وعلى أية حال فإن تنزيه الحواس والعواطف بالشهوات لا يعد من الخير في شيء، لأنها مدنسة للمرء ولا خير في المدنس، كما أن الرضوخ للشهوة جنون محض، ومقاومتها جنون ميئوس.
ومما لا جدال فيه أن الإنسان أسير الشهوات ما دام حيا، بيد أن شهواته تختلف باختلاف سنه، فشهوة اللعب عند الطفل، وشهوة الحب عند الشاب، وشهوة الطمع عند رجل الأربعين، وشهوة السلطة عند شيخ الستين، جميعها شهوات تعرض صاحبها للهفوات واقتراف الخطايا. ومتى وقع فيها أحدنا يجب عليه ألا يترك نفسه إلى تصرفها ولا يستصعب الخلاص منها ولا ييئس من نفسه، بل عليه أن يقاومها كما يقاوم المريض علته، عليه أن يوجه إرادته إلى مصارعتها والتغلب عليها. عليه أن يحول فكره عن الأمس الذي كان فيه قبيحا وينظر إلى غده الذي يكون فيه جميلا.
والشهوة في نظر شكسبير تموت كما يموت البطين. وهي عند «بولو يرليتون» انهيار يتعرض له القلب. أي نسمة بسيطة منها تستطيع أن تجرده من راحته.
ويفسر «براوننج» الحب بأنه الشهوة الجامحة فيقول: «أيها الحب! أنت نصف ملاك، أنت نصف طائر، أنت العجب كله، أنت الشهوة الجامحة.»
ويشبه بلزاك الشهوة بالربيع والشباب؛ اعتقادا منه بأهميتها وقوتها فيقول: «لو كان أمر الكون بيد من يعترضون على التمتع بملذات الحياة، لألفوا الربيع من السنة والشباب من العمر.»
ويفرق شكسبير بين الشهوة والحب. فالحب في نظره شمس من بعد أمطار، أما الشهوة فعاصفة من بعد شمس. الحب يظل ربيعه يافعا على الدوام، أما شتاء الشهوة فتأتي قبل انتهاء نصف الصيف.
ويحدثنا أفلاطون عن الشهوة، وله فيها آراء جديرة بالذكر. فالنفس عنده مكونة من ثلاثة أجزاء؛ الشهوة وتشمل سائر الرغبات، وجميع الانفعالات الدنيئة ثم شهوة الغضب التي تؤدي إلى الشجاعة، وتستقر بين الحس والفكر، ثم العقل. ولكل جزء من النفس جزء في الجسم يقابله؛ فالشهوة مكانها في أسفل البطن، والشجاعة في الصدر، والعقل في الرأس.
بيد أن أفلاطون لا ينفك يشبه لنا النفس بعجلة يجرها جوادان، أحدهما أسود جموح، دائما على استعداد للثورة، والآخر أبيض كريم يهدي رفيقه إذا حسنت قيادته، ولكنه يجمح معه إن لم تحسن قيادته يد قوية يقظة. فالجواد الأسود العاصي هو الشهوة، والأبيض الكريم هو الشجاعة، والقائد هو العقل. فينبغي للعقل أن ينتفع بالشجاعة، ويستعين بها على الشهوة.
ويعتقد أفلاطون أن الفضيلة المقابلة للشهوة هي الاعتدال، وأن الذي يخدم في حداثته الشهوة يشق عليه في زمن الشيخوخة ما يلحقه من ضعف بدنه عن خدمة اللذة، وأن الذي يخدم في حداثته النفس الفكرية، وما دلت عليه من المعارف، يشق عليه زمان الشبيبة، ويجاهد القوى الباعثة له على اللذات، فيستريح في وقت الشيخوخة.
فالشهوة هي التي تحرك الإنسان في كل سبيل. إنها أقرب إلينا من الرأي؛ لأننا مع الشهوة منذ ولادتنا. وطاعة النفس للشهوة الجسدية مثل تخلية الفارس لفرسه إذا عجز عن ضبطه، فالشهوة في هذا العالم أجرة للخدمة، ولولاها ما أكل الناس ولا نكحوا؛ لأنه لو كان لا ينكح إلا من طلب الولد، ولا يأكل إلا المشتاق إلى البقاء بغير لذة، لما فعل هذا أكثر الناس. فالغضب والشهوة وكل خلق من أخلاق النفس له مقدار يصلح فيه حال الشخص الذي يكون فيه، فإذا زاد على ذلك أخرجه إلى الشر؛ لأن الشهوة تشبه الملح الذي يوضع في الأطعمة، فإن كان بقدر مناسب أصلح الطعام وإن زاد أفسده وكذلك سائر القوى، وفي ذلك يقول الماوردي: «كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.»
Halaman tidak diketahui