كيفية دعوة أهل الكتاب إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة
كيفية دعوة أهل الكتاب إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة
Penerbit
مطبعة سفير
Lokasi Penerbit
الرياض
Genre-genre
سلسلة مؤلفات سعيد بن علي بن وهف القحطاني
كيفية دعوة أهل الكتاب إلى اللَّه تعالى
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى اللَّه تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
Halaman tidak diketahui
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في «كيفية دعوة أهل الكتاب إلى اللَّه تعالى» بيّنت فيها الطرق المُثلَى في كيفية دعوتهم بالأساليب والوسائل المناسبة على حسب ما تقتضيه الحكمة في دعوته إلى اللَّه تعالى.
واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركًا، نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر ضحى يوم الخميس ٢٥/ ٢/١٤٢٥هـ
1 / 3
تمهيد:
إن من حكمة القول في دعوة أهل الكتاب إلى اللَّه - تعالى - أن يُجَادَلُوا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولُطْفٍ ولين كلام، ودعوة إلى الحق، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل لابد أن يكون القصد بيان الحق، وهداية الخلق، كما قال ﷿ (١)، ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (٢)، وقال ﷿: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (٣).
ونظير ذلك من الدعوة بالقول الحكيم قوله ﷿ لموسى وهارون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (٤).
_________
(١) انظر: تفسير ابن كثير، ١/ ٣٧٢، ٣/ ٤١٦، وفتح القدير للشوكاني، ١/ ٣٤٨، والسعدي، ١/ ٣٨٩، ٦/ ٩٢، وأضواء البيان، ٣/ ٣٨٥.
(٢) سورة العنكبوت، الآية: ٤٦.
(٣) سورة آل عمران، الآية: ٦٤.
(٤) سورة طه، الآيتان: ٤٣ - ٤٤.
1 / 4
ومن ذلك القول اللين كقوله تعالى لموسى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ (١).
وقد كان النبي ﷺ يستخدم القول الحكيم في دعوته إلى اللَّه ﷿ ومن ذلك ما روته عائشة ﵂ قالت: دخل رهط من اليهود على رسول اللَّه ﷺ فقالوا: السَّامُ (٢) عليك. قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السَّامُ واللعنة! قالت: فقال رسول اللَّه ﷺ: «مهلًا يا عائشة، إن اللَّه يحب الرّفق في الأمر كله». فقلت: يا رسول اللَّه! أولم تسمع ما قالوا: قال رسول اللَّه ﷺ: «قد قلت: وعليكم» (٣).
وكان ﷺ يستخدم ذلك حتى في رسائله، ففي كتابه إلى هرقل:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول اللَّه، إلى هرقل عظيم الروم.
سلام على من اتبع الهدى. أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك اللَّه
_________
(١) سورة النازعات، الآيات: ١٧ - ١٩.
(٢) السام: الموت، وقيل: الموت العاجل، وقيل: تسأمون دينكم. انظر: الفتح، ١١/ ٤٢، ٤٣، ١٠/ ١٣٥.
(٣) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، ١٠/ ٤٤٩، (رقم ٦٠٢٤)، ١١/ ٤٢، ومسلم كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف الرد عليهم، ٤/ ١٧٠٦، (رقم ٢١٦٥).
1 / 5
أجرك مرتين، فإن توليتَ فإن عليك إثم الأريسيين (١)، و﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ إلى قوله: ﴿اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (٢).
وعلى أساس دعوة أهل الكتاب بالجدال بالتي هي أحسن القول الحكيم، فسأتحدث عن ذلك بإذن اللَّه - تعالى - في المباحث الآتية:
المبحث الأول: حكمة القول مع اليهود
المبحث الثاني: حكمة القول مع النصارى.
المبحث الثالث: البراهين على إثبات الرسالة المحمدية وعمومها.
