ترجمة المؤلف
هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي. وقد اختلف في موطنه، فقيل: كان من قزوين، وقيل: كان من رستاق الزهراء من قرية كرسف جياناباذ، وقيل: إن أصله من همذان، وقيل: بل كان مقيمًا بها مدة. ويبدو أن تنقّل ابن فارس في بلاد شتى، وإقامته زمنًا طويلًا في بعضها، هما سبب الخلاف في معرفة وطنه الأول. وإن كانت نسبته المشهورة "الرازي" إلى مدينة الري، التي أقام فيها "ليقرأ عليه مجد الدولة أبو طالب بن فخر الدولة بن بويه الديلمي صاحب الري، فأقام بها قاطنًا"، إلى أن وافاه الأجل في صفر سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، "ودفن بها مقابل مشهد قاضي القضاة أبي الحسن علي بن عبد العزيز يعني الجرجاني".
وكان والده "فقيهًا شافعيًا لغويًا، وقد أخذ عنه أبو الحسين، وروى عنه في كتبه، كما أخذ عن "أبي بكر أحمد بن الحسن الخطيب
1 / 5
رواية ثعلب، وأبي الحسن علي بن إبراهيم القطان، وأبي عبد الله أحمد بن طاهر المنجم، وعلي بن عبد العزيز المكي، وأبي عبيد، وأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. وكان ابن فارس يقول: ما رأيت مثل ابن عبد الله أحمد بن طاهر، ولا رأى هو مثل نفسه".
وأما تلامذته، فأشهرهم بديع الزمان الهَمَذاني، الذي قال الثعالبي في ترجمته: "وقد درس على أبي الحسين بن فارس، وأخذ عنه جميع ما عنده، واستنفذ علمه، واستنزف بحره، ومنهم الصاحب بن عباد، وكان يكرمه ويتتلمذ له، ويقول: شيخنا أبو الحسين، ممن رزق حسن التصنيف، وأمن فيه من التصحيف".
وكان ابن فارس جَمَّ المروءة، رفيع السجايا، "وكان كريم النفس، جوادَ اليد، لا يكاد يرد سائلا حتى يهبَ ثيابَه وفرش بيته". قال ابن الأنباري: "وكان له صاحب يقال له: أبو العباس أحمد بن محمد الرازي، المعروف بالغضبان، وسبب تسميته بذلك أنه كان يخدُمه، ويتصرف في بعض أموره، قال: فكنت ربما دخلت، فأجد فراش البيت أو بعضه قد وهبه، فأعاتبه على ذلك، وأضجر منه، فيضحك من ذلك، ولا يزول عن عادته. فكنت متى دخلت عليه، ووجدت شيئا من البيت قد ذهب، علمت أنه وهبه، فأعبس وتظهر الكآبة في وجهي، فيبسطني ويقول: ما شأن الغضبان؟ حتى لصق بي هذا اللقب منه، وإنما كان يمازحني به".
1 / 6
وكان معدودًا من "رؤساء أهل السنة المجودين على مذهب أهل الحديث". وعلى ذلك لا نعجب حين نراه منحرفًا عن الفلسفة وأصحابها، حتى إنه يفضّل علم العروض عليها، حين يصفه بقوله: "علم العروض الذي يُربي بحسنه ودقته واستقامته على كل ما يتبجح به الناسبون أنفسهم إلى التي يقال لها الفلسفة! ... "، إلاّ أن ابن فارس بالغ في التعصّب لعلم العروض حين فضّله على علوم الطبيعة والحساب، وحين عطف هذه العلوم على الفلسفة، فهو يتابع حديثه عن العروض قائلًا: "ومن عرف دقائقه وأسراره وخفاياه علم أنه يُربي على جميع ما يتبجح به هؤلاء الذين ينتحلون معرفة حقائق الأشياء من الأعداد والخطوط والنقط، التي لا أعرف لها فائدة، غير أنها مع قلة فائدتها تُرِقُّ الدين، وتُنتج كل ما نعوذ بالله منه".
