هي أوسع من الزمان، وهي أوسع من المكان، وهي أوسع من هذه الجهود المادية التي يبذلها الناس في الزمان والمكان، هي تسع حب الزوج وحب الولد، ولكن الزمان لا يستطيع أن يسعهما في حيز واحد، أو نحن لا نستطيع أن نؤدي حقوق الزوج ، ولا حقوق الولد معا، في لحظة واحدة وفي حيز واحد وفي جهد واحد.
فنحن إذا فرغنا للصبي وعنينا به صرفنا عن الزوج، ونحن إذا فرغنا للزوج وعنينا به صرفنا عن الولد. والرجال أثرون لا يحتملون التقصير، ولا يصبرون على التفريط، وهم بعد هذا قلقون لا يرضون عن شيء، ولا يطمئنون إلى شيء، وهم بعد هذا وذاك جشعون ليس لهم حظ من قناعة، فمهما نعطهم فنحن دون ما يطلبون.
وكذلك أخذت من الوقت الذي كنت أفرغ فيه لزوجي ما منحته للصبي، ولم يضق زوجي بذلك في ظاهر الأمر ولا خفيه، وإنما رآه حقا وملائما لطبيعة الأشياء، وملائما كذلك لما كان يملأ قلبه من حب الصبي، ولكنه على كل حال قد وجد من الوقت فراغا لم أكن أشغله، ووجد حرية لم يكن يجدها، واستطاع أن يخلو إلى نفسه وأن يتصرف في وقته، وأن يشغل بغيري حين كنت أنا أشغل بالصبي، وكذلك هيئت له أسباب لم تكن مهيأة له من قبل، وكذلك أحس فراغا فأراد أن يملأه، وكذلك انتهت به الحياة شيئا فشيئا إلى ما لم يكن يريد، وإلى ما لم أكن أقدر أنه سينتهي إليه.
وكانت لورانس إلفا لنا قد رفع بينها وبيننا الحجاب، وزالت بينها وبيننا الكلفة، تزورنا في كل وقت ونزورها في كل لحظة، ونلتقي على العلات لا نضرب للقاء موعدا ولا نهيئ له أسبابا. كانت فارغة مثرية، وكانت جميلة رائعة الجمال. ردت الحرب إليها زوجها مريضا قد أثقلته العلة، وقامت على تمريضه والعناية به جادة في ذلك كل الجد، مخلصة له كل الإخلاص.
ولكن العلة كانت أقوى من جدها، وأنفذ من إخلاصها؛ فقضى ذلك الشاب المسكين شهيدا من شهداء الحرب، وما أكثر هؤلاء الشهداء الذين عادوا إلى أوطانهم يحملون الموت في ناحية من حياتهم، يجاهدونه ويجاهدهم! فقليل منهم يطول به الجهاد فيحيا حياة قد استأثر الموت بأعظمها، وكثير منهم يصرعون فيفارقون هذه الدنيا وفي نفوسهم من الآلام والحسرات ما لا سبيل إلى وصفه؛ آلام الأمل الذي ينقطع وقد كان خليقا أن يتصل، وآلام الرجاء الذي ينبت وقد كان حريا أن يدوم، وحسرات الشهيد الذي كان خليقا أن يتجرع لذة الشهادة وشرفها في ميدان القتال، فإذا هو يموت في فراشه، حزينا كئيبا بعد أن صارع الموت ألف مرة ومرة.
وقد احتملت لورنس خطبها جلدة، وصبرت عليه عزيزة النفس عميقة الحزن، وصرفت عن الحياة ولذاتها أعواما، ولكن في شيء مؤثر حقا من الاحتفاظ بالكرامة، والاعتداد بالنفس، وادخار الحزن لخلوتها حين لا ترى أحدا، ولا يراها أحد. وكنا نجد ذلك منها، فنعجب به ونعجب له، ونرفق بها أشد الرفق، ونكبرها أعظم الإكبار، ونصرف ما نبذل من جهد لنصرفها عن هذه الخلوة التي كان الحزن ينتظرها فيها، ومن هنا كثر اتصالنا بها واشتد اتصالها بنا. فقلما كان يمضي يوم لا أراها فيه مصبحة وممسية، وقلما كنا نخرج لرياضة لا تشاركنا فيها. كانت ثالثتنا إن خرجنا منفردين، وكانت واحدة منا إن خرجنا في جمع من الأصحاب والأصدقاء.
