إن هدفنا من هذه «المطبوعة الزرقاء»، هو أن نبين ما وسعنا البيان، أقسام الحياة العقلية والوجدانية التي يحياها الإنسان، وأن نحدد ما استطعنا التحديد، الروابط «الواصلة» بين مختلف الأقسام، كما نحدد في الوقت نفسه، أوجه الاختلاف «الفاصلة» قسما منها عن سائر الأقسام، وذلك يقينا منا أن مثل هذا التحديد هو الخطوة الأولى والضرورية، نحو الفكر الواضح، ووضوح الفكر - بدوره - هو الأساس الذي لا يعادله أساس آخر، من حيث قوة البناء الثقافي الذي يبنى عليه، لتدور في غرفه وأبهائه حياة الناس، ولقد أسلفنا لك في حديثنا السابق، ما بين «العلم» و«الدين» من صلات وفواصل، وسبيلنا الآن هو أن نبين المعالم الرئيسية التي تميز ذلك الشيء الذي يسمونه «أدبا» والذي كثيرا ما غمض فيه الأمر حتى ليعد كل ما أمسك بقلم، وجرى به على ورق «أديبا»؛ فما هي أهم المعالم التي تميز «الأدب» تمييزا يتباين به عما عداه من أقسام البناء الفكري والوجداني في حياة الناس؟
الحق أن ما قد احتفظت به خزائن الشعوب، من نفائس تركتها لهم أقلام النابهين من أسلافهم، بل وإلى جانب تلك النفائس المكتوبة، ذخائر ليست بالقليلة مما نطق به اللسان قبل أن يعرف الإنسان ما الكتابة وما العلم؟ ثم جاء بعد ذلك - في عصور التدوين - من دون تلك الذخائر الصوتية التي لم تكن قد وجدت ما يحافظ عليها سوى ذاكرة الإنسان الحافظة، أقول إن ما قد حفظته خزائن الشعوب من تلك النفائس والذخائر، هو من الكثرة والتنوع، ما يخيل إلينا بإزائه، أن محاولة الوقوع على صفات مشتركة بين تلك الكثرة الهائلة والمتنوعة، إنما هي ضرب من المحال، فهنالك «الشعر» قد جاءنا على صور مختلفة، وهنالك النثر من الأدب قد رأيناه على ألف شكل وشكل، فما هو الرباط الواصل بين هذه المتنوعات، الذي يتيح لنا أن نقول عنه، إنه هو الصفة الحاسمة المميزة لما يستحق أن يعد «أدبا»؟ ومن هنا اختلف بيننا الرأي، فما يسلكه أحدنا في عالم «الأدب» قد يخرجه آخر من ذلك العالم ليجعله كلاما كسائر الكلام، ويحدث هذا الاختلاف في الرأي، حتى في الحالات التي يخيل إلينا فيها أن الحق واضح أبلج لا مكان فيه لريبة المرتاب، وليس تاريخنا في ذلك ببعيد، حين رأينا شاعرا مثل أحمد شوقي، يكاد يجمع عليه الرأي بأنه شاعر لا شك في مكانته من دنيا الأدب، ومع ذلك لم يخل ميدان «النقد الأدبي» من جماعة لها وزنها الراجح في تقويم «الأدب»، تعلن بأن أحمد شوقي لا هو شاعر ولا شبيه بالشاعر (بهذا النص وبهذه الكلمات) فمن أين لنا - إذن - أن نتفق على خاصية تميز «الأدب» من سائر الأجناس من التي تجتمع معا في الوعاء الثقافي المشترك؟ لكن الأمر الواقع في التاريخ الأدبي، عندنا وعند غيرنا، قد استقر - برغم ذلك التباين الواسع في أحكام النقاد - على خصائص بعينها، لا بد أن يتوافر منها عدد مقبول، إن لم تتوافر كلها، في العمل الذي يستحق أن يدرج في الميراث الأدبي.
