كانت حيرة كهذه قد أخذت بعقول الناس في الغرب وقلوبهم، لكنها حيرة المتعثر يبحث عما يقيله من عثرته، وسنحاول التوضيح بضرب الأمثلة: فقد غمضت أمامهم «بديهية» الحرية الإنسانية حتى تساءلوا لمن تكون؟ إنها في الأساس بديهية تمليها فطرة الإنسان وتتفهمها فطرة الإنسان ولا إشكال، لكن غبار الحرب هناك قد ران على قلوب الناس هناك وعقولهم، فقال قائل منهم: إن الحرية إنما هي لكل فرد على حدة؛ ليكون ذلك الفرد الحر مسئولا ومصونة كرامته، لكن صوتا آخر ترددت أصداؤه ليقول: بل إن الحرية هي حرية المجموع، وليس للفرد داخل هذا المجموع إلا ما للخلية الواحدة داخل الكيان العضوي، فهي تؤدي ما تؤديه في إطار ما يوجبه عليها مجموع الكيان، فإذا تمردت خلية بأن نشطت لحسابها هي، أصيب الكيان العضوي بالسرطان الذي يؤدي بحياته وشيكا، وعلى أساس هذا الاختلاف في وجهة النظر انقسم الغرب قسمين: قسم غربي الغرب، يؤمن بأن تكون الحرية للأفراد فردا فردا، لا يجد الفرد منهم إلا قوانين تسن لئلا تطغى حرية مواطن على حريات مواطنيه، وأما القسم الثاني فهو شرقي الغرب، جعل الحرية لكتلة المجموع القومي، وعلى الأفراد أن يسيروا في أفلاك ترسم لهم في مراكز العبادة العليا، وكان الزعم في أقطار الشرق الأوروبي، أنه إما حرية للأفراد وإما عدالة بينهم، ولا تجتمع حرية وعدالة معا؛ لأن النشاط يغلب أن يطغى به المواطن القوي على مواطنيه الضعفاء، وقد اختار الشرق الأوروبي من الضدين طرف العدالة، ثم فهم الحرية على الضوء الذي يجعلها صفة تلحق المجتمع في كتلته، ولا كذلك أقطار الجانب الغربي من الغرب، إذ جعلت الأولوية للحرية، زاعمة في الوقت نفسه بأنه لا تضاد بين حرية وعدالة إذا ما وضعتا في منظور صحيح، وكانت الصيغة التي وضعها غرب الغرب لتدل على فكرته هي: أن الفردية لا تفهم مجردة، بل تفهم على أن الفرد «فرد في مجموع» والفرق بين الحالتين واضح، فالفرد في النظرية «الشمولية» لا يستطيع أن يتمرد على مجتمعه فيهجره إلى مجتمع آخر، وأما في نظرية الآخرين، فالفرد من حقه أن يرفض الإقامة في مجتمعه ويهاجر، ولقد شغل المفكرون الكبار في أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية بالتنظير الصحيح للعلاقة بين الفرد والمجتمع، وكان من المصادفات السعيدة لصاحبنا وهو في غربته، أن أنشأت الإذاعة البريطانية قناة أسموها يومئذ بالقناة الثالثة، تخصص لكبار الكبار من رجال الفكر عندهم، فأذاع فيها مفكرهم الفيلسوف برتراند راسل سلسلة أحاديث عن «الفرد والمجتمع» واستمع إليها صاحبنا ليخرج منها بحصيلة فكرية أعمق ما يكون التفكير وأقوى.
