أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب ﵁ وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم وكان النبي ﷺ قد قال: "نقركم فيها ما شئنا"، وفي رواية "ما أقركم الله" ١.
وأمر بإجلائهم منه عند موته ﷺ فقال: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" ٢ ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري- إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر، وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه.
والمقصود هنا أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين: أحدهما: أن يحتاجون إلى صناعتهم، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت، فهؤلاء يستحقون الأجرة، وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصناع. الثاني: أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع، فيحتاجوا إلى من يشتري الحنطة ويطحنها، وإلى من يخبزها ويبيعها خبزًا، لحاجة الناس إلى شراء الخبز من الأسواق، فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة الناس المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاءوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضررًا عظيمًا، فإن هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين٣.
_________
١ رواه بلفظ "ما شئنا" البخاري في صحيحه "٥/ ٢١" ومسلم في صحيحه "١٠/ ٤٦٩". ورواه البخاري بلفظ "ما أقركم الله" "٦/ ٢٧٠".
٢ هذا الحديث ورد بروايات عديدة، فعند مسلم في صحيحه "١١/ ٢٤" عن ابن عباس: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، وعند البخاري في صحيحه كذلك "٦/ ٢٧٠"، وورد عند البخاري "٦/ ١٧٠" عن "أبي هريرة" وفيه: "وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض" يعني اليهود، وعن "ابن عمر" عند البخاري في صحيحه "٥/ ٢١" وفيه "كان رسول الله ﷺ لما ظهر على أهل خيبر أراد إخراج اليهود ... إلخ الرواية" وعند "الدارمي" في سننه "٢/ ١٥٢" عن "أبي عبيدة بن الجراح" نحوه، وفيه: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب".
٣ انظر المغني لابن قدامة "٢/ ٦٢٢" والمجموع للنووي "٦/ ٣٨".
1 / 31