بل إن فكرة «المعنى» في حد ذاتها قد استوقفت أنظار الباحثين متسائلين: ماذا نريد على وجه التحديد، حين نقول عن جملة معينة إنها ذات «معنى» وعن جملة أخرى إنها ليست بذات «معنى»، ولم يكن هذا السؤال من الباحثين عابثا، إذ ما نكاد نمعن النظر فيه، حتى يتبين أن الأمر في حاجة إلى شيء من الروية والتدبر؛ وذلك لأن المراد ب «المعنى» ليس شيئا واحدا في جميع الحالات، فلعل القارئ يذكر ما عرضناه بشيء من التفصيل فيما سبق من أحاديث عن مجالات القول المختلفة: فهنالك أولا: مجال القول العلمي، وهو يعود بدوره فينقسم قسمين أساسيين، هما: العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية بما فيها مجموعة العلوم الإنسانية، وهنالك ثانيا: مجالات الفن والأدب، وأهم ما تشتمل عليه من فروع: الموسيقى، والأدب شعرا ونثرا، بما فيه الأدب الروائي والمسرحي، وهنالك ثالثا: مجال القيم، التي هي بطبيعتها تمد سلطانها ليسري في العلم والفن والأدب جميعا، والمصدر الأساسي للقيم هو «الدين»، ثم هنالك رابعا: الفلسفة التي هي محاولة فكرية تسعى إلى الكشف عن الأساس الواحد، في كل عصر معين، الذي ترتكز عليه تلك المجالات كلها، وذلك إذا كانت الحياة الثقافية إبان ذلك العصر حياة سوية، وشرط السواء هنا هو أن يكون هنالك ينبوع مشترك، أو سؤال واحد كبير مطروح للعصر المعين كي يجد عنده الجواب، ومن ثم يصطبغ العصر بلون ثقافي متميز يمكن تحديده، ولعل القارئ يذكر كذلك ما قد أسلفنا فيه القول مفصلا، عما نعنيه في كل حالة من تلك الحالات الأربع، حين نصف قولا معينا بصفة «الصدق» أو الصواب؛ وذلك لأن ما نعنيه ب «الصدق» يختلف في مجال عنه في سائر المجالات، لأن لكل مجال منها أساسه الخاص الذي يقيم عليه صدق القول، وإن تكن الأسس الأربعة تعود فتلتقي في كونها جميعا تشير إلى جانبين يتطابقان، مع اختلافهما بعد ذلك في طبيعة الجانبين، وفي طريقة التطابق.
فإذا استعاد القارئ ما قد ذكرناه فيما سبق عن هذا كله، بات يسيرا عليه أن يرى وجه الضرورة التي تقتضي ممن أراد الدقة، أن يمعن النظر فيما يراد لكلمة «معنى» من دلالة، فمتى يكون لكلام المتكلم «معنى» ومتى لا يكون؟ فالجواب هنا يدور مع المجالات المختلفة لضروب القول، كما يدور مع الدلالات المختلفة لصفة «الصدق» في كل مجال على حدة، ففي العلوم الرياضية يغلب أن تجد بين يديك معادلات، أو نتائج معينة استنبطت من مقدمات مسلم بصحتها، وفي هذه الحالات يكون المطلوب ليس هو «المعنى» بل أن يكون هنالك «اتساق» - أي عدم التناقض - بين الأجزاء، فشطر المعادلة يتسق مع شطرها الآخر، والنتيجة المستنبطة تتسق مع مقدماتها التي استنبطت منها، وأما في العلوم الطبيعية، أو ما يدور مدارها، وأعني كل قول أراد صاحبه أن يشير به إلى أي جزء من أجزاء الواقع، «فالمعنى» يستقيم للقول، إذا كان هنالك تطابق تام بين المركب اللفظي من جهة، والمركب الواقعي من جهة أخرى، بمعنى أن كل طرف ورد ذكره في القول يقابل طرفا في الأمر الواقع المشار إليه، وكل «علاقة» تربط الأطراف في القول تقابلها علاقة بين أطراف الواقع، وبهذا تصبح الجملة صادقة المعنى إذا جاءت متماثلة التكوين تماثل إقليم معين وخريطته، أو تماثل شخص معين وصورته، فإذا قلت: في جيب سترتي ثلاثة جنيهات، وجب أن يجيء «معناها» متطابقا من حيث الأطراف وما يربطها من علاقات: فهنالك شخص هو أنا، وسترة، وجيب، وجنيهات، وهنالك علاقة احتواء بين الجيب والجنيهات، وعلاقة شكلية بين الجنيهات والعدد ثلاثة، ولاحظ أن «معنى» الجملة هو هذا الأمر الواقع نفسه، وهكذا يراد ب «المعنى» في كل قول مشير إلى عالم الواقع في أي جزء من أجزائه هو أن نجد لذلك القول واقعا يطابقه، إما على سبيل الحقيقة الفعلية، وإما على سبيل إمكان الحدوث.