ومثل آخر نسوقه للحيرة الفكرية في أوروبا وأمريكا بصفة خاصة بعدما ألقت الحرب العالمية الثانية بركامها، مشكلة «العلم» في حياة الإنسان المعاصر، إنه لم يكن للعلم مشكلة قط في أي عصر سابق من عصور التاريخ، لكنه كان على مدى القرون السابقة علما بغير أنياب وأضراس، إنه لم يكن قط علما يتسلل بمخالبه في حياة كل إنسان مهما تكن درجة فقره وانفراده لأن العلم وراءه بأجهزته؛ وذلك لأن علم هذا العصر ينفرد وحده بأنه علم تقني «تكنولوجي»، أي إنه يقوم على أجهزة وينتج أجهزة، وإن الأجهزة والآلات تنتج بدورها أجيالا جديدة من أجهزة وآلات، جيلا بعد جيل، وكل جيل منها أدق من سلفه وأقوى وأنفذ إلى الخفايا والحنايا والأبعاد والأعماق، ومن هنا يجيء نفعه ويجيء خطره معا، وحسبك أن تنظر إلى جانب واحد منه، وهو الخاص بالقوة النووية، كيف يمكن أن تهلك وتفني من تهلكه وتفنيه، لكنها في الوقت نفسه مارد جبار أخرجه العلم من قمقمه الذي لبث حبيسه دهورا بعد دهور، له من القوة ما يستطيع أن يرفع حضارة البشر درجات، فماذا نحن صانعون إزاء العلم الجديد في جبروته نفعا وضرا؟ يقول قائل: دعه ينطلق إلى آخر مداه، ويقول آخر: بل لا بد له من حد أقصى يقف عنده حتى لا يهلك البشر. وتفنن رجال الفن والأدب في تصوير ما عساه ينجم عن العلم من شر إذا طغى، فهذا «أولدس هكسلي» يكتب روايته العلمية «عالم طريف» لينذر بها الإنسان بفداحة الشر إذا هو ترك العلم الجديد يمضي إلى غير حد معلوم، ولا أول ولا آخر لما تبدعه أقلام الأدباء هناك من «خيال علمي» يستنبط النتائج التي قد تتولد للناس من معطيات العلم الجديد، وفوق هذا كله فليس في رجال الفكر والأدب هناك، من لا يلحظ ما قد أصاب الإنسان من علل نفسية تؤرقه وتقلقه وتنغص عليه حياته؛ لأن العامل تحت ضغط الأجهزة والآلات بدقتها وحدتها قلما ينجو من الشعور بالضيق والإرهاق والشعور بعبث الحياة التي يحياها؛ لأنه بعد يوم مضن يمسي ليصبح في يوم مضن آخر، دون أن يعلم شيئا عن القيمة الحقيقية لما يعلمه؛ وذلك لأنه في أغلب الحالات لا ينفرد بعمل متكامل يشهد له أولا ووسطا وثمرة، والأغلب أن ينحصر واجبه في جزيء صغير من عملية كبرى لا يدرك هو أطرافها بين بداية ونهاية، وسؤال الفكر والأدب والفن هناك لا ينقطع عن القول: ماذا نحن صانعون ليبقى العلم الجديد في قوته، ولينجو من شره الإنسان في الوقت نفسه؟
وهو سؤال تملي البداهة بعض جوابه، بأن تبث في الناس «ثقافة» يعتدل بها الميزان، فليست حياة الإنسان علما كلها، بل فيها من الجوانب الأخرى ما ليس يقام على منطقية العقل العلمي، كالدين والفن والأدب، مما يعتمد على الجانب الوجداني، ويحمل في ثناياه ما يلطف حدة العلم وصرامة وقعه، خصوصا وهو متمثل في تقنيات «تكنولوجيا» في المصانع وغير المصانع، ومن أهم قنوات الزاد الثقافي وسائل التعليم ووسائل الإعلام، ومن هنا لوحظت عناية الدول الكبرى التي عانت ويلات الحرب قبيل أن تبلغ الحرب ختامها، بأن تعد العدة لتطويع الجهاز التعليمي بصفة خاصة، تطويعا يمكنه من تنشئة الجيل الجديد تنشئة تتناسب مع الظروف الحضارية الجديدة، هذا فضلا عن إقامة منظمة يونسكو، التي هي جناح من أجنحة هيئة الأمم المتحدة، أريد بها أن تتولى الميادين الثقافية في شتى أقطار الأرض، بالعون وبالتوجيه، وبالعمل على تبادل الثقافات المختلفة وتفاعلها بما يؤدي إلى روح الإخاء بين الناس، فحالة السلام وحالة الحرب كلتاهما ينتج، عما ملئت به، رءوس الناس وقلوبهم من أفكار ومشاعر، فإذا استبدلت بأفكار البغضاء ومشاعر الكراهية أفكار للتعمير والبناء، ومشاعر للصفاء وللإخاء، تبدل المناخ الثقافي الذي يتنفس الناس هواءه، واتجهت سبل الحياة كلها نحو ما يبعث في النفوس طمأنينة تنعكس على مؤسسات العلم التقني الجديد متجهة به نحو الخير، وإن للإنسان في عقيدته الدينية وفي نشوته الفنية، وفي ساعات فراغه إذا أحسن توجيهها بثقافة رفيعة، ما يرد لإنسانيته ذلك المفقود الذي أهدرته آليات العصر الجديد.
