Kuda Hijau Mati di Jalanan Aspal

Abdul Ghaffar Makawi d. 1434 AH
72

Kuda Hijau Mati di Jalanan Aspal

الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت

Genre-genre

تفاجئني صورة طفل آخر، أحب من قابلته في قصصه ورواياته؛ طفل تلاعبه جماعة من المهرجين البائسين. لن أنسى أبدا لاعب البيانولا الطويل. هل قلت قصة؟ الكلمة لا تصلح تماما؛ هي رفة حلم، همسة اغتراب في العالم الكبير، مع المغتربين الوحيدين الذين يسمعون قلبه، يفهمون مأساته ويضحكون عليها ويضحكون غيرهم، ثم يمضون وأعينهم دموع.

هنا أيضا العناية بالتفاصيل والأشياء؛ لكن الأشياء تنبض شعرا، يضع الكاتب «سماعته» على صدورها ويحس أنفاسها وأوجاعها.

إنه لا يكتب أو يتكلم عنها، بل يتركها تكون، تصبح اللوحة قطعة قماش مطرزة بعناية وحب، تدعوك لتشارك أيضا في نقشها وتطريزها، لا مشكلة ولا حل، لا بداية ولا نهاية؛ فالبداية تبدأ قبل البدء، والنهاية لا تنتهي عند الختام. دوامة صغيرة تثير في النفس غبارا أو رذاذا، بقية حلم تعلق بالجفنين وتدعو لمزيد من الحلم. أعدنا قراءة مقدمة القصة، حاول أن يمنعني، أن يعتذر ويغضي عنها (يندر أن يعرف فنان حق قيمة عمله، يندر أن يتبجح به أو يتاجر فيه)، أتذكر حياء تشيخوف وتواضع كافكا:

فكان أن قادني الإسكافي العجوز الأصم ممسكا بيدي اليمنى، حاملا مصباحا صغيرا في يده اليسرى، ترتجف شفتاه، وتهتز التجاعيد حول عينيه وأعلى جبهته؛ فوجدت أبي ممددا أسفل السلم، وجهه ناحية الأرض، ويداه إلى الأمام مقلوبتان. وترك الإسكافي العجوز المصباح الصغير إلى جانب رأس أبي، فرأيت طبقة من الغبار فوق رأسه وظهره. أعدت يده اليمنى إلى جانبه، وحاولت أن أدير وجهه إلى أعلى فرأيت طابورا من النحل ينحدر فوق عنقه ويتجه نحو صدره.

1

حدثته عن صورة طابور النمل التي لا تبرح المخيلة، عن قدرة الفنان تتجلى في مثل هذه الصور، فتلازمنا طول العمر (من يدري؟ قد تصحبنا حتى القبر). أخذنا في الكلام عن كافكا وكوابيسه وتفاصيلها الواقعية؛ فرقنا بين الحلم الصافي البريء وبين الكابوس، عن التوازن هنا بين البناء والدفء، بين التفاصيل والمعنى، بين الوعي المنبث في الأشياء والوعي المتسلط عليها. تكلمنا عن ضرورة تأديب اللغة؛ قهرها وإخراس مكبراتها المتخمة من آلاف السنين بالإيقاعات والكلشيهات والمحفوظات، بالرنين والضجيج والطنين. ذكرنا فضل أبينا الطيب صاحب العصا والقنديل، وضحكنا لهجومه الجبار على واو العطف والفواصل والعلامات والصفات. اتفقنا على ضرورة العلم، على أن الأديب في عصرنا هو الأديب العالم، لا الكسول المتواكل على شياطين الشعر وربات الخيال وحمى الانفعالات. حذرته بشدة من كثرة القراءة في النقد والجمال، خشيت أن تطغى عليه وتحبس ذاته وراء قضبان الآخرين. تأملت وجهه المرهق واهتزازات تجاعيده حول الفم الصغير والعينين الواسعتين، سألت نفسي: أين رأيت كل هذه الطيبة والحب، ممزوجة بالجدية والأمانة والقلق؟ لم تلبث الابتسامة أن اتسعت كالدوامة وجلجلت بالضحكة الرجولية الخشنة، التي اختنقت في سحب الدخان وتعثرت في سعال مشروخ حاد. سألت نفسي كما سألتها مرات: لم كل هذا العذاب؟! لمن؟! أغمضت جفني لحظة: كم نحن وحيدون!