المبحث الأول: حكمة القول مع اليهود
من حكمة القول مع اليهود في دعوتهم إلى اللَّه ﷿ أن يسلك معهم الداعية المسلم المسالك الآتية:
المسلك الأول: الأدلة العقلية والنقلية على نسخ الإسلام لجميع الشرائع.
_________
(١) الأريسيين: أي إثم الفلاحين، والمعنى: فإن لم تدخل في الإسلام فإن عليك إثمك وإثمهم إذا لم يسلموا تقليدًا لك. انظر: فتح الباري، ١/ ٣٩.
(٢) البخاري مع الفتح واللفظ له، كتاب التفسير، باب: قل يا أهل الكتاب ...، ٨/ ٢١٥، (رقم ٤٥٥٣)، وكتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، ١/ ٣٢، (رقم ٧)، ومسلم في كتاب الجهاد، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، ٣/ ١٣٩٦، (رقم ١٧٧٣).
1 / 6
المسلك الثاني: الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة.
المسلك الثالث: إثبات اعتراف المنصفين من علماء اليهود.
المسلك الرابع: الأدلة على ثبات رسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
المسلك الأول: الأدلة العقلية والنقلية على نسخ (١) الإسلام لجميع الشرائع:
دعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - إلى توحيد اللَّه تعالى دعوة واحدة، فقد اتفقوا جميعًا على دعوة الناس إلى إفراد اللَّه بالعبادة، لا إله إلا هو، ولا ربّ سواهُ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ (٢)، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ﴾ (٣).
فأصل دين الأنبياء صلى اللَّه عليهم وسلم واحد، وهو التوحيد، وإن اختلفت فروع الشرائع (٤)، ولهذا قال ﷺ: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات (٥)،
_________
(١) النسخ في اللغة: الإزالة، وفي الاصطلاح: رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه. انظر: تفسير ابن كثير، ١/ ١٥٠، ومناهل العرفان، ٢/ ٧١.
(٢) سورة النحل، الآية: ٣٦.
(٣) سورة الأنبياء، الآية: ٢٥.
(٤) انظر: فتح الباري، ٦/ ٤٨٩.
(٥) أولاد العلات: الإخوة من أب وأمهاتهم شتى. (الضرائر). فتح الباري، ٦/ ٤٨٩.
1 / 7
أمهاتهم شتى ودينهم واحد، [وليس بيني وبين عيسى نبي]» (١).
ثم ختم اللَّه - تعالى - الشرائع كلها بشريعة محمد ﷺ، فأرسله اللَّه إلى جميع الثقلين: من إنس وجن، ونسخت شريعته جميع الشرائع السابقة، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (٢).
وقال ﷺ: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي أو نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (٣).
واللَّه - تعالى - حكيم عليم ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (٤)، ولا غرابة في أن يرفع شرع بآخر مراعاة لمصلحة العباد عن علم سابق من علام الغيوب ﵎، ولكن اليهود والنصارى (٥) أنكروا نسخ الشريعة الإسلامية لجميع الشرائع
_________
(١) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب قول الله - تعالى- ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ...﴾، ٦/ ٤٧٧ (رقم ٣٤٤٢)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى ﷺ، ٤/ ١٨٣٧، (رقم ٢٣٦٥)، وما بين المعقوفين من البخاري، ٦/ ٤٧٨، ومسلم، ٤/ ١٨٣٧.
(٢) سورة آل عمران، الآية: ٨٥.
(٣) مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، ١/ ١٣٤، (رقم ١٥٣).
(٤) سورة الأنبياء، الآية: ٢٣.
(٥) لتداخل أقوال النصارى مع اليهود في النسخ، فسأذكر الرد عليهم جميعًا في هذا المسلك - إن شاء الله تعالى -.
1 / 8
السابقة (١)، فيكون الرد عليهم بالقول الحكيم كالآتي:
أولًا: الأدلة العقلية:
١ - ليس هنالك محظور في النسخ عقلًا، وكل ما لم يترتب عليه محظور كان جائزًا عقلًا، فالنسخ جائز عقلًا.