وليس بنا حاجة إلى إعادة ما ذكرناه في مواضع سابقة من هذه الأحاديث، عن «معاني الصدق» في كل فرع من فروع الفن والأدب، وما ذكرناه عن صدق الإيمان في مجال العقيدة بصفة عامة، والعقيدة الدينية بصفة خاصة.
فأين هذا كله مما نراه حولنا، حتى ممن كنا نتوقع عندهم مراعاة الدقة العلمية فيما يكتبون ويذيعون، أقول: أين هذا كله مما نراه حولنا من إرسال القول إرسالا مهملا، في غير حيطة ولا تحفظ، استخفافا ب «العقل» وب «العلم» وبأمانة القول ودقته، فما أيسر أن تجد «الدين» قد اختلط ب «العلم»، وأن «النقد الأدبي» قد اختلط ب «الأدب»، وما أهون عند المتكلم فنيا أو الكاتب، حتى في أعلى مستويات القول والكتابة، أن يقذف بكلمات من قبيل «فقر» و«غنى» و«علم» و«جهل» ومئات غيرها وآلاف وكأنها كلمات محددة المعاني، وليست دالة على نسبة تختلف باختلاف الظروف.
وفي سبيل الوضوح الفكري، الذي رآه صاحبنا دائما علامة تشير إلى درجة الارتقاء في مضمار التطور الثقافي والعلمي، اضطر إلى مجادلة المعارضين في حالات كثيرة، كان منها أن أخذ يعرض على القراء مرة بعد مرة، وجوب التفرقة بين «الأدب» من ناحية، و«نقد الأدب» من ناحية أخرى، فالأدب إبداع لا يسأل فيه المبدع عن صدق ما يعرضه على واقع الكون صدقا علميا، وحتى عندما نصف أدبا معينا بأنه واقعي، فلسنا نعني بالواقعية هنا ما نعنيه بها في مطابقة الأقوال العلمية لواقع الطبيعة، وأما «النقد» فعملية «علمية» لما نتوخاه من «تحليل» و«تعليل»، فالناقد «يحلل» الرواية أو قصيدة الشعر إلى عناصرها، مع أن الإبداع الأدبي ذاته بعيد كل البعد عن التحليل؛ لأن «الحياة» نفسها لا تحلل الأشياء بل هي تبدع الكائنات، كل كائن بما يجعله كائنا موحد الأجزاء، والناقد كذلك «يعلل » ارتفاع العمل الفني أو سقوطه، أي إنه يذكر الأسانيد التي يستند إليها في أحكامه، بأن يشير إلى عناصر معينة وردت في جسم العمل الفني المنقود، وعمليتا «التحليل» و«التعليل» كلتاهما، هما من صميم الوظائف العقلية التي يتميز بها رجال العلوم، وليس ثمة فرق كبير بين موقف «عالم الطبيعة» من موضوع بحثه، و«ناقد» الأدب أو الفن في موقفه من موضوع نقده، وكل الفرق هو أن بين يدي عالم الطبيعة «ظاهرة» طبيعية يريد استخلاص قوانينها، وأما الذي بين يدي الناقد في مجالات الأدب والفن، فهو منتج معين أبدعه أديب أو فنان، وحين يصدر الناقد حكمه في نهاية التحليل والتعليل، فإنما يصدره بناء على سند هو أشبه بالقوانين العلمية في تجريده وتعميمه، ثم الوصول إليه فيما قيل، نتيجة لاستعراض ما قد خلده الزمن من آثار الأدب والفن، واستعراضا يؤدي إلى استخراج ما هو مشترك في جميع الأعمال الخالدة.
وإنه لمما يؤدي إلى غموض الرؤية عند «الناقد» الذي يزعم لنفسه أن «النقد» معتمد على «تذوق» الناقد، والتذوق هو أدخل في مجال «الذات» منه في مجال «الموضوع»؛ ولذلك فهو أقرب إلى العملية الإبداعية منه إلى عمليات المشاهدة والتجربة والتحليل في منهج البحث العلمي، والرد على ذلك هو أنه لا حرج على ناقد في أن يعبر عن وقع الأثر الأدبي أو الفني في نفسه، تعبيرا هو بغير شك يندرج تحت مقولة الإبداع، لكن ذلك الناقد قد أخطأ في هذه الحالة حين أطلق على نفسه صفة الناقد، اللهم إلا على سبيل التجوز الذي يبعده عن دقة الوصف، وإلا فما هو الفرق من حيث الجوهر بين مبدع وقف على شاطئ النيل في ظلال مجموعة من النخيل، فأحس النشوة، ثم أجاد التعبير عنها، وبين ناقد وقف أمام ديوان من الشعر، وأحس النشوة لما تلقاه عن قراءته من قصائد ذلك الديوان، ثم جلس ليعبر عن تلك النشوة فأجاد التعبير؟ إنه لا فرق يعتد به بين الحالتين؛ ولذلك فالتعبير عن النشوة هو إبداع أدبي في الحالتين، إذا أجاد الكاتب في وسيلة التعبير.
