وقبل أن أمنع نفسي من النظر إليهما، لمحت عيناي الفتاة. لم يكن من اللطيف أن ينظر إليها رجل بدين مثلي في منتصف العمر بوجهه الأحمر بينما تتلقى السباب. صرفت وجهي بأسرع ما تمكنت وتظاهرت بالاهتمام بالأشياء الموضوعة على طاولة البيع المجاورة؛ حلقات الستائر أو غيرها من الأشياء. انتبه لها مرة أخرى، وقد كان أحد هؤلاء الذين ينصرفون ثم يعودون إليك فجأة مندفعين كاليعسوب.
وقال لها: «بالطبع لم تحسبيها جيدا! فلا يهمك إن خسرنا شلنين. لا يهمك على الإطلاق. ما قيمة الشلنين بالنسبة لك؟ إنك لا تكلفين نفسك عناء حسابها جيدا. أيتها الغبية! لا يهمك سوى مصلحتك. لا تفكرين في الآخرين، أليس كذلك؟»
استمر هذا الصراخ لمدة خمس دقائق تقريبا بصوت يصل إلى منتصف المتجر. وتابع الانصراف عنها ليجعلها تظن أنه انتهى من توبيخها، ثم العودة إليها فجأة مندفعا ليخوض جولة تعنيف أخرى. وأثناء ابتعادي شيئا فشيئا قليلا ألقيت نظرة خاطفة عليهما. كانت الفتاة صغيرة في الثامنة عشرة من عمرها تقريبا، ممتلئة قليلا بوجه غير مبال بعض الشيء، من ذلك النوع الذي لا يحسن حساب الباقي بأي حال. تحول لونها إلى الوردي الباهت وكانت تتلوى، في الواقع كانت تتلوى من الألم؛ فقد كان الأمر تماما كما لو أنه كان يمزقها بالسوط. وكانت الفتيات عند طاولات البيع الأخرى يتظاهرن بعدم سماع شيء. كان شيطانا ضئيل الحجم قوي البنية قبيحا، من ذلك النوع المشاكس من الرجال الذين يفردون صدورهم ويضعون أيديهم أسفل أطراف معاطفهم؛ ذلك النوع الذي يصلح أن يكون في رتبة رقيب أول، ولكنه ليس طويلا بما يكفي. هل تلاحظون كثرة الرجال الضئيلي البنية في الأعمال القائمة على التنمر؟ كان ملتصقا بها بوجهه وشاربه وجميع جسمه تقريبا؛ كي يصرخ في وجهها مباشرة، بينما الفتاة بالكامل تتورد خجلا وتتلوى.
وأخيرا، قرر أنه قد قال ما فيه الكفاية، وانصرف مختالا كأميرال على سطح مؤخرة سفينة، واقتربت من طاولة البيع لأشتري الشفرات. لقد علم أنني سمعت كل كلمة، كما علمت هي كذلك، وكلاهما كان يعلم أنني أعلم أنهما يعلمان. ولكن الأسوأ في الأمر أنه لمصلحتي عليها أن تتظاهر بأن شيئا لم يحدث وتتصرف بذلك السلوك المتحفظ من الحفاظ على المساحة بيننا، التي يجب على البائعات أن يحافظن عليها بينهن وبين الزبائن من الرجال. كان عليها تمثيل دور الشابة الناضجة لنصف دقيقة بعد أن رأيتها تسب كالخادمات. كان وجهها لا يزال متوردا وكانت يداها ترتجفان. طلبت منها شفرات رخيصة وبدأت تبحث عنها في صينية الشفرات التي بقيمة ثلاثة بنسات. ثم استدار الشيطان الضئيل مدير الفرع نحونا، وللحظة ظن كلانا أنه كان قادما ليعيد الكرة. جفلت الفتاة ككلب رأى سوطا، ولكنها كانت تنظر إلي بطرف عينيها. يمكنني أن أرى أنها كانت تكرهني كرهها للشيطان لأنني قد رأيتها وهي تسب. يا له من أمر غريب!