٢ - اللَّه - تعالى - يأمر بالشيء على قدر ما تقتضيه المصلحة، فقد يأمر بالشيء في وقت، وينهى عنه في وقت آخر؛ لأنه - سبحانه - أعلم بمصالح عباده، والطبيب الحكيم يأمر المريض بشرب الدواء، أو استعمال دواء خاص في بعض الأزمنة، وينهاه عنه في زمن آخر، بسبب اختلاف مصلحته عند اختلاف مزاجه، والملك الذي يُشفق على رعيته ينقلهم في بعض الأزمنة إلى نوع من السياسة غير النوع الأول، لما في ذلك من المصالح، وقد يسوس الوالد الحكيم ولده في وقت باللطف، وفي وقت آخر بالتأديب،
_________
(١) ثم افترق اليهود والنصارى إلى ثلاث طوائف:
(أ) طائفة الشمعونية من اليهود، قالوا: النسخ ممتنع عقلًا وسمعًا، وعلى هذا القول إجماع النصارى المتأخرين.
(ب) وطائفة العنانية من اليهود، قالوا: النسخ جائز عقلًا، لكنه لم يقع سمعًا فهو ممتنع.
(ج) طائفة العيسوية من اليهود، قالوا: النسخ جائز عقلًا وواقع سمعًا، إلا أن الشريعة الإسلامية لم تنسخ ما قبلها من الشرائع، وإنما هي للعرب خاصة، وعلى هذا القول إجماع النصارى المتقدمين. انظر: مناهل العرفان للزرقاني، ١/ ٨٢، ٨٣.
1 / 9
على قدر ما يرى في ذلك من المصلحة (١)، واللَّه ﷿ ﴿... وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (٢)، وهو سبحانه لا يفعل شيئًا إلا لحكمة بالغة، فهو يُحيي ثم يُميت ثم يُحيي، وينقل الدولة من قوم أعزّة إلى قوم أذلّة، ومن قوم أذلة إلى أعزة، ويُعطي من شاء ما شاء، ويمنع من شاء (٣) ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (٤).
٣ - يلزم من يقول بوقوع النسخ سمعًا وجوازه عقلًا أنهم ما داموا يجوزون أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته، وقد وقع ذلك سمعًا فليجوزوا نسخ الشريعة الإسلامية للأديان السابقة (٥).
ثانيًا: الأدلة النقلية السمعية، وهي نوعان:
النوع الأول: ما تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى الذين لم يعترفوا برسالة محمد ﷺ.
_________
(١) انظر: الداعي إلى الإسلام، لكمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي المتوفى سنة ٥٧٧هـ، ص٣١٩، ومناهل العرفان للزرقاني، ٢/ ٨٣.
(٢) سورة الروم، الآية: ٢٧.
(٣) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ١/ ١٨٠.
(٤) سورة الأنبياء، الآية: ٢٣.
(٥) انظر: مناهل العرفان، ٢/ ٨٦.
1 / 10
النوع الثاني: ما تقوم به الحجة على من آمن برسالة محمد ﷺ، ولكنهم قالوا: إنها خاصة بالعرب (١).
النوع الأول: تقوم الحجة على من أنكروا نبوة محمد ﷺ مطلقًا بالأدلة الواردة في التوراة والإنجيل، والداعية المسلم إذ يُورد الأدلة من كتبهم لا يعتقد أن هذه النصوص كما أُنزلت، بل يحتمل أن تكون مما وقع عليه التحريف والتغيير؛ فإن اليهود والنصارى قد غيَّروا وبدَّلوا كثيرًا من كتبهم، ولكن المسلم يقيم الحجة عليهم بما بين أيديهم من التوراة والإنجيل (٢)، لا لثبوتها ولكن لإلزامهم بالتسليم، أو يعترفوا بالتحريف، ومن ذلك ما يلي:
١ - جاء في التوراة: إن اللَّه - تعالى - أمر آدم أن يزوج بناته من
_________
(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، ٧/ ٢٧.
