كنت أقود السيارة عبر ويسترهام وكنت في طريقي إلى بودلي. وكنت في مهمة لتقييم متجر أدوات معدنية، ثم لمقابلة صاحبه، فقط إذا استطعت مقابلته، الذي كان مترددا في القيام بالتأمين على الحياة. كان أحد وكلائنا المحليين قد أرسل اسمه، ولكن في اللحظة الأخيرة ارتعب وبدأ يشك فيما إذا كان بإمكانه تحمل النفقات. أنا جيد جدا في التحدث مع الناس، فهذه من صفات البدناء؛ إذ تضع الناس أمامك في مزاج من البهجة، وتجعلهم يشعرون أن إمضاء شيك أمر ممتع. بالطبع كانت هناك طرق مختلفة للتعامل مع مختلف الأشخاص؛ فمع بعض العملاء يكون من الأفضل التركيز على المزايا، ومع آخرين يمكنك استخدام الترويع بطريقة ماكرة بالتلميح لما قد يحدث لزوجاتهم إن ماتوا وهم غير مؤمن عليهم.
انطلقت السيارة القديمة بشكل متعرج طوال طريق التلال الصغيرة المتعرجة. يا إلهي، يا له من يوم! تعلم مثل تلك الأيام التي تكون عادة في شهر مارس، حيث يبدو فجأة أن الشتاء قد توقف عن المقاومة. في الأيام الماضية، كنا في ذلك الطقس الموحش الذي يطلق عليه الناس الطقس «الساطع»، حيث السماء باللون الأزرق البارد والرياح التي تحتك بك كشفرة الحلاقة الكليلة؛ وفجأة، توقفت الرياح وأخذت الشمس فرصتها. تعرف هذا النوع من الأيام، حيث أشعة الشمس الصفراء الباهتة، وأوراق الشجر الساكنة، ونفحة من الضباب على مسافة بعيدة حيث يمكنك أن ترى الخراف المتناثرة على جوانب التلال كقطع الطباشير. وأسفل الوادي، ترى النيران المتقدة، والدخان الذي يتلوى ببطء لأعلى ويذوب في الضباب. كان الطريق لي وحدي، وكان الجو شديد الدفء لدرجة تجعلك تكاد تخلع ملابسك.
وصلت إلى بقعة كان فيها العشب المجاور للطريق مختنقا بسبب أزهار الربيع. ولربما كانت رقعة من التربة الطينية. وبعد ذلك بعشرين ياردة، أبطأت ثم توقفت؛ فقد كان الطقس شديد الجمال ولم أكن أريد أن أفوت الاستمتاع به. شعرت أنه كان علي أن أخرج من السيارة وأشم هواء الربيع، وربما حتى أقطف بعضا من أزهار الربيع إن لم يكن أحد في الطريق. بل قد واتتني فكرة غريبة، وهي أن أجلب باقة منها معي إلى المنزل لهيلدا.
أطفأت المحرك وخرجت من السيارة؛ فلا أحب أبدا أن أترك السيارة القديمة تدور دون سير؛ لأنني دائم الخوف من أن تنخلع الرفارف أو شيء من هذا القبيل. إنها سيارة من طراز عام 1927، وقد قطعت أميالا طويلة نسبيا. عندما ترفع غطاء المحرك وتنظر داخل السيارة، يذكرك ذلك بالإمبراطورية النمساوية القديمة؛ حيث كل شيء مترابط معا بأسلاك، ولكنها بطريقة أو بأخرى تظل تعمل بشكل جيد رغم كل شيء. لن تصدق أن أي آلة يمكنها أن تهتز في عدة اتجاهات في الوقت نفسه كما تفعل هذه السيارة. إن حركتها تشبه حركة الأرض، حيث تهتز باثنتين وعشرين حركة مختلفة، أو هكذا أتذكر أنني قرأت. وإذا نظرت إليها من الخلف ومحركها دائر دون أن تتحرك، فستجدها تشبه تماما فتاة من هاواي تؤدي رقصة الهولا هولا.
كانت ثمة بوابة بخمسة قضبان في جانب الطريق. تمشيت إليها واتكأت عليها. ولم يكن هناك شخص على مرمى البصر. أرجعت قبعتي للوراء قليلا للاستمتاع بذلك الشعور المنعش للهواء وهو يخترق جبهتي. كان العشب أسفل السياج مليئا بأزهار الربيع. وداخل البوابة مباشرة كان متشرد أو ما شابه قد ترك بقايا نيران، وكانت هناك كومة صغيرة من الجمرات البيضاء، وخيط رفيع من الدخان لا يزال يخرج منها. بعيدا عن ذلك، كانت ثمة بركة صغيرة مغطاة بالطحالب. وكان الحقل مزروعا بقمح شتوي، ومنحدرا لأعلى بشدة، ثم تجد جرفا من الطباشير وأيكة زان صغيرة. وكانت الأوراق اليافعة على الأشجار كالضباب. وكان الصمت المطبق في كل مكان. ولم يكن حتى ثمة ما يكفي من الرياح لتحريك رماد النار. وكان ثمة طائر قنبرة يغني في مكان ما، بخلاف ذلك لم تكن تسمع شيئا، ولا حتى صوت طائرة.