كثيرون هم أولئك الذين ينظرون إلى عصرنا نظرة سطحية، فيأتيهم الظن بأنه عصر تمزقت أواصره، وتناقضت نظراته، ولا شك في أن ذلك هو ما يبدو للعين المجردة، وحسبه تمزيقا أنه اختلف غربا مع شرق وبينهما موقف محايد، كما اختلف شمالا غنيا بصناعاته وجنوبا فقيرا بمواده الخام، وحتى إذا جاوزنا ظواهر السطح لننظر فيما وراء ذلك من أعماق فلسفية، يقينا بأن في تلك الأعماق وحدها تجد روح عصرها، فسوف يصادفنا هناك ما قد يؤيد التمزق والتفرق؛ لأننا واجدون هناك حوارا للفكر يختلف باختلاف الرقعة الجغرافية: ففي الولايات المتحدة الأمريكية، التي هي المنشئة الأولى لحضارة هذا العصر، وقد أقامتها أساسا على العلوم الطبيعية، ولم يحدث قط فيما مضى أن قامت حضارة على هذا الأساس في المقام الأول، أقول: إننا هناك واجدون منحى فلسفيا يجعل تعريف «الحق» مرهونا بالنتائج، فما حسنت ثمرته فهو حق وما ساءت ثمرته فهو باطل، وفي الشمال الغربي من أوروبا متجه فلسفي آخر، يجعل تحليل العلم إلى ذراته المنطقية مشغلته الأولى، على اعتبار أننا في عصر العلم، وأول واجب على صاحب الفكر الفلسفي أن يصور حقيقة عصره بلغة «الفكر»، وفي غربي أوروبا متجه فلسفي ثالث له ظهور أكثر من سواه، يتجه باهتمامه نحو «الإنسان» من حيث هو كذلك، فبأي شيء يتميز، وبأي حياة يستطيع تقرير ذاته وإثبات وجوده، فإن كانت جذور حياته ضاربة في أصول نشأته الثقافية الأولى وجب البحث عن تلك الأصول لنصب عليها الضوء، وفي شرقي أوروبا متجه فلسفي رابع له طريقته في فهم التاريخ على نحو يجعل أصابع الأيدي العاملة أوغل في حقيقة الإنسان من نواتج عقله ووجدانه، فهذه إنما هي فرع تفرع من تلك، وفي كثير من البلاد غير الأمريكية والأوروبية لها متجهات فلسفية أخرى غير الأربعة المذكورة يغلب عليها بصفة عامة أولوية الروح على المادة، وإذا كان عالم اليوم مشتت النظر على هذا النحو، فبأي معنى يحق له أن يكون «عصرا» فيه ما يوحده؟
لكن صاحبنا وهو يدير بصره فيما حوله، يوم أن كان الزمن لا يزال في الأعوام الأخيرة من أربعينياته، وجد وراء هذا الاختلاف كله محورا يجتمع عليه الرأي كله، وهو «الإنسان» ذاته ووضعه موضع الصدارة يكون غاية في ذاته، وجميع ما هنالك مما نرى ونسمع إنما هو - من وجهة النظر في هذا العصر - وسائل تخدم تلك الغاية، أو ذلك هو ما ينبغي أن يكون، وهي نظرة لم تكن، وإنما فيما سبق هي المحور الذي تتجمع حوله الأشتات.
هكذا أرسل صاحبنا البصر من بعيد ليرى في ساحة الحياة الثقافية عند أهله جماعات وتيارات لا تتقاطع خطوطها في نقطة تلتقي عندها، كلا ولا هي تمتد نحو الأفق لتتلاقى عند هدف واحد مشترك، نعم كان صاحبنا يعلم كذلك أن بلاد الغرب من حوله تصطرع بالأفكار المتعارضة وبالمواقف المستعصية، لكنه كان يلحظ أن كل ذلك يصاحبه عندهم فكر أصيل جاد هادف، يحاولون به أن يجدوا للمشكلات حلولها، وخلاصة الفرق بيننا وبينهم هو أنهم يعيشون عصرهم الذي صنعوه بأيديهم ونسجوا خيوط على أنوالهم بكل حسناته وسيئاته، وأما نحن فنقف وقفة تشبه الرفض الذي يأبى على صاحبه أن يخوض هذا البحر الهائج الذي هو عصرنا، وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين لنا ماذا تكون النتيجة إذا تلاقى أبناء العصر بقوته وعلمه وسلاحه وصناعته ودهائه، مع أبناء الرفض بما لحقهم من ذبول وضعف، فجاء لهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية بدولة إسرائيل التي هي في الحقيقة اختصار لهذا العصر، ثم تلاقى الجانبان في حرب كانت نتيجتها صارخة: بأن الويل لمن يتلكأ رافضا لعصره بما فيه من جوانب القوة ومحاولا أن يتقي ما فيه من عوامل الضعف.