(٢) تنقسم أخبار اليهود والنصارى إلى ثلاثة أقسام:
(أ) ما علم صحته بنقله عن النبي ﷺ نقلًا صحيحًا أو كان له شاهد صحيح من الشرع يؤيده، فهذا القسم صحيح مقبول.
(ب) ما علم كذبه لكونه يناقض ما عرف من شريعة محمد ﷺ، أو لا يتفق مع العقل الصحيح، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته.
(ج) ما هو مسكوت عنه، وليس من النوع الأول ولا الثاني، وهذا القسم يتوقف عنه المسلم فلا يصدقه ولا يكذبه، ويجوز حكايته، لقوله ﷺ: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل ... "، البخاري مع الفتح، ٨/ ١٧٠، (رقم ٤٤٨٥)، ١٣/ ١١٦، وقوله ﷺ: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ... " في البخاري مع الفتح، ٦/ ٤٩٦، (رقم ٣٤٦١)، وانظر: التفسير والمفسرون للذهبي، ١/ ١٧٩.
1 / 11
بنيه، وورد أنه كان يولد له في كل بطن من البطون ذكر وأنثى، فكان يزوج توأمة هذا للآخر، ويزوج توأمة الآخر لهذا، إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب، ثم حرَّم اللَّه ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى (١).
٢ - جاء في السفر الأول من التوراة: إن اللَّه - تعالى - قال لنوح عند خروجه من السفينة: «إني جعلت كل دابة مأكلًا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه»، ثم اعترفوا بعد ذلك بأن اللَّه حرَّم كثيرًا على أصحاب الشرائع، من ذلك الخنزير في شريعة موسى، وهذا عين النسخ (٢).
٣ - أمر اللَّه إبراهيم ﷺ بذبح ولده، ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل به، وقد أقرّ منكرو النسخ بذلك (٣).
٤ - الجمع بين الأختين كان مباحًا في شريعة يعقوب ﷺ، ثم حُرِّم في شريعة موسى ﷺ (٤).
٥ - أمر اللَّه - تعالى - من عَبَدَ العجلَ من بني إسرائيل أن
_________
(١) انظر: تفسير ابن كثير، ١/ ١٥٢، ٣٨٣، ومناهل العرفان للزرقاني، ٢/ ٨٧، وإظهار الحق، لرحمة الله الهندي، ١/ ٥١٣.
(٢) انظر: تفسير ابن كثير، ١/ ١٥٢، ٣٨٣، ومناهل العرفان، ٢/ ٨٧، وإظهار الحق، ١/ ٥١٥.
(٣) انظر: تفسير ابن كثير، ١/ ١٥٢، ٣٨٣، ومناهل العرفان، ٢/ ٨٧، وإظهار الحق، ١/ ٣١٥.
(٤) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، ١/ ١٨١، والداعي إلى الإسلام للأنباري، ص٣٢٤، وابن كثير، ١/ ١٥٢، ٣٨٣، ومناهل العرفان، ٢/ ٨٨، وإظهار الحق، ١/ ٥١٥.
1 / 12
يقتتلوا، ثم أمرهم برفع السيف عنهم (١).
وغير ذلك كثير.
النوع الثاني: تقوم الحجة به على من آمن بنبوة محمد ﷺ واعترف بها؛ ولكنه جعلها خاصة بالعرب دون غيرهم، فهؤلاء متى سلّموا واعترفوا برسالته ﷺ وأنه صادقٌ فيما بلغه عن اللَّه ﷿ من الكتاب والسنة وجب عليهم الإيمان والتصديق بكل ما ثبت عنه، وما جاء به من عموم الرسالة، والنسخ الثابت بالكتاب والسنة (٢)، ومن هذا النوع ما يأتي:
١ - قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ (٣).