نقترب من البلدة، تلوح بيوتها الطينية من بعيد ومئذنة جامعها كسلم أبيض صاعد للسماء. نعبر جسرا حجريا بسورين خشبيين، أنظر إلى أسفل وأعد سبع إوزات تنساب على سطح الترعة العكر. العربات تثير وراءها عاصفة من الغبار، والقرية كأنها خالية من السكان. نتجه نحو طريق ضيق بين صفين من البيوت، جدرانها عالية مائلة بانحناء إلى أعلى، كأسوار قلعة مهجورة. لا بد أن أحدا لمح العربة السوداء، في البداية يفزع كلب أصفر من اليسار ويمرق إلى الحارة، يتبعه صبيان بجلباب وبيجامة، وخلفهم معزة تريد أن تتبعهم ثم تتردد عند رؤية العربات وتقف على الناصية، ألاحظ وجهها المستطيل وأنفها السامي وعينيها المتفحمتين. ينطلق صوات من امرأة تقف أمام باب البيت الأول إلى اليمين، يتردد صوات أعلى من سقف البيت المجاور، ينبح الكلب، ترتد العنزة للوراء ، يجري شابان يتبعهما عجوز يشمر جلبابه الأزرق الذي لفه حول وسطه قادمين من ناحية الترعة، تتعالى عاصفة من الصوات مختلطة ببكاء امرأة تجري بمحاذاة عربتنا، يخرج رجال ونساء وفتيات وأولاد من الأزقة والحارات التي نمر بها، يسبقنا عشرات خرجوا فجأة من البيوت والدكاكين والأحواش ذات الأسوار الطينية الواطئة والحقول القريبة، تفتح الشبابيك وتطل النسوة ويشرن بأذرعهن وأيديهن، تشتعل البلدة التي كانت في الانتظار بحريق الأصوات السوداء؛ عويل من الأسطح والنوافذ، أبواب تفتح وترد بعنف، رجال يتنادون وأطفال يفركون عيونهم ويجرون. ننعطف يمينا ثم يسارا، نرجع للطريق الضيق الطويل. مع كل خطوة تهرول أقدام وتولول أصوات وترتفع أصابع بالشهادتين، ويختلط الوجوم بالغبار بالصياح بالتشنج المكتوم. يبدو جامع آخر. نتقدم نحوه، يتضح بابه المفتوح وواجهته المطلية باللونين البني والأبيض في مستطيلات متوازية. تتوقف العربات، يشتد الزحام، يخرج شيوخ من الجامع ويدخلون، تحتشد نساء تجرجر السواد بجانب العربة السوداء، يشير لهن الرجال فيتكومن إلى اليمين قليلا، يتعالى صوت امرأة: يا ابن عمي يا حبيبي. يتعاون الرجال على إخراج الخشبة من العربة، يتزاحمون، نتقدم إلى داخل الجامع، رجل عجوز ترتعش يده اليمنى ويلتهب وجهه الأبيض المحمر وذقنه الكثة تحت وهج الحر، يحاول أن يشق طريقه بصعوبة. يحيط به ثلاثة رجال بثياب بيضاء يمنعونه ويسندونه. أعرف من صوت بجانبي أنه أبوه، عرفت منذ قليل من المرأة التي تجلس الآن ورائي على قاعدة حجرية أنه كان هنا آخر مرة في مأتم أمه. يلتف حولي نبيل ومصطفى. تكف المرأة عن الصياح وتبدأ في نشيج متقطع تجاهد أن تكتمه. أعرف أنها جدته، أسمعها ورائي تردد: ليتني كنت أنا.