وأولى تلك الخصائص - في تقدير هذا الكاتب - أن يكون مدار الاهتمام في العمل الأدبي - أيا كان نوعه - هو «الإنسان» لا من حيث أن ينظر إلى «الإنسان» من زاوية تجعله «ظاهرة» في الطبيعة، كسائر الظواهر، بحيث يدرسها الدارس من ناحية الواقع الظاهر، ليستخرج ما قد يراه من «قوانين » مطردة، كما هي الحال بالنسبة إلى علماء العلوم الإنسانية، كعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد ، وما إليها؛ لأن هذه كلها «علوم» كسائر العلوم، ومطالبة بما يطالب به «العلم» على اختلاف ميادينه، من ناحية «المنهج» الذي أجاز للباحث العلمي أن ينتهي إلى النتائج العامة التي انتهى إليها، ومن علامات الوقفة «العلمية» أن يكون من حق كل مختص في ميدان علمي معين، أن يطالب البحث الذي وصل به بحثه العلمي إلى نتيجة معينة، أن يبين له كيف استطاع الوصول إلى النتيجة تلك؟ على أن يكون التطبيق على الواقع أحد المراجع الحاسمة التي تميز الخطأ من الصواب.
والفرق بعيد بعد النقيض من النقيض، بين ما نعنيه ب «الإنسان» حين يكون موضوعا لأحد العلوم الإنسانية، و«الإنسان» الذي نقصد إليه، حين نقول عنه إنه هو مدار الاهتمام في الإبداع الأدبي، فبينما الباحث العلمي في الإنسان يطرح من حسابه ما هو خاص بهذا الفرد من الناس أو بذلك الفرد، ليستبقي من حقيقة «الإنسان» ما هو مشترك بين الناس جميعا - أو بين الناس في المجموعة المعينة التي اختارها موضوعا لبحثه - نرى صاحب الإبداع الأدبي يسير في الاتجاه المضاد، بمعنى أنه يطرح من حسابه ما هو عام ومشترك بين الناس، ليستبقي ما هو خاص بالفراد الواحد الذي جعله مدارا لاهتمامه في إبداعه الأدبي، وواضح أن ذلك التخصيص والتفريد - لا يتناقض مع تصوير الأدب لجماعة من الأفراد - يجمعهم معا في ساحة واحدة ليجعلهم يتفاعلون معا، فيتحابون أو يتنافرون، بل إن ذلك التفاعل البشري، الذي هو عمل الأديب الروائي في المقام الأول، هو من أقوى الوسائل الأدبية إظهارا لحقيقة كل فرد من جماعة الأفراد المتفاعلة بعضها مع بعض، على أن الأديب قد يركز الرؤية على فرد واحد، وربما كان هذا الفرد الواحد هو الأديب نفسه، كما هي الحال فيما يسمى بالشعر الغنائي، الذي ينصب معظم القول فيه على ذات الشاعر نفسه من الباطن، يتعقب خلجاتها في لحظة زمنية بعينها، كالذي نراه في شعر الغزل عند المحبين، وهنا نلاحظ أن عملية «التفريد» والتخصيص، التي تميز الأدب بصفة عامة، إنما تبلغ أقصاها؛ لأنها لا تكتفي بأن يكون «الواحد» المتميز فردا من الناس، بل إنها لتجتزئ من حياة ذلك الفرد الواحد «حالة» واحدة، في «لحظة» واحدة، وقد يقول الشاعر عن نفسه شيئا آخر، إذا ما انتقلت حياته إلى «حالة» أخرى، في «لحظة» أخرى.