٢ - وقال تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًاّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا
_________
(١) ابن كثير، ١/ ١٥٢، ومناهل العرفان، ٢/ ٨٧، وانظر ذلك من القرآن في سورة البقرة، الآية: ٥٤.
(٢) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية، ١/ ٣٧، ١/ ٣١ - ١٧٦، ودرء تعارض العقل والنقل، ٧/ ٢٧.
(٣) سورة البقرة، الآيتان: ١٠٦ - ١٠٧.
1 / 13
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (١).
٣ - وقال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (٢).
٤ - وقال سبحانه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ (٣).
٥ - وقال ﷿: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (٤).
٦ - وقال جل وعلا: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (٥).
٧ - إجماع سلف الأمة على أن النسخ وقع في الشريعة
_________
(١) سورة آل عمران، الآيات: ٩٣ - ٩٥.
(٢) سورة النساء، الآيتان: ١٦٠ - ١٦١.
(٣) سورة الأنعام، الآية: ١٤٦.
(٤) سورة النحل، الآية: ١٠١.
(٥) سورة الرعد، الآيتان: ٣٨ - ٣٩.
1 / 14
الإسلامية، كما أن النسخ وقع بها لجميع الشرائع السابقة (١).
وبهذه الأدلة العقلية والنقلية السمعية - التي دلت على جواز النسخ عقلًا ووقوعه (٢) نقلًا وسمعًا - سقطت أقوال منكري النسخ وأقوال من أنكر عموم رسالة النبي ﷺ (٣)، وللَّه الحمد والمنة.
المسلك الثاني: الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة:
من حكمة القول في دعوة اليهود إلى اللَّه ﷿ أن يبيَّن لهم بالجدال بالتي هي أحسن أن الكتب التي بأيديهم قد دخلها التحريف والتبديل والتغيير (٤).
واليهود والنصارى يُقرّون أن التوراة كانت طول مملكة بني إسرائيل عند الكاهن الأكبر الهاروني وحده، وتقرّ اليهود أن سبعين
_________
(١) تفسير البغوي، ٣/ ٢٢، ٨٤، ١/ ٣٢٦، وابن كثير، ١/ ١٥١، ٣٨٢، ٥٨٥، ٢/ ١٨٦، ٥٢٠، ٥٨٧، والشوكاني، ١/ ٣٦١، وإغاثة اللهفان لابن القيم، ٢/ ٣٢١ - ٣٢٨، والسعدي، ١/ ٤٠١، ٤/ ١١٦، ٢٤١، ومناهل العرفان، ٢/ ٨٩.
(٢) وهناك شبهات لمنكرين النسخ قد تضمن الرد عليها الأدلة السابقة، وانظر أيضًا الرد عليها في الفصل لابن حزم، ١/ ١٨١ - ٢٠٠، والداعي إلى الإسلام للأنباري، ص٣١٧ - ٣٤٠، ومناهل العرفان، ٢/ ٩٣ - ١٠٤.
(٣) وستأتي الأدلة القطعية على إثبات رسالة محمد ﷺ وشمولها - إن شاء الله تعالى -.
(٤) لاشك أنه يجب على كل مسلم الإيمان بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله، وهذا هو أصل دين المسلمين، فمن كفر بنبي واحد أو كتاب واحد فهو كافر حلال الدم عند المسلمين. انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية، ١/ ٣٣، ولكن الكلام الآن هو في بيان وقوع التحريف والتبديل في التوراة.
1 / 15
كاهنًا اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشرة حرفًا من التوراة، وذلك بعد المسيح ﷺ في عصر القياصرة الذين كانوا تحت قهرهم، ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب اللَّه فلا يؤمن من تحريف غيره.
واليهود تقر أيضًا أن السامرة حرفوا مواضع التوراة، وبدَّلوها تبديلًا ظاهرًا، وزادوا ونقصُوا والسامرة تدَّعي على اليهود بأن التوراة التي بأيديهم محرّفة مبدّلة (١).
