وقد عرف كثيرا من النساء، أو بالحري عرفته نساء كثيرات. ولا يستطيع من ينظر إلى صورة برنارد شو في شبابه أن يقول إنه كان جميلا، ولكنه على الأقل كان غريبا، يغري بغرابته، ويجذب بشذوذه؛ شاب أصهب اللحية، يتجنب اللحوم والخمور والشاي والقهوة والدخان، إذا تحدث امتلأ حديثه بفقاقيع النكات المؤلمة، وأحيانا المحزنة، وهو فوق ذلك اشتراكي، يقف في صف المعارضة الاجتماعية للدولة والمجتمع والأخلاق، وينتقد بحرارة تخفف من وقعها الفكاهة. وكان هو نفسه دائبا في نشر اسمه وإذاعة صيته حتى لم يكن يمر أسبوع دون أن تتحدث عنه إحدى الصحف، مادحة أو قادحة. وانتشر له صيت بأنه ذكي، ينطق بالكلمات التي تؤثر وتروى.
ومما يروى أن الراقصة «إيزادورا دونكان» عرضت عليه عرضا فاجرا، بقولها إنها أجمل النساء، وإنه هو أذكى الرجال، وأنها لو أنجبت منه طفلا، لجمع بين جمالها وذكائه، فرفض برنارد شو العرض، وقال إنه يخشى أن يخرج الولد وقد جمع عقلها هي إلى جسمه هو!
وحياة برنارد شو حافلة بالأدب الكفاحي، الذي ينأى عن البرج العاجي. وهو لم يعش قط محايدا، يتجنب الأحزاب أو يكره الانغماس في المشكلات؛ ولذا كانت جميع دراماته مشكلات اجتماعية، تخلو أحيانا من الحب، الذي هو الموضوع الرئيسي للقصة أو الدراما، أو هي تضع الحب أحيانا كثيرة في المكان الثاني، أما المكان الأول فللمشكلة الاجتماعية أو الفلسفية أو السياسية.
ويجب أن نستنتج من هذا أن حياة برنارد شو نفسه كانت مليئة بالكفاح الاجتماعي والسياسي والفلسفي، وأن التفاته إلى الحب كان عابرا، يطفو على السطح، ولا يتعمق حياته، وكان ينشد به السرور لا السعادة؛ لأن سعادته كانت ولا تزال في كفاحه لتغيير المجتمع البشري. وقد أفلتت منه كلمة في إحدى دراماته، دلت على موقفه من الحب، حين قال: إن البشر يتعلقون أحيانا، ولكنهم يسلكون سلوك الحمير حين يحبون.
ويذكر برنارد شو أنه بقي إلى الثلاثين تقريبا وهو بكر كالفتاة العذراء، إلى أن تعرف إلى أرملة، أو تعرفت هي إليه، فكان بينهما حب بقي سنين كثيرة لم تشبه سوى علاقته - في نفس الوقت - بامرأة أخرى؛ إذ شبت بين المرأتين غيرة جنونية، كانت تحمله على المصالحة بينهما، أو على الملق في إيثار إحداهما وقت غيبة الأخرى. وواضح أنه في هذا «الحب» كان يسلك سلوك الحمير الذي ذكره في إحدى دراماته!
على أننا هنا يجب أن نفهم أن «سلوك الحمير» هذا، لم يكن ينطوي على إسراف، فلم تتأجج فيه شهوة، أو يستمر فيه شوق؛ فإنه في تلك السنين كان قد شرع في اتخاذ النظام النباتي في طعامه، وشهوات الإنسان «تتكيف» بطعامه إلى حد بعيد. وقد أومأ فرانك هاريس في ترجمته لبرنارد شو إلى أنه كان ناقصا من الناحية الجنسية، وكاد يقول إن التزامه للطعام النباتي هو علة ذلك. وقد أنكر برنارد شو في صراحته المألوفة هذه الشبهة. والواقع أنه ليس هناك ما يدل عليها بتاتا، وإن كان هناك بالطبع ظن بأن انغماس هذا الأديب الكبير في المشكلات الأدبية، ووقوفه منها على المستوى العالي في التبعات الاجتماعية والفلسفية، قد خفف عنده من هذه الحدة الجنسية التي تكون عند نظرائه من الناس. أما تجنبه اللحم والخمر، فيأتي بعد ذلك في تخفيف حدته الجنسية.
