم من مقدار الضوضاء التي يصدرها، تعلم دائما أن لديه المزيد منها الذي لم يصدره بعد. أطلق عليه الأطفال اسم رامبيل تامي (أي قرقرة البطن).
وقد اعتادا الترتيل كما لو أن كلا منهما يرد على الآخر، وخاصة عند تلاوة المزامير، وكان ويثرال من ينطق دائما بالجزء الأخير. أعتقد حقا أنهما كانا صديقين في حياتهما الخاصة، ولكن عندما كنت طفلا كنت أتخيلهما عدوين لدودين يحاول كل منهما إخراس الآخر. عندما كان يصيح شوتير: «الرب راعي»، كان ويثرال يرد: «فلا يعوزني شيء» فيغطي بصوته عليه تماما. كان يمكنك دائما معرفة القائد من بينهما. اعتدت أن أنتظر بشغف على وجه خاص المزمور الذي يتحدث عن سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان (وهذا ما ذكرني به اسم الملك زوجو). كان شوتير يستهل الترنيم قائلا: سيحون ملك الأموريين
Sihon king of the Amorites ، ثم لنصف ثانية تقريبا كنت تسمع باقي المصلين يتغنون بكلمة و
Halaman tidak diketahui