على أن هذا الموقف لا ينبغي أن يفسر بالرجعية كما سماه زكي مبارك، وإنما هو ضرب من تعصب بعض العلماء للعلوم التي ألفوها، وأفْنَوْا حياتَهم في تحصيلها ... ويقابل هذا الموقف فكر متحرر من التعصّب للقديم لقدمه فحسب، فهو يقول في رسالته في الردّ على محمد بن سعيد الكاتب: "ومن ذا حظر على المتأخر مضادة المتقدم؟ ولِمَ تأخذُ بقول من قال: ما ترك الأولُ للآخر شيئا؟ وتدع قول الآخر: كم ترك الأول للآخر؟! .. وهل الدنيا إلا أزمان، ولكل زمن منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطراتُ الأفهام، ونتائجُ العقول؟
1 / 7
ومن قَصَر الآداب على زمان معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ .. ولم ينظر الآخر مثلما نظر الأول حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل ذلك مثل رأيه؟! .. وما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوازل الأحكام نازلة، لم تخطر على بال من كان قبلهم؟! .. ".
وقد وصف ابن فارس بأنه "كان إمامًا في علوم شتى، وخصوصًا اللغة، فإنه أتقنها".
وقال أبو عبد الله الحميدي: "سمعت أبا القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني يقول: كان أبو الحسين أحمد بن فارس الرازي من أئمة أهل اللغة في وقته، محتجًا به في جميع الجهات غير منازع".
وقال فيه الباخرزي: "إذا ذكرت اللغة، فهو صاحب (مجملها)، لا بل صاحب المجمل لها، وعندي أن تصنيفه ذلك من أحسن التصانيف التي صنفت في معناها، وأن مصنفها إلى أقصى غاية من الإحسان قد تناهى". وما من شك في أن نظرة إلى مؤلفات ابن فارس تدل على أن حلبته التي كان مجليًا فيها، هي حلبة اللغة وعلومها، حتى لقد قرنت شهرة كتابه "المجمل" بشهرة كتاب العين والجمهرة والصحاح.
وقد وصفه القفطي بأنه "كان يجمع إتقان العلماء، وظرف الكتاب والشعراء". وحقًا نجد فيما وصل إلينا من نثره ما يدل على تمكّنه من
1 / 8
أسلوب الكتابة دون أن يستذله التكلف والسجع، كما تدل مقطعات شعره على حسن التفنن وإحكام الصنعة مع ميل ظاهر إلى الدعابة والتهكم، فمن ذلك قوله:
إذا كان يُؤذيك حرُّ المصيف ... وكربُ الخريف ويردُ الشِّتا
ويُلهيك حُسن زمان الرَّبيع ... فأخذُك للعلم قُلْ لي متى؟
ولننظر إلى قناعة هذا العالم الذي لا يركن إلا إلى سِنَّورٍ أليف، وكتاب لطيف:
وقالوا: كيفَ أنت؟ فقلتُ: خير ... تقضى حاجةٌ وتفوت حاجُ
إذا ازدحمت همومُ القلب قُلنا: ... عسى يومًا يكونُ لها انفراجُ
نديمي هِرّتي وسرور قلبي ... دفاتر لي ومعشوقي السراجُ
ويقال: إنه كان يردد قبل وفاته هذين البيتين:
يا ربّ إن ذنوبي قد أحطتَ بها ... علمًا وبي وبإعلاني وإسراري
أنا الموحد لكني المُقِرُّ بها ... فَهَبْ ذنوبي لتوحيدي وإقراري
ومن أبرز العلوم التي أسهم فيها ابن فارس بنصيب وافر، وكان له فيها جملة مؤلفات هو علم الفقه، وإن لم يبلغ فيه ما بلغه في علوم اللغة من إمامة مجمع عليها.
1 / 9
وقد كان ابن فارس شافعيًا على مذهب أبيه، ثم صار مالكيًا في آخر أمره، وسئل عن ذلك فقال: "دخلتني الحمية لهذا الإمام المقبول على جميع الألسنة أن يخلو مثلُ هذا البلد - يعني الريّ - عن مذهبه، فعمرت مشهد الانتساب إليه، حتى يكمل لهذا البلد فخرُه، فإن الريّ أجمعُ البلاد للمقالات والاختلافات في المذاهب على تضادها وكثرتها" ...