يرتفع نشيج في صدري، يتحشرج في حنجرتي، ينهمر من عيني. يد تربت ظهري، صوت يدعوني أن أصبر. تخرج الخشبة من الجامع، يلمع فوقها غطاء حريري بنفسجي يعكس ضوء الشمس. العيون محمرة، الأصوات تأمرنا أن نوحد الله، النساء التي تقف كسرب من الغربان المذبوحة يتعالى صياحهن، الزوجة في الوسط، يبدو جانب وجهها المحمر مشوبا بالزرقة، كتمثال منحوت من السواد، تسندها فتاتان متسربلتان بالسواد. مصطفى يجفف دموعه ويلوم الراقد في الخشبة التي بدأت تتحرك: أهكذا تتركنا؟ يلتفت للعجوز التي تنشج ورائي؛ جدته لأمه تجاوزت المائة. أنظر إلى وجهها؛ مكرمش كالخرشوفة، تتجمع وتسير وراء النعش، العجوز تتحامل على نفسها، لا تزال تنشج. أجفف عيني وأضع المنديل في جيبي، أخرجه وأمسح زجاج النظارة. «أنظر؛ مكرمشة كالخرشوفة، يا رب لا أعترض عليك».

نمضي وراء النعش، يخفق ويتمايل كقارب غريق يحمله صيادون متعبون، كعلم منكس فوق جيش مهزوم. يتبادل الرجال وضع الأذرع الخشبية الممتدة على أكتافهم، ومن لا يجد مكانا يريح كفه على النعش أو يجري بمحاذاته منتظرا دوره. فتيان وشباب وعجائز جاءوا يودعون ابن قريتهم الغائب عنهم هناك، كلهم أبوه أو أخوه أو ابنه، لم يروه إلا من سنوات عندما جاء يودع أمه، ربما لم يره أغلبهم مرة واحدة؛ لكنهم يعرفون أنه هناك، تأتيهم أخباره فيطمئنون، ربما يسمع الآباء من أبنائهم أنه يكتب، أنه ينشر كتبا باسمه، يحسون إحساسا غامضا أنه معهم يتزاحم الركب، نسير مطأطئي الرءوس، أيدينا متشابكة خلف ظهورنا، والطرق الضيقة المتربة تتلوى وتستقيم، تتفرق وتلتئم، ينضم إليها من الحواري والمنعطفات رجال وصبية جدد، تنطلق الصيحات وتختلط بالتكبير والنشيج والحسرات والتمتمات. أسمع دقات منتظمة من بعيد، ترتفع شيئا فشيئا، تبدو مع الخطوات الزاحفة كإيقاع طبول زنجية تخرج من أعماق غابة كثيفة، تقترب الدقات وتعلو، تصيح كشهيق مخنوق، تطالعنا من الطريق الطويل الموازي للترعة ساحة رحبة، تلوح القبور المتفرقة الراقدة فوقها كطيور سوداء منكفئة على نفسها. أرفع رأسي وأنظر للبيوت الكبيرة المحيطة بالساحة، ألاحظ جدرانها العالية المائلة بانحناء إلى أعلى وأتذكر معمار المعبد الفرعوني، أتأمل الأبواب والنوافذ المستطيلة الضيقة في أعلاها، والأسوار الواطئة المحيطة بأحواشها، ألاحظ التصاق البيوت ببعضها، كأنها كتلة ثقيلة سوداء يسكنها كيان واحد وروح واحد. تقترب الدقات وتعلو، أنظر يمينا فأتبين طاحونة ترتفع فوقها مدخنة، الموكب يتقدم نحو الساحة الأخيرة تصاحبه الشهقات المبحوحة. يتوقف الناس في داخل الطاحونة، ترتخي أذرعهم بجانبهم وتبدو وجوههم المعفرة بالدقيق. ترتفع أيد بالشهادتين، وينطلق صوات لا أتبين مصدره. تدخل الساحة الرملية وتطالعنا القبور المتناثرة على التلال الرملية الصغيرة. تسرع من اليمين جماعة ألاحظ بينها شيخين يجريان ليسبقا النعش، وراءهما ثلاثة بجلاليبهم الزرقاء، حفاة في أيديهم معاول. تنزل الخشبة على الأرض أمام قبر ممدد باستطالة يعلوه شاهد مرتفع ينتهي بكرة من الطين كرأس طائر أسود. يتنادى الرجال وينحنون على الأرض، تنهال المعاول وترتفع كومة الرمال على الجانبين، تتجمع إلى الخلف قليلا، حول قبرين متباعدين، ونسند الأب ليجلس على أحدهما؛ عيناه محمرتان وفمه ملتو ويده اليمنى ترتعش باستمرار. النساء تحلقن بعيدا إلى اليسار، الصوات تحول إلى نشيح متقطع، وعبارات الصبر و«كلنا لها» و«الأمر لله» ترسم الانكسار والاستسلام على الملامح والعيون. ألاحظ أن طريقة الدفن هنا مختلفة عنها في بلدنا، إن شكل القبر وطبيعة الأرض مختلفة، يغيب الجثمان وتهال أكوام التراب؛ التراب ودائما التراب. قلت لي إنك تتوثب لقفزة جديدة، خمنت أنك تستعد لعمل جديد؛ لإتمام ثلاثيتك، وأنت أمامي تقفز إلى القبر؛ هل جاءت الأحلام والأفكار والأحداث والشخصيات معك؟ ماذا يجدي كل عزاء البشر أمام القبر؟ ومئات الكتب والمذاهب والنظريات أمام التراب؟ يقف رجل نحيل طويل، بجلباب أبيض ورأس عارية وراء القبر، يخطب بصوت هادئ: «يا عبد الله وابن عبد الله، تثبت تثبت، كل نفس ذائقة الموت، وما تدري نفس بأي أرض تموت، تثبت تثبت، سبحان من خلقك من تراب ويعيدك للتراب ويبعثك يوم الحساب، اللهم ... اللهم ...» يصطف الأهل لتقبل العزاء. يتعالى نشيج الطبل من الطاحونة. يتنادى رجال وتعول نساء ويسارع شبان ليسندوا العجائز. تتصافح الأيدي وتتمتم الشفاه وتلتئم جماعات في طريق العودة.