والذي يحكم بين الجميع هو كلام اللَّه ﷿ المنزل على محمد ﷺ، المهيمن على ما سبقه من الكتب المصدِّق لها، فقد سجل التحريف وأثبته على أهل الكتاب، ونسب إليهم أنواعًا من التحريف للتوراة، كالآتي:
النوع الأول: إلباس الحق بالباطل:
كان بنو إسرائيل يخلطون الحق بالباطل، بحيث لا يتميز الحق من الباطل، وقد سجل القرآن الكريم هذا الجرم عليهم، قال سبحانه: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ
_________
(١) انظر: الفصل لابن حزم، ١/ ١٠٢، ١٨٧، ١٩٧، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ٢/ ١٨، وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم، ص٥٨١.
1 / 16
فَاتَّقُونِ * وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ الآية (١)، وقال سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ الآية (٢).
ومن أبلغ الصور وأقبحها في إلباس الحق ادعاء الكهنة والأحبار في التوراة التي بأيديهم أن هارون ﷺ هو الذي جمع الذهب من بني إسرائيل واشترك معهم في صناعة العجل الذهبي، ووافقهم على عبادته من دون اللَّه – تعالى – وفي الوقت نفسه يبرئون السامري.
فهارون ﷺ الذي تحمل المشاق في سبيل إقرار فرعون بالتوحيد جعلوه داعية إلى الشرك والكفر، ولكن القرآن الكريم كان لهذه الدعوى بالمرصاد، فكذبهم، وبين حقيقة الأمر (٣)، قال تعالى: ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ...﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ...﴾ الآيات (٤)، فهذا هو الصدق حقًّا، إنما عمل لهم العجل السامري، أما هارون فنهاهم ولكنهم عصوا وكادوا يقتلونه (٥).
_________
(١) سورة البقرة، الآيات: ٤٠ - ٤٢.
(٢) سورة آل عمران، الآية: ٧١.
(٣) انظر: الفصل لابن حزم، ١/ ٢٥٦، وهداية الحيارى لابن القيم، ص٥٨٢.
(٤) انظر: سورة طه، الآيات: ٨٧ - ٩١.
(٥) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، ١/ ٤٥٦، وهداية الحيارى، ص٥٨٢.
1 / 17
النوع الثاني: كتمان الحق:
لاشك أن اللَّه حق، ولا يقول إلا حقًّا، والتوراة التي أنزلت على موسى كلها حق؛ لأنها كلام اللَّه – تعالى – ولكن بني إسرائيل كانوا يكتمون الحق، قاصدين بذلك إخضاع كتاب اللَّه لأهوائهم وشهواتهم، فالآيات التي يرون فيها منفعة لهم عاجلة أو تكون في جانب حجتهم يقرونها، أما الآيات التي يرون أن فيها دليلًا عليهم فيكتمونها، ولهذا سجل اللَّه عليهم هذا الكتم في كتابه، فقال سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (١).
ومن أعظم ما كتمه أهل الكتاب هو ما وجدوه في كتبهم من صفات محمد ﷺ، واختيار اللَّه له رسولًا إلى الناس أجمعين، وقد كانوا يعرفونه في كتبهم كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم إذا سُئِلُوا عن ذلك كتموه (٢)، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (٣)، ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (٤).
_________
(١) سورة آل عمران، الآية: ٧١، وانظر: سورة البقرة، الآية: ٤٢.
(٢) انظر: تفسير البغوي، ١/ ٦٧، ١٦٢، ٣١٥، وابن كثير، ١/ ٨٥، ٩٥، ٣٧٤.
(٣) سورة البقرة، الآية: ١٤٦.
(٤) سورة الأنعام، الآية: ٢٠.
1 / 18
وقد بيَّن ﷿ صفاته ﷺ الكاملة في التوراة والإنجيل، فقال ﷿: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (١).