وكان كثيرَ المناظرة في الفقه "وإذا وجد فقيها أو متكلما أو نحويا، كان يأمر أصحابه بسؤالهم إياه في مسائل من جنس العلم الذي يتعاطاه، فإن وجده بارعا جدلًا، جرَّه في المجادلة إلى اللغة، فيغلبه بها، وكان يحث الفقهاء دائمًا على معرفة اللغة، ويلقي عليهم مسائل ذكرها في كتاب سماه كتاب فتيا فقيه العرب، ويُخجلهم بذلك، ليكون خجلهم داعيًا إلى حفظ اللغة، ويقول: من قصر علمه عن اللغة وغولط غلط".
وهو يأخذ على رجال الفقه والحديث وقوعهم في اللحن فيقول: "وقد كان الناس قديما يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرؤونه اجتنابهم بعض الذنوب، فأما الآن، فقد تجوَّزوا حتى إن المحدث يُحدث فيَلْحَنُ، والفقيه يؤلِّف فَيَلْحن. فإذا نُبِّها، قالا: ما ندري ما الإعراب، وإنما نحن محدثون وفقهاء! .. فهما يسران بما يساء به اللبيب.
1 / 10
ولقد كلمت بعض من يذهب بنفسه، ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العليا في القياس، فقلت له: ما حقيقة القياس وما معناه؟ ومن أي شيء هو؟ فقال: ليس عليَّ هذا، وإنما عليَّ إقامة الدليل على صحته! .. فقل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو، ونعوذ بالله من سوء الاختيار".
وتذكر كتب التراجم لابن فارس أربعة كتب في الفقه هي: كتاب أصول الفقه، ومقدمة الفرائض، وفتيا فقيه العرب، وحلية الفقهاء.
فأما الكتابان الأولان - وهما أصول الفقه، ومقدمة الفرائض - فلم يصلا إلينا، وقد ذكرهما ياقوت في سرده لمؤلفات ابن فارس.
وأما "فتيا فقيه العري" فقد ذكره ابن الأنباري وابن خلكان والقفطي واليافعي والسيوطي. وقد ذكر بروكلمان أن مخطوطته في مكتبة مشهد بإيران (١٥: ٢٩، ٨٤)، وقد نشر في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق. وقد وصف السيوطي طريقة ابن فارس فيه بأنها "ضرب من الألغاز"، ووصف ابن خلكان مضمونه بأنه "مسائل في اللغة يُعايى بها الفقهاء". وذهبت بعضُ المصادر إلى أن الحريري صاحب المقامات اقتبس طريقة ابن فارس في مقامته الثانية والثلاثين، وهي المقامة الطيبية، وقد ضمنها نحوًا من مائة مسألة فقهية.
وأما حلية الفقهاء - التي نضعها بين يدي القارئ- فقد ذكرها ابن خلكان وياقوت واليافعي وابن العماد الحنبلي والسيوطي وحاجي
1 / 11
خليفة. وقد وصلتنا مخطوطتها الفريدة من مكتبة إسماعيل صائب بجامعة أنقرة، برقم ١٧١٣ بوساطة أخينا الأستاذ العالم الدكتور فؤاد سزكين، جزاه الله خيرا ونفع بجهوده، وهي في (٥٤) ورقة نسخت سنة ٥٨٩ هـ، وبخط نسخي واضح، ومسطرتها ١٥ سطرا، وقد وقع لصق في أسفل الورقات من ٣٥ - ٥٤ عند التقاء الورقتين، لم يصب الكلام، وقد طغى بعضه على كلمات وكتبت الكلمات فوق اللصق بخط مغاير اجتهادًا، وقد نبهت عليه في موضعه.
وضمت النسخة إلى كتاب حلية الفقهاء بعض المسائل في فقه الشافعية، وقد أبقيتها حيث ورد تاريخ نسخ النسخة في آخرها، وضَنّأً بها عن النسيان.
وجاء في الصفحة الأولى عنوان الكتاب هكذا:
كتاب حلية الفقهاء
تأليف الشيخ الإمام العالم العامل أبي الحسن أحمد بن فارس
﵀ ورضي عنه
ثم مختارات من الشعر بقلم مغاير.