بقيت هناك قليلا، متكئا على البوابة. كنت وحدي، وحدي تماما. وكنت أنظر إلى الحقل، وكان الحقل ينظر إلي. شعرت، ترى هل ستفهمني؟!
ما شعرت به كان أمرا غير معتاد في هذه الأيام لدرجة أنه يبدو سخيفا. شعرت بأنني سعيد! شعرت أنه على الرغم من أنني لن أعيش إلى الأبد، فسأكون مستعدا تماما لذلك. إن أردت يمكنك القول إن ذلك لم يكن سوى لأننا كنا في أول أيام الربيع؛ فمواسم العام تؤثر على الغدد الجنسية أو شيء من هذا القبيل. ولكن الأمر كان قد فاق ذلك، فمن الغريب أن الشيء الذي أقنعني فجأة بأن الحياة تستحق أن نعيشها، أكثر من أزهار الربيع أو البراعم الصغيرة على السياج ، كان بقايا النار تلك الموجودة بجوار البوابة. لعلك تعرف شكل نار الخشب في يوم بلا رياح، حيث العصي التي استحالت بأكملها رمادا أبيض ولا تزال محتفظة بشكل العصي، وأسفل الرماد كان اللون الأحمر الزاهي الذي يمكنك أن تتبينه. من الغريب أن تبدو الجمرات الحمراء بهذه الحيوية، ما يعطيك شعورا بالحياة أكثر من أي كائن حي. ثمة شيء فيها، نوع من القوة، اهتزاز - لا يمكنني التفكير في كلمة تعبر عنها بدقة - ولكنها تجعلك تعلم أنك حي أنت الآخر. إنها البقعة في الصورة التي تجعلك تلاحظ كل ما عداها.
انحنيت لألتقط زهرة من زهرات الربيع، ولكن لم أستطع الوصول إليها بسبب بطني الكبير. جثمت على وركي والتقطت مجموعة صغيرة منها. من حسن حظي أنه لم يكن هناك أحد ليراني. كانت الأوراق مجعدة بعض الشيء وتشبه آذان الأرانب. وقفت ووضعت باقة الزهور في عضادة البوابة، ثم أخرجت طقم أسناني باندفاع من فمي ونظرت إليه.
لو كان معي مرآة، لنظرت إلى شكلي كله، رغم أني في الحقيقة أعرف ما أنا عليه بالفعل؛ رجل بدين في الخامسة والأربعين، يرتدي بذلة رمادية بخطوط متعرجة في حالة سيئة بعض الشيء وقبعة مستديرة، ولدي زوجة وطفلان، وأعيش في منزل في الضواحي - كل ذلك يبدو جليا علي - وذو وجه أحمر وعينين زرقاوين مهتاجتين. أعلم كل ذلك، فلا أحتاج أن تقوله لي؛ ولكن ما فاجأني، وأنا أخلع طقم أسناني في اللمحة السريعة التي ألقيتها عليه قبل أن أعيده إلى فمي، هو أن ليس ثمة شيء مهم. حتى طقم الأسنان لا يهم. أنا بدين، أجل. وأبدو كالأخ الفاشل لوكيل المراهنات، أجل. لن تنام معي امرأة مرة أخرى إلا إذا دفعت لها. أعلم كل ذلك. ولكني أقول لك إن كل ذلك لا يهمني. لا أريد امرأة، ولا أريد حتى أن أرجع صغيرا مرة أخرى. كل ما أريده هو أن أعيش. وها أنا عشت في تلك اللحظة عندما وقفت أنظر إلى أزهار الربيع والجمرات الحمراء أسفل السياج. إنه شعور بداخلك، نوع من الشعور بالسكينة، وفي الوقت نفسه هو كاللهيب.
بعيدا عن السياج كانت البركة مغطاة بالطحالب، التي كانت كالسجاد حتى إنك إن لم تكن تعرف الطحالب لاعتقدت أنها أرض صلبة ولوطئت عليها بقدميك. أتساءل لم نحن جميعا حمقى لعناء؟ لم لا يتنزه الناس متأملين الأشياء بدلا من الحماقات التي يقضون فيها أوقاتهم؟ تلك البركة مثلا. وكل الأشياء التي فيها: السمندل، وحلزون الماء، وخنافس الماء، وذبابة القمص، والعلق، وغيرها من الأشياء التي لا حصر لها التي لا يمكنك رؤيتها إلا بالميكروسكوب. وكذلك لغز الحياة فيها، أسفل الماء. يمكنك قضاء حياتك في مشاهدتها، بل يمكنك قضاء عشر حيوات، ولن تصل حتى إلى آخر تلك البركة. وطوال ذلك الوقت ستشعر بالانبهار، وبذلك اللهيب الفريد بداخلك. إنه الشيء الوحيد الذي يستحق أنه تحظى به، ولكننا لا نريده.
Halaman tidak diketahui