وكان قيصر شجاعا جريئا، فلا يدع أن يعرف قيمة الشجاعة والجرأة في غيره، فأحبها وأقرها على عرش مصر دون أخيها، وحكمت البلاد منذ تلك الساعة ونحو ست سنوات حكم العدل والحكمة. ثم مات قيصر في رومية مقتولا، متهما بالطموح إلى الاستبداد وإلغاء الجمهورية، وكانت كليوبطرة قد ولدت له ولدا سماه قيصرون.
وظهر في العالم الروماني عقب موت قيصر رجلان اقتسما هذا العالم بينهما؛ أولهما: أوكتافيوس الذي استولى على الجزء الغربي منه، وثانيهما: أنطونيوس الذي استولى على الجزء الشرقي.
وأخذت كليوبطرة تحسب وتقدر أيهما أفضل، لكي تنضم إليه وتستعين بقوته، فبقيت في ترجيح وتردد حتى توجس منها أنطونيوس فاستدعاها، وكان في ذلك الوقت ضاربا خيامه في كيليكة وجيوشه تحوطه، وكان أنطونيوس يمت بصلة الرحم إلى يوليوس قيصر نفسه، وكان شجاعا من هواة الجندية، وقد قضى بعض شبابه في لذاذات الشباب وسرف الفتوة، فأنفق نحو مائة ألف جنيه على الخمور والنساء وما إليهما، ولكنه كان عندما يجد الجد وتعلن الحرب يصير من مساعيرها، يقاتل فيها ويدبر لعدوه المكايد ويصمد له حتى يفوز.
ولم تكن ثم مندوحة لكليوبطرة من أن تلبي دعوته، فألفت أسطولا صغيرا وسارت إلى كيليكية عبر البحر الأبيض المتوسط حتى بلغتها وصعدت إلى نهر كيدنوس حيث كان أنطونيوس وجيوشه. وكانت سفينتها غاية في الزينة، وقد توسطتها في أفخر لباسها، ووقف جواريها سامطين أمامها في أبهى الحلل وأجمل الزينات. ولما وقفت سفينتها وجه إليها أنطونيوس يدعوها إلى العشاء، فأرسلت هي إليه تدعوه إلى السفينة.
وكانت الوليمة المعدة لأنطونيوس قد هيئت بضروب من الألوان الشرقية والغربية، وصفت على المائدة أكواب الشراب، وأضيئت آلاف الشموع تحترق فتخرج منها أنفاس الطيب، وتعبق فوقها سحابات من دخان العطور المختلفة. وجاء أنطونيوس من خيامه، وكان قد مضى عليه زمن وهو يعيش عيشة المعسكرات، بما فيها من شظف وخشونة، فرأى في الفراش الوثير، والطعام اللذيذ، والشراب الفاخر، والجمال الفتان، ما سحر لبه، وأسر قلبه وقيده إليها.
ولم تكن كليوبطرة قد أحبت قبلا؛ لأن علاقتها بيوليوس قيصر كانت قائمة على المصلحة لا على العشق، أما الآن، فقد وجدت في أنطونيوس شخصا فتيا، يلبي شهواتها ويعشقها، لا يبرحها طوال ليله ونهاره، فعشقته وعلقته. وربما كان يشوب هذا العشق شيء من مراعاة المصلحة من كلا الجانبين، ولكن ليس شك في أنهما أخلصا الحب، وتصافيا كئوسه حتى الممات.
وبقي كلاهما معا نحو عشر سنوات لم يفترقا إلا مرة واحدة، حين ذهب أنطونيوس في حملة في إحدى جهات آسيا. وقد ذكر بلوتارخ أن أنطونيوس قال مرة: إن التمليق أربعة أنواع، أما كليوبطرة فعندها منه ألف نوع. وهذا وحده يدل على سحر حديثها.
قال بلوتارخ:
كانت كليوبطرة على استعداد دائم لأن تسر أنطونيوس وتمتعه سواء أكان في حال الجد أم في حال اللهو. وكانت تلازمه ليل نهار، تلاعبه النرد، وتشرب معه، وتخرج معه إلى الصيد تقتنص معه، وإذا كان وقت المران على القتال وقفت أمامه تعجب به وتصفق له.
ثم حدث النزاع بين أكتافيوس وأنطونيوس، أيهما يسود العالم. وقد كان أكتافيوس يضمر السوء لأنطونيوس، ويتربص به الدوائر؛ لأن أنطونيوس كان متزوجا أخت أكتافيوس، وكان قد هجرها عندما علق كليوبطرة. وتهيأ كلا الفريقين للقتال، وأعد كل منهما أسطولا، والتقيا في أكتيوم. وكانت كليوبطرة تصحب أنطونيوس؛ إذ لم يكن يقدر على فراقها. ودار القتال برهة، ظنت فيها كليوبطرة أن أسطول عشيقها قد انهزم، فأمرت ربانها بالفرار. ولم تكن الهزيمة قد تأكدت ولكن قلب المرأة يساوره الهلع في ساعة الشدة ، التي لم يخلق لها إلا الرجال. ورأى أنطونيوس سفينة كليوبطرة تولي الإدبار، فجن جنونه واستطير، وأمر أسطوله أن يدركها، وهنا بانت الهزيمة الأولى.
Halaman tidak diketahui