والكتاب شرح لألفاظ الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي التي وردت في مختصر أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، أشهر تلامذة الشافعي، وقد تحرّى المزنيُّ الدقة فقال: "اختصرت هذا من علم الشافعي، ومِن معنى قوله لأقربه على من أراده". وقد نهج ابن فارس نهجًا طيبًا في الشرح، حيث كشف إلى جانب المعنى اللغوي عن مراد الشافعي، ﵁، واحتج له، وبيّن منزلته في العربية.
1 / 12
وابن فارس مسبوق في هذا العمل، حيث ألّف أبو منصور الأزهري المتوفَّى سنة ٣٧٠ هـ، كتابه "الزاهر" في غريب ألفاظ الشافعي الذي أودعه المزني في مختصره ولم يرد في حلية الفقهاء ما يدل على أن ابن فارس رأى كتاب أبي منصور الأزهري.
وابن فارس يرى أن اللغة أداة لازمة للفقيه، ومن هنا كان شرحه لكلام الشافعي الذي أورده المزني في مختصره بهذا الكتاب تحفة الفقهاء.
وكتاب ابن فارس هذا، يبدأ بمقدمة ذكر المؤلف فيها بعض تعريفات ومباحث في أصول الفقه، ثم تابع في شرح ألفاظ مختصر المزني.
وأما سائر مؤلفات ابن فارس، فنكتفي بسرد أسمائها، حتى تكتمل صورة هذا العالم الفذ، الذي كان في ميدان اللغة مجليًا، وفي سائر ميادين العلوم مصليًا.
وهذه المؤلفات منها ما وصل إلينا، ومنها ما ذكرته كتب التراجم، ولكنه ضاع في جملة ما ضاع من تراثنا الإسلامي العظيم. وقد بلغت مؤلفات ابن فارس نحوًا من (٤٥) كتابًا ورسالة، ولكننا نرجّح أن بعض هذه المؤلفات وردت بمسميات مختلفة مع أنها مؤلف واحد، وهذا ما نلاحظه حين نقرأ المسرد التالي:
1 / 13
الإتباع والمزاوجة - اختلاف النحويين - أخلاق النبي ﷺ الأفراد - الأمالي - أمثلة الأسجاع - الانتصار لثعلب - أوجز السير - التاج - تفسير أسماء النبي ﷺ تمام فصيح الكلام - الثلاثة - جامع التأويل - الحجر - الحماسة المحدثة - خُضارة - خلق الإنسان - دارات العرب - ذخائر الكلمات - ذم الخطأ في الشعر - ذم الغيبة - رائع الدرر ورائق الزهر في أخبار خير البشر - سيرة النبي ﷺ شرح رسالة الزهري إلى عبد الملك بن مروان - الشيات والحلي - الصاحبي - العرق - العم والخال - غريب إعراب القرآن - الفرق - الفريدة - والخريدة - الفصيح - فقه اللغة - قصص النهار وسمر الليل - كفاية المتعلمين في اختلاف النحويين - اللامات - الليل والنهار - مأخذ العلم - متخير الألفاظ - المجمل - مختصر سير رسول الله - مختصر في المؤنث والمذكر - مختصر في نسب النبي ومولده ومنشئه ومبعثه - مسائل في اللغة - مقالة في أسماء أعضاء الإنسان - مقالة "كلا" وما جاء منها في كتاب الله - المقاييس - مقدمة في النحو - نعت الشعر أو نقد الشعر - الفيروز - اليشكريات.
وأخيرًا فإني أرجو أن يكون في تحقيق "حلية الفقهاء"، خدمة متواضعة لتراثنا الفقهي، وتجلية لجانب من نتاج ابن فارس المتنوع، كما أرجو أن يجد أهل العلم في هذه الرسالة ما يجعلها جديرة بأن تكون "حلية الفقهاء".
الرياض في ١/ ٥/١٤٠٢ هـ ... عبد الله بن عبد المحسن التركي
1 / 14
مصادر ترجمة أحمد بن فارس
(١) نزهة الألباء في طبقات الأدباء: لأبي البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن الأنباري. تحقيق الدكتور إبراهيم السامرائي، مكتبة الأندلس، بغداد، سنة ١٩٧٠ م.
(٢) إنباه الرواة على أنباه النحاة: لجمال الدين أبي الحسن بن يوسف القفطي. تحفيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة دار الكتب المصرية، ١٣٦٩/ ١٩٥٠.