رؤية واضحة «1»
عاد الغريب إلى وطنه وفي قلبه حنين، وفي عقله عزم وتصميم، لم يكن ما طرأ عليه من التحولات هناك من طراز ينقل الكائن الحي من جنس إلى جنس آخر، كالتحول الذي تصوره «كافكا» حين تخيل إنسانا تعتمل في جوفه عوامل حولته إلى خنفساء، بل كانت تحولاته هناك أشبه بشجرة لم تكن قبل انتقالها قد أزهرت، فأزهرت هناك زهرتها التي لم تنبثق من عدم، بل نقلت الشجرة إلى الأرض الغريبة وإرهاصات الأزهار كامنة في أصلابها، فإذا كان للتربة الغريبة فضل عليها، فهو فضل الإسراع نحو النضج لما كان قبل ذلك قد اختمرت خمائره، وما أكثر ما يستهين الإنسان بالبذرة الضئيلة متناسيا أنها تحمل في جوفها شجرة قوية الجذع، متشابكة الفروع، غزيرة غنية الثمر، لم يكن ينقصها إلا أرض تمدها بالغذاء، وسماء تسقيها الماء، ومناخ يجود عليها بالهواء الطلق والضياء الهادي.
وهكذا سافر صاحبنا حين سافر، وحقوق الإنسان تداس تحت أقدام الأقوياء ورؤى الناس يغشاها الضباب، يقرأ ويسمع عن شعوب أخرى تقدمت فلا يسهل فيها أن تهان كرامة إنسان، ولا يكثر فيها أن تختلط عند الناس أحلام ووقائع، وأدرك الفرق البعيد بين الحالتين: فحالة منهما يحياها مع سائر مواطنيه، والأخرى يتصورها بخياله، وهو تصور هين قريب المنال، رآه وعبر عنه بالقلم منذ أواخر الثلاثينيات وأول الأربعينيات من أعوام القرن، إذ صور لنفسه حياة الإنسان السوي في دائرتين: دائرة منهما للعقل وأحكامه، والأخرى للقلب وخلجاته، في الأولى تنتج العلوم بكل فروعها، ومع العلوم تلك الأحكام العامة التي يطلقها الإنسان استقطابا لخبراته، وفي الثانية يكون الإيمان بما يؤمن به، ويكون الفن، ويكون الأدب، وتكون مكابداته ومعاناته بما ينفعل به من حب وكراهية، ورضا وسخط إلى آخر هذه الحالات التي خبرناها جميعا، وبهذه الصورة البسيطة كان صاحبنا، منذ ذلك الزمن البعيد، قد رأى لنفسه أن سر التقدم والازدهار هو أن نوفي لكل من هاتين الدائرتين حقها، وألا نخلط بينهما قط، بحيث نبحث في دائرة العقل عما تختلج به القلوب، أو نبحث في دائرة الوجدان عن منطق يستدل ويقيم البرهان، وأن الإنسان ليصيبه شلل ثقافي وحضاري، بنفس القدر الذي يخلط فيه بين المجالين، صورة بسيطة - كما ترى - لكن بساطة التصوير لا تغني بعد فقر ولا تشبع بعد جوع، حتى ولو أصابت فيها الرؤية، وصلحت أساسا لبرنامج فكري واف بتفصيلاته، كاف لتغيير الحياة التي يحياها الناس، وكان أن أغنى صاحبنا في غربته ذلك الإطار البسيط الذي سافر به، وأشبعه تفصيلا وتحليلا، مهتديا بكثير من روافد الفكر هناك، ثم عاد إلى وطنه محدد الرأي واضح الرؤية.
أول الفكر «فرض» يسبق إلى ذهن المفكر على ترجيح منه بأن ذلك العرض هو مفتاح الحل الذي نتخلص به من المشكلة المطروحة بغير ذلك «الفرض» الذي يوضع في صدر الطريق الفكري نفقد العتبة التي يقفز منها إلى النتيجة أو مجموعة النتائج، حتى إذا ما فرغنا من استخراج ما يمكن استخراجه من «الفرض» الذي فرضناه، كان الفيصل بعد ذلك بين الصواب والخطأ هو صدق تلك النتائج على الواقع الذي كان بادئ ذي بدء قد أشكل علينا، ومن أين يأتينا ذلك «الفرض»؟ إنه يأتي استلهاما لما بين أيدينا من تفصيلات جمعناها عن الواقع الذي أحسسنا فيه بما أشكل علينا فأردنا معالجته بحل يفض إشكاله.
Halaman tidak diketahui