والطقوس تكلمنا عنها في أكثر من لقاء، ما من عمل فني إلا ويقوم على طقس أو يبعث طقسا، وذكرنا العجوز والبحر وموبي ديك وزيارة السيدة العجوز والشحاذ والطريق، ونصحتني بقراءة «الأشياء تتداعى»؛ ألوم نفسي لأني لم أقرأها حتى الآن، وتحدثنا عن «مأساة العصر الجميل» و«الحديقة»، عن العجوز الصماء البكماء التي تتسلط كآلهة قدر قاسية. هو وهي يتحدثان عنها باستمرار، يسترضيها ويقدم لها القرابين ، ويعترف بقوتها الغاشمة ويثور عليها، وهي مشلولة في محبسها وعلى عجلتها، تتأمل انعكاساتها على المرايا المحيطة بها، تتلذذ بعبادة نفسها واستعباد غيرها. والإنسان لا يفعل شيئا إلا التخلص من فضلاته وقاذوراته وقراءة الجريدة مرة بعد مرة، كأنها مواثيق وصية قديمة أو نصوص عقد مقدس، يقاوم السقوط والوحدة والذل وثقل الأوهام ويكتشف خداع الآلهة المتسلطة. أوثان ترزح فوق ضمير الإنسان، تحيا في داخله وتحاصره، وارتجف من الحصار الفظيع، والجو القاتم، والجرأة والطموح الذي تجاوزت فيه بيكيت. وأطلب منك أن تحولها مسرحية، ونضحك ونحن نتخيل «هو» قائما قاعدا على الجردل، ولا نتخيل مسرحا يقدمه ولا متفرجا يشاهده! ونتكلم عن «الحديقة»، تصارع ثلاثة أجيال لتحقق عليها حلمها القديم؛ حلم الأسرة والبشرية بالفردوس المفقود. ونعاين الواقع الذي تمتد جذوره في الأسطورة والحلم، والواقع الذي يجاهد دائما ليصبح هو الأسطورة والحلم. يا حبيبي، وأنا أتركك الآن تمد جذورك كي تزدهر حديقتك، أسأل نفسي وسط تراب الموت: أين الواقع، أين الحلم؟

Halaman tidak diketahui