(٣) وفيات الأعيان: لابن خلكان. تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، سنة ١٩٦٨ م.
(٤) معدم الأدباء: لياقوت الحموي. دار المشرق، بيروت.
(٥) يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر: للثعالبي. دمشق ١٣٠٣ هـ.
(٦) دمية القصر وعصرة أهل العصر: لعلي بن الحسين الباخرزي. تحقيق د. محمد التونجي، بيروت، ١٣٩١ هـ.
(٧) مرآة الجنان وعبرة اليقظان: لأبي محمد عبد الله بن أسعد اليافعي. مؤسسة الأعلمي، بيروت ١٣٩٠/ ١٩٧٠.
(٨) شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي. المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت.
(٩) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: لأبي المحاسن جمال الدين يوسف بن تغري بردي. دار الكتب المصرية، سنة ١٣٤٨ هـ.
(١٠) المزهر في اللغة: للسيوطي. دار المعرفة، بيروت.
(١١) بغية الوعاة: للسيوطي. دار المعرفة، بيروت.
(١٢) تاريخ الأدب العربي: لبروكلمان. الترجمة العربية، دار المعارف بمصر، ١٩٦١ م.
(١٣) النثر الفني في القرن الرابع: زكي مبارك. دار الجيل، بيروت ١٩٧٥ م.
(١٤) معجم مقاييس اللغة: لأحمد بن فارس. (مقدمة المحقق الأستاذ عبد السلام هارون)، مطبعة البابي الحلبي، ١٣٨٩/ ١٩٦٩.
(١٥) الصاحبي في فقه اللغة: لأحمد بن فارس. القاهرة، ١٣٢٨/ ١٩١٠.
1 / 15
بسم الله الرحمن الرحيم
باب القول في مأخذ العلم
اعلم أن مَأخَذَ العلم من كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، وإِجْماعِ الأُمَّة، والقياسِ، وهو الاعتبار.
فأما الكتاب، فمِن قولك: كتبتُ الشيءَ. إذا جمعتَه، فسُمِّيَ كتابًا لِما فيه جُمِعَ من الأَنْباء والقَصَص والأحْكام.
وأما السُّنَّة فالسِّيرة؛ يُقال: هو حَسَنُ السُّنَّة: إذا كان جميلَ السِّيرة.
والسَّنَن: الطريق؛ يُقال: خَلِّ عن سَنَنِ الطريق.
واسْتَنَّ الفرسُ، إذا جرى، وكلُّ ذلك يدُلُّ على معنىً واحد، يدُلُّ على أن السُّنَّةَ السِّيرةُ.
وأما الإجماع فمِنْ قَوْلِنا: أجْمَعَ الناسُ على كذا، إذا أصْفَقُوا. وأجمعوا أمْرَهم. إذا اتَّفَقُوا عليه. قال الله تعالى: (فَأجْمِعوا أمركم
1 / 20
وشُركاءكم). وليس الإجماع باجتماع الشُّخُوص، ولكنْ باتّفاق الأقاويلِ على الشيءِ، لأنَّ اجتماعَ الأشخاص ممّا لا يكاد يكون.
وأما القياس فَفِعْلُ الْقايِس، وهو العِرْفانُ بمقدار الشيءِ، ورَدُّه إلى الذي يُوازِيه، ويُساويه في القَدْر.
أخبرنا عليّ بن إبراهيم القَطَّانُ، قال: أخبرنا المَعْدانيُّ، عن أبيه، قال: حدثنا معروف بن حَسّان، عن الليث، عن الخليل بن أحمد، قال: تقول العربُ: قاسَ يَقيسُ. إنما هو إذا عرف القَدْرَ، كقولك: خَشَبَةٌ قِيسُ أُصْبُع. وتقول: قِسْ هذا الأمرَ بِذا قِياسًا. والمقدارُ: المِقْياس، قال جرير:
1 / 21
عُدُّوا الْحَصى ثم قِيسُوا بالمَقاييسِ
أي: قَدِّروا بالمقادير. وهذا صحيح، لأن رَدَّ الأشكالِ بعضِها إلى بعضٍ قياسٌ، وتقديرَ الفُروع بأصولها قياسٌ.