ومع هذه الأوصاف العظيمة التي كانوا يعرفونها مكتوبة عندهم، أنكروا نبوته ﷺ، وكتموا ما علموه (٢).
النوع الثالث: إخفاء الحق:
الإخفاء قريب من الكتمان (٣)، وقد كان أهل الكتاب يخفون من أحكام التوراة الشيء الكثير، قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ
_________
(١) سورة الأعراف، الآيتان: ١٥٦ - ١٥٧.
(٢) انظر الأمثلة من نصوص التوراة التي بينت صفات النبي ﷺ واضحة جلية، ولكن اليهود كتموا ذلك، في: الملل والأهواء والنحل لابن حزم،١/ ٢٠١ - ٣٢٩، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ٣/ ٢٩٩ - ٣٣٢، وهداية الحيارى لابن القيم، ص٥٢٢ - ٥٨٠، وإغاثة اللهفان لابن القيم، ٢/ ٣٥١ - ٣٦٣، وإظهار الحق لرحمة الله الهندي، ١/ ٣٣٥ - ٥٠٨.
(٣) انظر: هداية الحيارى لابن القيم، ص٥٢٤، ويمكن أن يقال الفرق بين الكتمان والإخفاء: بأن الكتمان هو ما كتموه من أوصاف النبي وأمته حقدًا وكراهة، والإخفاء هو إخفاء كل ما فيه خزي لهم ومخالفة، والله أعلم. انظر: التوراة دراسة وتحليل لمحمد شلبي، ص٨٠.
1 / 19
قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ (١).
ومن الأحكام التي أخفاها اليهود حكم رجم الزاني المحصن، فقد جاءوا إلى النبي ﷺ برجل وامرأة قد زنيا، فقال لهم: «كيف تفعلون بمن زنى منكم؟». قالوا: نُحَمِّمهما ونضربهما. فقال: «لا تجدون في التوراة الرجم؟» فقالوا: لا نجد فيها شيئًا. فقال لهم عبد اللَّه بن سلام: كذبتم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضع مدراسها الذي يدرسها منكم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده (٢) عن آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما رسول اللَّه ﷺ فرجما ... الحديث (٣).
ولهذا قال سبحانه: ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (٤)، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ
_________
(١) سورة المائدة، الآية: ١٥.
(٢) وفي رواية أخرى للبخاري: قال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم. انظر: البخاري مع الفتح، ٢/ ١٦٦.
(٣) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، ٨/ ٢٢٤، (رقم ٤٥٥٦)، ١٢/ ١٦٦، ١٣/ ٥١٦.
(٤) سورة المائدة، الآيات: ٤١ - ٤٣.
1 / 20
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (١).
فأنكر سبحانه على أهل الكتاب المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم: التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة اللَّه فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد ﷺ تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم (٢).
النوع الرابع: ليُّ اللسان:
من أنواع تحريف اليهود للتوراة: ليُّ اللسان، فهم يلوون ألسنتهم ويعطفونها بالتحريف، ليلبسوا على السامع اللفظ المنزل بغيره، ويفلتون ألسنتهم حين يقرءون كلام اللَّه – تعالى – لإمالته عما أنزله اللَّه عليه إلى اللفظ الذي يريدونه (٣)، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (٤).
ومن التحريف بليِّ اللسان ما كان يفعله اليهود مع رسول اللَّه ﷺ بقولهم: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ ويقصدون معنى: اسمع لا
_________
(١) سورة آل عمران، الآية: ٢٣.
(٢) انظر: تفسير ابن كثير، ١/ ٣٥٦، وأضواء البيان للشنقيطي، ٢/ ٥٧.
(٣) انظر: تفسير البغوي، ١/ ٣٢٠، وابن كثير، ١/ ٣٧٧، وهداية الحيارى، ص٥٢٤، وفتح القدير للشوكاني، ١/ ٣٥٤.
(٤) سورة آل عمران، الآية: ٧٨.
1 / 21