ربما كان؛ لأنها لم تسمع صوت النسوة، كانت مغمضة العينين، غائبة فيما يشبه الإغماء، ثم بدأت أصوات النسوة تدنو منها، مجرد أصوات بلا أجسام، أسندت رأسها فوق حافة البركة، كأنما تهم أن تأخذ شربة ماء، أو تقذف الغصة من حلقها، سمعت صوتها يخرج من جوفها كأنما تتقيأ، تخفف صدرها من الألم وبدأت الأضواء تظهر، كان الطابور يتحرك من بعيد فوق الخط الفاصل بين السماء والأرض، أشباح سوداء فوق رءوسهن البراميل، يقتربن منها والملامح تزداد وضوحا. - ماذا تفعلين هنا يا أختي؟
رأت المرأة واقفة أمامها تحت عباءة سوداء لا يظهر منها شيء. - أنا؟ - نعم أنت؟ من غيرك؟ - أنا باحثة في علم الحفريات.
دوت ضحكة واحدة تبعتها ضحكات خافتة مكتومة. - ألم تحبلي يا أختي؟
لطمت الكلمة وجهها مثل الصفعة، تحبلي؟ أيكون ذلك هو سبب احتجازها هنا؟ كانت قد أضربت عن الحبل منذ ماتت أمها وهي تلدها، لم تكن تعرف ما جدوى الحبل، كل النساء يحبلن. - هل ينقلب العالم إذا كفت امرأة واحدة عن الحبل؟! - أيتها الحمقاء!
تجردت فجأة من الظلمة، ظهر ضوء من بعيد، حملقت ناحية المرأة، ثم انحنت جالسة فوق الأرض، تحت إليتها عثرت على شيء صلب، كان هو الإزميل، رأسه ملفوف بحزام الحقيبة، مشدود حول عنقه كحبل المشنقة. - من منا الحمقاء؟
لم يكن هناك صوت، مجرد غمغمة كالصمت، أو ذرات سابحة في الجو، واصلت الحديث وهي تضرب رأس الإزميل في الأرض. - أنا حمقاء؟! ألا يشغلك إلا الحبل؟! وأنا ماذا يشغلني؟! أجل، أنا باحثة، باحثة عن ماذا؟ أجل أبحث عن أشياء لا تعرفينها، «نمو» إلهة المياه الأولى، وإنانا الإلهة الأم، وسخمت. - سخماط؟ - أليس هذا دليل جهلك؟ خير لك أن تنصرفي عني وتحملي برميلك إلى الشركة، ستظل النسوة على حالهن إلى يوم القيامة، أليس هناك من يقاوم النفط؟ ألم تفكري أبدا في التضامن؟ فكري في الأمر، لن تلومي إلا نفسك إذا دفنت في هذه البركة، سوف يسيطر النفط على كل شيء، ويشق طريقه إلى كل مكان، ماذا حدث؟ لماذا لا تنطقين؟!
بدلا من أن ترد المرأة اختفت على نحو بدا طبيعيا، استدارت دون أن تخلف وراءها صوتا، ولا أي أثر لقدميها على الأرض. - أتهربين دون كلمة واحدة؟!
صرخت بصوت عال متخاذل غير مسموع على الإطلاق، كفت عن الحركة وأعادت الإزميل إلى الحقيبة، لسانها بدأ يحتك بسقف حلقها، صوت الاحتكاك في أذنيها مسموع، لمحت الزجاجة فجأة فوق الرف، كانت جافة تماما، رفعتها إلى فمها تهزها عدة مرات، لم تسقط قطرة واحدة، انخرطت في نشيج بلا صوت، بلا دموع بلا حزن، أو أي شيء، لم تحس شيئا على الإطلاق، كانت امرأة أخرى تلك التي تنشج وليست هي.
التصقت بالأرض تتظاهر بالموت، تتكور حول نفسها أملا في النجاة، حركت عينيها قليلا ناحية الباب، كان الرجل واقفا على العتبة منكوش الشعر، هل كان يتنصت عليها؟ تركت دموعها تهبط قبل أن تضيع الفرصة، لم يكن البكاء مجديا، تحركت شفتاها بما يشبه التردد، ربما كانت الابتسامة أفضل، لم تشعر بوخز الضمير، يمكنها أن تبتسم في وجهه رغم كل شيء، لولا الإعياء الشديد، ونوع من التنميل كالشلل يسري في شفتيها.
كان وجهه للحائط وظهره ناحيتها، بدت الابتسامة غير ضرورية، كان البرميل ساخنا بفعل الشمس، وأنفاسها تتقطع مثل بقرة تحتضر، لوت عنقها إلى الناحية الأخرى للتخفيف من الثقل، فتحت عينيها لحظة في مواجهة الشمس، ثم أغلقتها على الفور بإحكام شديد.
Halaman tidak diketahui