وبعضُهم سَمَّى ذلك اعْتِبارًا، وأصلُ الاعتبارِ من قولِك: اعْتبرتُ الرُّؤْيا عِبارةً وعَبْرًا. إذا تَأَوَّلْتَها، وعَبَرْتُ الدَّراهمَ، إذا عرفت وزنَها.
وحُدِّثْنا عن الخليل، بالإسناد الذي ذكرنا آنِفًا، أنَّ تعبيرَ الدنانير وَزنُها دينارًا دينارًا. فإن يكُنْ ذلك كما ذكرناه، فالاعتبارُ يعرفُ مقدارَ الفروع فَرْعًا فرعًا ورَدُّها إلى الأصل، كما أنَّ الدنانيرَ يَجْمعُها الوزنُ.
1 / 22
باب القول في العلم والفقه
أما العلم فَمن قولك: علمتُ الشيءَ وعَلِمْتُ به، وهو عِرْفانُكَهُ على ما بِهِ، يُقال: عَلِمْتُه عِلْمًا. وقد يكون اشتقاقُه مِن العَلَم والعَلامة، وذلك أنَّ العلامةَ أَمارةٌ يُمَيَّزُ بها الشيءُ عن غيرِه، وكذلك العِلمُ ممّا يتَمَيَّزُ به صاحبُه عن غيره، وممَّا يدُلُّك على هذا التَّاويلِ قولُه تعالى: (وإنه لعِلمٌ للسّاعةِ). أي: نُزولُ عيسى بن مريم، ﵉، على أُمَّةِ محمدٍ ﵇، به يُعرفُ قُرْبُ الساعة. وناسٌ يقرؤونَها: (وإنه لَعَلَمٌ للسَّاعة) أي: أمارةٌ ودَلالةٌ.
وأما الفقه، فَقِهْتُ الشيءَ: إذا أدْرَكْتَه، وإدْراكُكَ عِلْمَ الشيءِ فِقْهٌ، إلاَّ أنَّ الاخْتِصاصَ في إطلاقِ الفقهِ إنما هو لمعرفةِ الحلال والحرام والقضاءِ بتأويلِ الأحْكامِ، وذلك كَقَولِنا للقَصْدِ حَجٌّ، وإذا أطْلَقْنا الحَجَّ لم نَعْنِ به إلاَّ قَصْدَ البيتِ الحرام، قال الله تعالى: (قد فَصَّلْنا الآيات لقوم يفقهون)، تقول منه: فَقِهَ الشيءَ، يَفْقَهُه، وهو فَقِيهٌ.
1 / 23
باب القول في النظر والجدل والحجة والدليل والعلة
أما النَّظر والمُناظَرة، فمِن قولك: نظرتُ إلى الشيءِ، إذا أنت تأمّلتَه، فكذلك المُتَناظِران يَنْظُر كلُّ واحدٍ منهما إلى ما عند صاحبِه مِن الجوابِ والكلام في الذي قد تنازَعاه.
وأما الجَدَلُ والمُجادلة، فمَأخوذٌ من أحد شيئين:
إمَّا أن يكون من جَدَلْتُ فُلانًا: إذا أنت رميتَه بالأرضِ، والأرضُ الْجَدالَةُ، فإن كان مِن هذا، فلأنَّ المُتَناظِرَيْنِ يُريد كلُّ واحدٍ منهما العُلُوَّ بالحُجَّةِ وتَرْكَ صاحبِه بالْجَدالةِ.
والوَجهُ الآخَرُ: أنْ يكونَ مِن جَدَلْتُ الحَبْلَ: إذا فَتَلْتَهُ وأحْكَمْتَهُ، وجَدَلْتُ الزِّمامَ. والزِّمامُ نفسُه جَدِيلٌ، فإِنْ يكُنْ مِن هذا، فلأنَّ المُتناظِرَيْنِ يكثُرُ تَردادُ كلامِهما ويشْتَدُّ، كما تكثُر قُوَى الحبلِ وتُفْتَلُ، وهذا أصَحُّ الوَجْهَيْن.