وقد عرف برنارد شو ثلاثا من النساء ارتفع بينه وبينهن الحب إلى درجة سامية؛ إذ كان ينطوي على كثير من الألم والتضحية، وما نصطلح على تسميته أحيانا بالروحية. وقد كان «لاروشفر كول» يقول إن هناك كثيرا من الناس، ما كانوا ليعرفوا الحب لولا أنهم قرءوا أو سمعوا عن قصصه. ومعنى هذا الحب أن الحب «يتكيف» بثقافتنا، وأن لكل منا طريقة في معالجته أو معاناته، هي ثمرة الثقافة التي حصلنا عليها من بيئتنا الاجتماعية، ومن آدابنا الموروثة؛ ولذلك يجب أن نجزم بأن هناك فرقا عظيما، بين الشاب الذي لم يقرأ من قصص الحب سوى ما جاء في كتاب «ألف ليلة وليلة» وبين شاب آخر قد قرأ «أبيلار وهيلوئيز»؛ فإن ما يستنبطه أحدهما من معاني الحب ولذاته، تختلف اختلافا جوهريا عما يستنبطه الآخر. ولكل منهما أسلوبه في الحب تبعا لهذا الاختلاف.
وأحس برنارد شو لوعة الحب الأولى حين عرف آنسة تدعى ماي موريس، وكان أبوها اشتراكيا من طراز تولستوي، ينزع إلى الاشتراكية؛ لأنه يجد فيها المجال للفنون الجميلة والرحمة بالفقراء. وكانت ماي تختلط بالاشتراكيين الفابيين، الذين كان برنارد شو يعد زعيمهم. وكان يزور منزل والدها ويستمتع بالحدث إليها. وكانت مديدة هيفاء، تحسن لقاء برنارد شو ولكنها كانت تجهل ما يكنه نحوها من حب غامر، يلجم لسانه، ويربك حركته، عندما يلتقي بها. وكان في ذلك الوقت فقيرا، يكاد يكون محروما من الكسب. وكان موريس ميسور الحال، فلم يجرؤ برنارد شو على أن يطلب يد ابنته، ولكنه لم ينكر على نفسه زيارتها، على أننا مع ذلك لا نحس أنها قد التفتت إليه أكثر مما كانت تقتضيها مجاملة الضيافة. وهو يروي عن نفسه أنه ذات مرة كان يهم بالخروج من منزل أبيها، فبرزت إليه في أناقة، وودعته في رقة وحنان، حتى أحس أنه تمت بينهما الخطبة «في السماء». وفي هذا التعبير ما يدل على أنه هام بها هياما عظيما، ولكن هيامه كان مكتوما في نفسه!
وذات يوم عرف أنها خطبت إلى أديب اشتراكي يدعى سبارلنج، ثم تزوجته، واستكان إلى حظه، وتقبل هذا الحرمان من حبيبته التي كان يعدها خطيبته «في السماء». ولكن حدث بعد ذلك أن هذين العروسين اللذين سكنا في دار نائية، دعوا برنارد شو إلى زيارتهما، فزارهما على براءة وأمانة، وبقي معهما أسابيع، والجميع هانئون، من دون أدنى دليل على خيانة أو مخالفة زوجية. ولكن الناقد لا يشك في أن ماي موريس قد وجدت في برنارد شو من روعة العبقرية والعظمة ما جعلها تفكر، وتقارن بينه وبين هذا الزوج الأليف؛ لأنه ما كاد برنارد شو يتركهما، حتى وجد الزوج أن زوجته قد استحالت إلى حجر مثلج لا يتحرك، كأن كل عواطفها قد جمدت. وغشي البيت جو من المرارة، يكاد كل من الزوجين يطعم علقمه، حتى لم يجدا مندوحة عن الفراق!
ولم يتهم الزوج برنارد شو بإغراء زوجته، ولكنه قال إن زيارته كانت سبب هذا الفراق. وبقيت ماي بعد ذلك في عزبتها حتى ماتت.
Halaman tidak diketahui