انصرفت ومعي شفرات الحلاقة. وأخذت أسال نفسي: لماذا يتحملن ذلك؟ إنه الخوف بالتأكيد؛ فإن نبسن ببنت شفة ردا على الإهانة، فسيطردن. وكذلك الأمر في كل مكان. فكرت في أمر الشاب الذي يخدمني في بعض الأحيان في متجر البقالة الذي نتعامل معه والذي ينتمي لسلسلة متاجر تحمل نفس الاسم. إنه فتى ضخم للغاية في عمر العشرين، بوجنتين كالوردتين وساعدين ضخمين؛ ومن الأرجح أن يعمل في الحدادة. وها هو في سترته البيضاء منحنيا على طاولة البيع فاركا يديه ومرددا: «نعم سيدي! صحيح جدا يا سيدي! طقس لطيف بالنسبة لهذا الوقت من العام يا سيدي! كيف يمكنني أن أتشرف بمساعدتك اليوم يا سيدي؟» وهو في الواقع يطلب منك أن تهينه، وأن تعطيه الأوامر بالطبع، والزبون دائما على حق. الشيء الذي يمكنك أن تراه على وجهه هو الفزع المميت من أن تبلغ عن أنه غير صبور ومن ثم يطرد من عمله. إلى جانب ذلك، كيف له أن يعرف أنك لست أحد الجواسيس الذين ترسلهم الشركة لمراقبة سير العمل؟ الخوف! نحن نسبح فيه. إنه العنصر الأساسي للحياة التي نعيشها؛ فكل من لا يرعبه فقدان عمله يرتعب من الحرب أو الفاشية أو الشيوعية أو من شيء ما. يتصبب اليهود عرقا عندما يتذكرون هتلر. خطر في ذهني أن ذلك الوغد الضئيل ذا الشارب الشائك ربما كان في ذلك المشهد اللعين أكثر خوفا على عمله مما كانت الفتاة؛ فلربما كانت لديه عائلة يعولها، وربما هو في المنزل، رجل حليم ولطيف يزرع الخيار في حديقته الخلفية، ويدع زوجته تجلس على حجره وأولاده يشدون شاربه، من يعلم. وعلى المنوال نفسه قد لا تكون قد سمعت عن قاض في محاكم التفتيش الإسبانية أو أحد من كبار المسئولين في الشرطة السرية للاتحاد السوفييتي دون أن تسمع أنه في حياته الخاصة كان رجلا جيدا وطيبا، وزوجا وأبا صالحا، ويرعى طائر الكناري الأليف الذي يربيه، وما إلى ذلك.
كانت الفتاة الواقفة إلى طاولة بيع الصابون تنظر إلي وأنا أخرج من الباب، وكادت لتقتلني إن كان باستطاعتها. عجبا، لقد كرهتني بشدة لأنني رأيتها! كرهتني أكثر مما كرهت مديرها.
3
كانت ثمة طائرة قاذفة للقنابل تطير على ارتفاع منخفض فوق القطار الذي كنت أركب فيه. ولمدة دقيقة أو دقيقتين بدت متزامنة في حركتها مع القطار. وكان يجلس أمامي رجلان سوقيان يرتديان معطفين رثين، وكان من الواضح أنهما مروجان من نوع متدن؛ فلربما كانا مروجي جرائد. كان أحدهما يقرأ صحيفة «ديلي ميل»، والآخر كان يقرأ صحيفة «ديلي إكسبريس». ويمكنني أن أستشف من سلوكهما أنهما يظناني مثلهما. أما في الجهة الأخرى من العربة ، فقد كان يجلس كاتبا محام بحقيبتين سوداوين ويتبادلان أطراف حديث مليء بالهراء القانوني الذي يعنى به إبهارنا وإعلان أنهما لا ينتميان للقطيع من العامة.
كنت أشاهد الأجزاء الخلفية للمنازل التي نمر عليها. وكان القطار بعد غرب بلتشلي يمر أغلب الوقت على أحياء فقيرة، ولكن ثمة شعورا بالسلام يأتيك من النظر إلى الساحات الخلفية الصغيرة ببعض الأزهار الموجودة في صناديق والأسطح المستوية؛ حيث تنشر النساء الملابس وأقفاص الطيور المعلقة على الجدران. تمايلت الطائرة القاذفة للقنابل السوداء الكبيرة قليلا، وارتفعت في الهواء حتى إنني لم أعد أستطيع رؤيتها. كنت أجلس وظهري إلى المحرك. وكان أحد المروجين الجالسين أمامي قد نظر إلى الطائرة بانتباه لمدة ثانية واحدة فقط. أعلم ما كان يفكر فيه؛ لأنه كان ما يفكر فيه أي أحد. لا يتطلب الأمر أن تكون رفيع الثقافة كي تفكر في هذه الأمور في أيامنا هذه. في غضون سنتين أو سنة، ما الذي سيكون علينا فعله عندما نرى مثل هذه الأشياء؟ هل سنختبئ في السراديب ونبلل سراويلنا من الخوف؟
وضع المروج صحيفة «ديلي ميل» خاصته، وقال: «لقد تحدد الفائز بسباق تيمبلجيت.»
Halaman tidak diketahui