وأما الحُجَّة، فإنما سُمِّيَتْ حُجَّةً، لأنها مَقْصِدُ المُحْتَجِّ بها، والذي
1 / 24
يُريدُ تَصْحيحَ دَعواه به، وقد تكونُ الحُجَّةُ مِن: حَجَجْتُ الجِراحةَ، إذا عرفتَ قَدْرَها وقَعْرَها، فكأنَّ الحُجَّةَ نِهايةُ الشيءِ المُخْتَلَفِ فيه.
وأما الدليلُ، فاخْتُلِفَ فيه، فقال قومٌ: الدليلُ على صِحَّةِ الشيءِ، مَن يُعَرِّفُكَهُ، كما أنَّ الدليلَ في الطريقِ مَن يُعَرِّفُكَها.
وقال آخَرونَ وهم الأَكْثرون: بل الدليلُ أَمارةٌ مُتعلِّقة بالشيءِ، يدلُّ على صِحَّتِه وتَفْضيلِه في المعنى على غيرِه.
وأما العِلَّةُ، فالمعنى الذي يَنْتَهي إلى حُكْمِ عِلْمِ الشيءِ به، تقول: أردتُ أمرًا فعارَضَتْني دونَه عِلَّةٌ. أي: أمْرٌ حائِلٌ، وكذلك الحُكْمُ إذا وقَعَ لِعِلَّةٍ ما، مَنَعَتْه تلك العِلَّةُ أن تَحْكُمَ فيه إلاَّ بالحُكْم الذي أوْجَبَتْهُ، فكأنَّا قُلْنا: إنَّ العِلَّةَ في تَحْريمِ الخَمْرِ الشِّدَّةُ، أفَلا ترى أنَّ هذه الشِّدَّةَ مَنَعَتْ متى وُجِدَتْ أن يُسْلَكَ بالخمرِ غيرُ طريقِ التحريمِ؟.
1 / 25
باب القول في الناسخ والمنسوخ
أصلُ النَّسْخِ: إِبْطالُ الشيءِ، وإقامةُ غيرِه مُقامَهُ، يُقالُ: نَسَخَتِ الشَّمسُ الظِّلَّ: إذا أذْهَبَتْهُ وحَلَّتْ مَحَلَّهُ، قال الله تعالى: (ما ننسخْ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها). وكان الخليلُ بنُ أحمدَ يقول: النَّسْخُ: أنْ يُتْرَكَ أمرُ كان مِن قبلُ يُعْملُ به، ثم يُنْسَخُ لحاجة غيرِه، وهو المعنى الذي ذكَرْناه أوَّلًا.
1 / 26
باب القول في الحظر والإباحة
الحَظْرُ: المَنْعُ، يُقال: شيءٌ مَحْظورٌ، أي: مَمْنوعٌ، قال الله تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا). وسُمِّيَتِ الحَظيرةُ حَظيرةً، لأنَّها تَمْنَعُ الشَّاءَ وغيرَها عن الانْبِعاثِ. والمُحْتَظِرُ: المُتَّخِذُ للحَظيرة، قال الله تعالى: (فكانوا كهشيم المحتظر).
وأما الإباحَةُ: فَمِنْ أبَحْتُ الشيءَ، إذا لم تَحْظُرْهُ، وهو ماخوذٌ مِن باحةِ الدَّارِ، أي: مُتَّسَعُها، فسُمِّيَتِ الإباحةُ إباحةً لاتِّساعِ الأمرِ فيها.
وحقيقة الكلام: أن يُجْعَلَ خلافَ الإباحةِ الحِمى، لأنَّ الغالبَ في كلام العرب ذلك. والفقهاءُ يذكرون الحظْرَ والإباحةَ، وكلُّ ذلك شائعٌ ذائع، قال جرير:
أَبَحْتَ حِمى تِهامةَ بعْدَ نَجْدٍ .... وما شيءٌ حَمَيْتَ بِمُسْتَباحِ
1 / 27
باب الخصوص والعموم
أما العُموم: فاشتمالُ الذِّكْرِ أو الحُكْمِ على أشياء يجْمَعُها اللفظُ، كقولنا: ناس ورجال، والخُصوصُ: إفْرادُ شيءٍ دون شيءٍ بالذِّكْر، يُقال: عَمَّ المطرُ. فإذا خَصَّ قيل: خَصَّ، وتَخَلَّلَ، وانْتَقَرَ.
1 / 28