وما خطر لي قط وما خطر لها وما خطر لمكسيم أن هذا الصفو الجميل يمكن أن تشوبه شائبة، أو تعدو عليه عادية، ويكدره خاطر سوء. ومع ذلك فقد كان جمالها خليقا أن يفتن ويروع. ولكنها كانت واثقة بنفسها، مشغولة بحزنها لا تتعزى عنه إلا في ظاهر الأمر، وكان مكسيم واثقا بنفسه مشغولا بحبه وأعماله منصرفا إليهما عن كل شيء وعن كل إنسان. وكنت أنا مطمئنة إلى الصداقة والحب، حتى تكشفت لي الأيام عما تكشفت عنه، وإذا الحياة كلها غرور، وإذا الضعف الإنساني أقوى من كل عاطفة، إن صح أن يوصف الضعف بالقوة، فهو الذي يسيطر على حياتنا ويدبر أمورنا ويسخرنا لغرائزنا ويصرفنا كما تريد لا كما نريد.
ولا بد من أن أصدقك الحديث، أيها الصديق العزيز، ومن أن أصور لك الأمر كما كان، ومن أن أشهد بين يديك بأن صديقتنا لورنس قد وفت لنفسها، ووفت لزوجها الشهيد، ووفت لحزنها المتصل ولصديقها الوفية. فلم تشارك في إثم ولم تغر به، ولم تدع إليه، وإنما اضطرت إلى المقاومة، وإلى المقاومة الطويلة المتصلة، وكانت البائسة تجاهد الحزن والثكل، فاضطرت إلى أن تجاهد هذا الحب الذي طرأ عليها فأفسد أمرها ونغص حياتها تنغيصا. لا ألوم أحدا ولا أتجنى على أحد؛ فإن أمور الحب لا تخضع للإرادة ولا يستطيع العقل أن ينظمها ويدبرها، وإنما هي خطوب تطرأ فيستجيب لها من يستجيب، ويعنو لها من يعنو، ويمتنع عليها من يمتنع. ويختلف ذلك باختلاف طبائع الناس وحظوظهم من القوة والضعف، ومن الشدة على نفوسهم واللين لها.
وما أرتاب في أن مكسيم قد كان طاهر القلب صافي النفس فيما كان بينه وبين صديقتنا من صلة أول الأمر، ولكن إعجابنا وعطفنا عليها قد أخذا - فيما أظن - يتحولان قليلا قليلا في نفسه إلى شيء من الحنان، كان يجد راحة إليه وكان يمعن فيه شيئا فشيئا. وقد كان ارتفاع الحجاب وزوال الكلفة وما كنا فيه من حياة بسيطة يسيرة طلقة، خليقا أن يضاعف هذا الحنان، وأن ينحرف به شيئا عن طريقه الأولى إلى طريق أخرى.
وما أرتاب في أن مكسيم قد أنكر ذلك حين أحسه وقد جد في مقاومته، ولكن غرائز نفسه كانت أقوى من عقله، وظروف الحياة كانت أدعى له إلى الضعف وأحرى أن تورطه فيه. فهأنا هذه أصرف عن زوجي بعض الشيء بالحمل وأعراضه، ثم بمقدم الصبي وتنشيئه، والزيارات بيننا وبين لورنس متصلة تسعى إلينا إذا لم نسع إليها. وما أكثر ما حال ثقل الحمل وعنايتي بالصبي بيني وبين الخروج للرياضة! وما أكثر ما كنت ألح على زوجي وصديقي في أن يخرجا منفردين، ومع الأصحاب والأصدقاء! وما أكثر ما كانت تزورنا لورنس، فأصرف عنها إلى بعض شأني، أو يضطرني المرض إلى الانفراد في غرفتي، ويتاح لها من لقاء مكسيم والحديث إليه منفردا ما لم يكن يتاح لها من قبل!
Halaman tidak diketahui