مجادلات كثيرة شارك بها صاحبنا في مجال النقد الفني والأدبي، سعيا منه إلى توضيح المواقف والمعاني، ومثلها مجادلات شارك بها في مجال التفرقة بين «الدين» من جهة، وغيره من أوجه النشاط الفكري أو الشعوري من جهة أخرى، من ذلك أن وجهت إليه المؤاخذة الساخرة ذات يوم في إحدى الصحف، بأنه لا يدرك، أن «الدين» هو «علم» بكل ضوابط العلم ودقته، ولما كان ذلك الاتهام قد جاء من كاتب له مكانته، فإن صاحبنا لم يجد بدا من أن يعرض على الناس حقيقة القضية، رغبة منه في إزاحة الغموض عن موضوع له أهميته الكبرى في الحياة الثقافية، فالفرق بعيد بين «الدين» في طريقة تقبل المؤمن له، وبين الوقفة العلمية إزاء موضوع يريد العالم أن يقننه، ويمكن توضيح الموقف المثلث الأطراف بمثل قارئ جلس إلى مكتبه، وأضاء المصباح ليقرأ ما أراد قراءته، فها هنا ثلاثة أطراف أساسية؛ أولها: ضوء المصباح الذي يستضيء به القارئ، وثانيها: القارئ المهتدي بالضوء، وثالثها: «علم الضوء» كما ورد في الكتب العلمية التي تفصل القول في بحوث العلماء في هذا الصدد، وما استخرجوه عن الضوء من قوانين علمية تضبط طرائق سيره وانعكاسه وانكساره وسرعته إلخ، مرة أخرى نقول: هنا ضوء، ومستضيء، وعلم أقيم على موضوع الضوء، ولنلحظ هنا أن وجود الضوء يظل وجودا قائما بذاته حتى ولو لم يستضئ أحد وأن وجود الضوء والمستضيء قد يظل وجودا قائما حتى ولو لم يقم العلماء على ظاهرة الضوء ما أقاموه من بحوث انتهت بهم إلى قوانين، وعلى أساس هذه الصورة انتقل إلى «الدين»، تجد الأطراف الثلاثة: فهنالك «دين» وهنالك «متدين» أو متدينون آمنوا بهذا الدين، وهنالك علوم تقام على المضمون الديني، وكما رأينا في مثل الضوء والمستضيء وعلم الضوء، نرى هنا أيضا إمكان أن ينزل «دين» ولا يجد متدينا به، أو باحثا يقيم عليه علما، ثم قد يتدين بذلك الدين متدينون، ومع ذلك فلا تقام عليه علوم، مما يدل دلالة واضحة على استقلالية الدين عن علم الدين، والعكس غير صحيح؛ لأنه إذا وجد ما يسمى بعلم يقام على المضمون الديني، فلا بد أن يكون قد سبقه دين، وليس أقطع دليل على هذه الاستقلالية، وهذا التحديد الذي يبين الفواصل بين الأطراف الثلاثة، من الآيات الكريمة في آخر ما نزل به وحي قرآني، وهي قوله تعالى:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا
إلى آخر السورة الكريمة، وواضح من الآيات أن قد نزل «دين»، وأعلن عن اكتماله بقوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم ، ثم كان هنالك متدينون بهذا الدين، وهم الذين دخلوا في دين الله أفواجا، ثم انقضت عشرات السنين بعد ذلك، قبل أن تقال كلمة واحدة في علم واحد من علوم الدين التي أخذت بعد أن بدأت، تتوالى ويتوالى فيها الجهد المبذول إلى يومنا هذا، إذن فواضح من ذلك كله أن «الدين» شيء، وأن «المتدينين» بهذا الدين شيء ثان، وأن «علم الدين» شيء ثالث، ولم يقع المهاجم الساخر ذو المكانة في حياتنا فيما وقع فيه من خلط إلا بسبب ما يكتنف حياتنا الفكرية، في عمومها، من ضباب الغموض.
Halaman tidak diketahui