وأرجو أن يلحظ القارئ هنا، تلك النتيجة الهامة المترتبة على أن يكون العمل الأدبي قائما - من جهة - على التخصيص والتفريد، لا على التعميم والتجريد اللذين يتميز بهما العمل «العلمي»، وقائما - من جهة أخرى - على أنه ينقل «حالة إدراكية» عند الأديب، إزاء موضوع معين، لا على أن يقدم «فكرة» لها طبيعة الأفكار التي تقدمها العلوم، وتلك النتيجة الهامة التي أشرت إليها، هي ألا يكون من حق المتلقي للناتج الأدبي، لقصيدة الشعر، أو المسرحية، أو الرواية، أن يطالب صاحبها بإقامة «البرهان» على أن ما قد أورده في كلامه صحيح، بالنسبة إلى واقع الأشياء، فإذا قال المتنبي مثلا:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
فلا يجوز لأحد أن يعترض على ذلك بقوله: إن الأعمى لا ينظر، وإن الأصم لا يسمع؛ لأن الشاعر هنا قد أحس تجاه شعره، إحساسه بما يستحيل وجوده في الحياة الواقعة كما يألفها الآخرون، فنقل إحساسه هذا إلى المتلقي، فإذا كان الأثر عند هذا المتلقي هو أن يفتح عينيه، ويفغر شفتيه، ذهولا من ذلك المستحيل الذي عرضه عليه الشاعر، كأن الشاعر قد نجح في توصيل «الحالة» التي اختلجت بها نفسه حين أرادت تلك النفس أن ترى قدرها بالقياس إلى أقدار الأنفس الأخرى.
لكن كيف يتاح لصاحب الإبداع الأدبي أن ينقل «حالته» الإدراكية الخاصة به إلى الآخرين؟ إن ذلك يكون بالطريقة التي يرتب بها كلماته، وذلك «الترتيب» أو «التنظيم» أو «النظم» هو ما يسمونه بالصورة، أو الشكل، أو «الفورم»، ومن هنا كان «الشكل» - أعني الطريقة التي رتبت بها أجزاء العمل الأدبي بجميع أنواعه - شرطا ضروريا لأي عمل يراد له أن يكون أدبا أو عمم هذا القول إن شئت، وقل: إن «الشكل» شرط ضروري لكل فن، أدبا كان ذلك الفن أم كان فنا آخر من فنون التشكيل والتعبير، والمراد بالشكل في أي تكوين فني، بما في ذلك، «الأدب»: هو ذلك التنظيم الذي يجعل المتلقي، إذ هو ينتقل من جزء إلى جزء يليه، يبني في نفسه - جزءا جزءا - «حالة» نفسية، هي ذاتها الحالة التي اختلجت بها نفس الفنان، فأخرجها كما أخرجها، بحيث إذا ما جاء المتلقي إلى خاتمة مطافه، كانت تلك «الحالة» قد اكتمل وجودها عنده، وأنه لأمر يتعذر حدوثه، إذا لم تكن القطعة الفنية قد صيغت كما صيغت، ورتبت أجزاؤها كما رتبت.
ولما كانت كل حالة إدراكية أو وجدانية، مما يجيء به تيار الوعي في نفس الإنسان، فريدة نوعها، بمعنى أن تكون معدومة النظائر، لا عند الآخرين فحسب، بل عند صاحبها نفسه؛ لأنه إذا ما امتلأ - مثلا - بحالة من «اليأس» في لحظة بذاتها، ثم انتقل في لحظة أخرى إلى حالة أخرى من حالات «اليأس»، فلكل من هاتين الحالتين ظروفها، التي لا تجعل الحالتين تتساويان كما يتساوى الشطران في معادلة رياضية، بل إن المذاق ليختلف بينهما برغم اشتراكهما معا في أسرة «اليأس»، ولو لم يكن الأمر كذلك، لاكتفينا من قيس في حبه لليلى، بقصيدة واحدة، بل لاكتفينا منه ببيت واحد، ومن ذلك نفهم أن متلقي القطعة الفنية إذا تكونت لديه «حالة» كالحالة التي اختلجت بها نفس الفنان، وهو يبدع، لم يكن معنى ذلك أن يتطابق الأصل والصورة تطابق الشيء وانعكاسه في المرآة؛ لأن لكل من الفنان ومتلقي فنه، حياته الخاصة وظروفها، فيكفي إذن أن تجيء الحالة عند الفنان، وانعكاسها عند المتلقي، كالأخوين في أسرة واحدة، يتشابهان لكنهما كذلك يختلفان.
Halaman tidak diketahui