فهز رأسه في ارتياب وعاد يسأل: وهل يرسلونهم حقا إلى الجبهة؟ قلبي يحدثني بغير ذلك! - لا تصدق قلبك يا عشماوي.
وعكف على النارجيلة. وقال لنفسه: إن جلسة الليلة خسرت هدوءها العتيد، وإن الحزن فيها امتزج بالضحك، وإن الهزيمة مرة وعواقبها تنتقل من مركز إلى مركز في المخ، ولكنها لن تمحى، وإن جبلا شامخا انهار، وتبدد حلم عجيب، وإن خير ما يريح به نفسه أن يترك الأمانة لحامليها. وساءل نفسه وهو ينفث الدخان من فيه وأنفه أين يجد مكانا لا يتردد فيه ذكر الحرب؟!
9
جمعت الشرفة المطلة على النيل الصديقات الثلاث: عليات عبده وسنية أنور ومنى زهران. وكان الخريف يبث في الجو برودة لطيفة، ويزين سماء الأصيل بسحب ناصعة البياض. وقد لبت عليات وسنية دعوة عاجلة إلى مسكن منى بالمنيل، فتوقعتا أخبارا جديدة وسعيدة. وهن صديقات حميمات منذ الدراسة الثانوية، وتمتاز منى بجمال رائق يتمثل في بشرتها الضاربة للبياض وعينيها السوداوين الجذابتين، وقامتها الرشيقة المائلة للطول، كما تمتاز بأسرتها المتوسطة ذات الدخل الموفور - الأب مدير إدارة قانونية، والأم ناظرة مدرسة متقاعدة باختيارها - فضلا عن أنها موظفة بالسياحة منذ عام. وكان لها شقيقان أحدهما مهندس في بعثة بالاتحاد السوفيتي، والآخر طبيب بالمنوفية، ويتوقع اختياره في بعثة قريبة، ولذلك كانت طموحة تداعبها الأحلام ولا تستقر. وكان مسكن منى يذكر عليات وسنية بمسكن الأستاذ حسني حجازي، رغم الفارق المحسوس بينهما، ولكن الحسد لم يتسلل إلى نفسيهما بفضل العلاقة الحميمة الحارة. وقد توقعتا أخبارا جديدة وسعيدة، ولكن منى قالت باقتضاب مثير: فسخت خطوبتي قبل أن تعلن!
انزعجت الفتاتان حقا، وقالت عليات: غير معقول!
وقالت سنية: أي خبر!
وكانت منى قد قدمت لهما - منذ شهر - في دار الشاي الهندي شابا يدعى سالم علي، قاض بمجلس الدولة، باعتباره الصديق والخطيب المنتظر، ولذلك توقعتا من وراء الدعوة العاجلة أخبارا جديدة سعيدة لا هذا الخبر الأسيف. وقالت سنية وهي تهز رأسها هزة ذات معنى: وطبعا كنت أنت البادئة؟!
فقالت منى بتحد: ظنك صادق دائما معي! - ولكنه شاب جذاب وذو مركز يا منى؟
وقالت عليات: وكان واضحا أنه يحبك، وأنك تبادلينه الحب.
عند ذلك تململت من الضيق، وربما من عاطفة لم تستطع بعد أن تقتلعها من أعماقها، فثبت لهما أنها إنما دعتهما لحاجتها إلى الأنس والعزاء، ولكنها قالت بنبرة لم تخل من حدة: عرفت عن يقين أنه يقوم بتحريات عني!
Halaman tidak diketahui