كان الرجل منشغلا بالتطلع إلى الطريق، ظهرت بشائر الموكب الكبير، صف من حملة الطبول يدقون النشيد الوطني، سرب من الدراجات البخارية، والألعاب النارية، موظفو البلاط داخل سيارات سوداء طويلة، من خلفهم الصحفيون، دبابة ضخمة يطل منها صاحب الجلالة يلوح بيديه كأنما للجماهير، إلى جواره رئيس الشركة يرفع القبعة علامة التحية.
كان الطريق خاليا أمامها وهي تسير حين لسعتها العصا الخيزران فوق ردفيها. - انحني بسرعة!
لم تكن تعرف بعد كيف تؤدي التحية، انحنت إلى الأمام وثنت جذعها إلى الخلف، أصبحت مثل جمل يبرك، بدأ الرجل يعلمها الأنشودة، ترددت نغمة صوتية هادئة شبه موسيقية، مع كل مقطع يجفف عرقه بكم جلبابه. - أهي أنشودة وطنية؟ - نعم، فنحن هنا نتبع المبدأ: أنا أحب وطني. - أهو وطنك؟ - أمي دفنت هنا، وحيث تدفن الأم يكون الوطن.
قال: «الوطن» وأطرق إلى الأرض، جعل جفونه تنسدل فوق عينه كأنما يخفي الدموع، لم يكن يذكر أمه إلا حين يتهدده الموت، بين يديه ورقة صغيرة مختومة بوجه صاحب الجلالة، والاستدعاء الفوري.
رقدت مفتوحة العينين ترهف السمع، أحست به يدخل إلى جوارها في الفراش، أعطى وجهه للحائط، مدت ذراعها وربتت على عنقه من الخلف. - لا تذهب، فليس لك إلا مقبرة أمك. - من لا يذهب يقتل. - ومن يذهب يقتل. - لا مفر من الموت. - إذن نموت بإرادتنا.
قالتها بلا صوت وهي تخرج من الفراش، علقت حقيبتها فوق كتفها وأمسكت الإزميل، سارت بخطوة سريعة تطبق عينيها في مواجهة العاصفة، قدماها تغوصان في المياه السوداء حتى الركبتين، بدت الحركة مستحيلة، توقفت تشق بعينيها الظلمة وأذناها مرهفتان، كانت الأصوات خافتة أول الأمر، مثل حفيف الهواء أو هفهفة الجلاليب، تأتي من أسفل المنحدر حيث بيوت القرية، وتعلو بالتدريج، تشبه إيقاع الدفوف ودقات الطبل، رأت امرأة تدور حول نفسها فوق قدم واحدة، من حولها النسوة على شكل دائرة، نافشات شعورهن، أسنانهن تصطك، باسطات أذرعهن، يخبطن الأرض بأقدامهن، يدرن حول أنفسهن مع دورة الأرض، ينشدن في نفس واحد: «يا ستنا الطاهرة. خففي عنا الأثقال.»
المرأة في الوسط طويلة، رأسها مربوط بمنديل أسود، تشبه خالتها، تدب الأرض بقدميها، ترفع عينيها إلى السماء كأنما تناجي الإلهة الأم، ينتفض جسمها مع كل دورة، تزداد حركتها سرعة وخفة، وفي قمة الانتفاضة الأخيرة يخف جسمها كأنما يتلاشى، يتوقف الزمن ويدب الصمت، ثم تشع الحركة من جديد، تفيض نحو المحيط، وأجساد النسوة تنتفض. - يا ستنا الطاهرة. نجينا من الطوفان.
كأنما هي أنشودة قديمة كانت تغنيها البنات في المدرسة، انفرجت شفتاها وبدأت تهمس بالأغنية، لكن الكلمات تجمدت فوق شفتيها، وانشقت الظلمة عن كشافات الضوء، أغمضت عينيها ولم تسمع إلا نباح كلاب، وعجلات من حديد تدق الأرض، اختفت النسوة يخفين شعورهن تحت المناديل السوداء، لم تبق إلا المرأة الطويلة التي كانت في الوسط، حوطها الرجال وحملوها إلى العربة، صرخة واحدة ثم دب الصمت.
لم تعرف كيف عادت إلى الدار، جفونها كانت ملتصقة، تدعك زواياها بطرف أصبعها، ترى الذرات السوداء كالضباب، ومن حولها يتدفق الشلال، الرائحة النفاذة في أنفها تعيدها إلى الواقع، كل شيء يبدو كالحلم، الحركة الوحيدة المؤكدة هي حركة النفط، حركة غريبة كأنما هي النقيض لأي حركة أخرى.
كان الرجل قد عاد من الحرب بذراع واحدة، في الصباح خرج يملأ البراميل، ذراعه حين تدفعها تبدو رفيعة ناحلة، كأنما فقدت نصف وزنها، تهتز تحت الريح، ترتفع وتهبط في حركة لا نهائية، كمن ينزح الماء من البحر. - عبث! عبث!
Halaman tidak diketahui