بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
رب يسر وَبِه نستعين
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الأوحد فغر الْإِسْلَام وجماله أَبُو بكر بن أَحْمد الْحُسَيْن الشَّاشِي رَحمَه الله تَعَالَى قدره الْحَمد لله الَّذِي أيد الْإِسْلَام فِي كل عصر بِإِمَام وأقامه مقَام نبيه ﷺ فِي حفظ شَرعه ونصرة دينه وإمضاء حكمه وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد سيد الْمُرْسلين وَآله الطيبين الطاهرين
أما بعد فَإِنَّهُ لما انْتَهَت الْإِمَامَة المعظمة والخلافة المكرمة إِلَى سيدنَا ومولانا أَمِير الْمُؤمنِينَ المستظهر بِاللَّه أعز الله أنصاره ذِي الهمة الْعليا فِي أَمر الدّين وَالدُّنْيَا استخرت الله تَعَالَى فِي كتاب جَامع لأقاويل الْعلمَاء تقربا إِلَى الله تَعَالَى فِي اطِّلَاعه عَلَيْهِ رَجَاء أَن
1 / 53
يكون مَا يصدر عَنهُ غير خَارج عَن مَذْهَب من الْمذَاهب وَينْتَفع بِهِ كل نَاظر فِيهِ فأرزق الْأجر فِيهِ وَالثَّوَاب عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَعلم الشَّرْع منقسم فمتفق عَلَيْهِ ومختلف فِيهِ وَالِاخْتِلَاف منتشر جدا وَمن شَأْن الْمُجْتَهد أَن يكون عَارِفًا بمذاهب الْعلمَاء فَذكرت مَذْهَب صَاحب كل مقَالَة وطريقته فِي مذْهبه كالقولين للشَّافِعِيّ ﵀ والروايتين وَالرِّوَايَات لمن سواهُ وَذكرت طَرِيقَته فِي مذْهبه وَاخْتِلَاف أَصْحَاب كل وَاحِد مِنْهُم فِيمَا فرعوه على اصله من الْمُتَأَخِّرين والمتقدمين وَمَا انْفَرد بِهِ الْوَاحِد مِنْهُم بِاخْتِيَار عَن صَاحب الْمَذْهَب وَالله الْمُوفق لحسن الْقَصْد فِيهِ وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
فصل لَا يجوز للْعَالم تَقْلِيد الْعَالم
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ إِذا خَافَ الْمُجْتَهد فَوت الْعِبَادَة المؤقتة إِذا اشْتغل بِالِاجْتِهَادِ جَازَ لَهُ تَقْلِيد من يعرف ذَلِك
وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن يجوز للْعَالم تَقْلِيد من هُوَ أعلم مِنْهُ
وَفرض الْعَاميّ التَّقْلِيد فِي أَحْكَام الشَّرْع ويقلد الأعلم الأروع من أهل الِاجْتِهَاد فِي الْعلم
وَقيل يُقَلّد من شَاءَ مِنْهُم
فَإِن اخْتلف عَلَيْهِ اجْتِهَاد اثْنَيْنِ
1 / 54
فَظَاهر كَلَام الشَّافِعِي ﵀ أَنه يُقَلّد آمنهما عِنْده فَإِن اسْتَويَا فِي ذَلِك أَخذ بقول أَيهمَا شَاءَ
وَقيل يلْزمه الْأَخْذ بالأشق من قَوْلهمَا
وَقيل يَأْخُذ بالأخف
وَفِي تَقْلِيد الْمَيِّت من الْعلمَاء فِيمَا ثَبت من قَوْله وَجْهَان أظهرهمَا جَوَازه
1 / 55
= كتاب الطَّهَارَة ﷺ َ - بَاب مَا تجوز بِهِ الطَّهَارَة من الْمِيَاه وَمَا لَا تجوز
تجوز طَهَارَة الْحَدث وَالنَّجس بِالْمَاءِ الْمُطلق على أَي صفة كَانَ من أصل الْخلقَة وَحكي عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الله
1 / 56
ابْن عمر ﵄ أَنَّهُمَا قَالَا التَّيَمُّم أعجب إِلَيْنَا من التوضىء بِمَاء الْبَحْر
وَعَن سعيد بن الْمسيب أَنه قَالَ إِذا ألجئت إِلَيْهِ فَتَوَضَّأ بِهِ
فَأَما المَاء الَّذِي ينْعَقد مِنْهُ الْملح كأعين الْملح الَّتِي يَنْبع مِنْهَا المَاء مالحا فَإِنَّهُ يجوز الْوضُوء بِهِ
1 / 57
وَحكي عَن الْقفال أَنه قَالَ لَا يجوز
وَلَا يكره من ذَلِك إِلَّا مَا قصد إِلَى تشميسه وَقيل لَا يكره وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأحمد وَمَالك
1 / 58
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يخْتَص النَّهْي بِمَاء مشمس بتهامة والحجاز
وَمِنْهُم من قَالَ يرجع إِلَى عدُول أهل الطِّبّ هَل يُورث البرص أم لَا
وَمِنْهُم من قَالَ يكره اسْتِعْمَاله فِي الْبدن وَلَا يكره غسل الثَّوْب والإناء بِهِ وَالْمذهب الأول
وَحكي عَن مُجَاهِد أَنه كره المَاء المسخن بالنَّار
1 / 59
وَكره أَحْمد المَاء المسخن بِالنَّجَاسَةِ زَاد فِي الْمُعْتَمد فِي هَذَا الْوَجْه وَأَن يكون فِي آنِية الصفر والنحاس وَأَن تكون مغطاة الرَّأْس
وَمَا عدا المَاء الْمُطلق من الْمَائِعَات كالخل وَمَاء الْورْد والنبيذ وَمَا اعتصر من شجر أَو ثَمَر فَلَا تجوز بِهِ طَهَارَة الْحَدث وَلَا طَهَارَة النَّجس وَهُوَ قَول مَالك غير أَنه قَالَ فِي السَّيْف إِذا أَصَابَهُ دم يجزىء مَسحه
وَقَالَ الْأَصَم وَابْن أبي ليلى يجوز رفع الْحَدث وَإِزَالَة النَّجس بِسَائِر الْمَائِعَات
1 / 60
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف يجوز إِزَالَة النَّجَاسَة بِكُل مَائِع طَاهِر مزيل للعين وَلَا يجوز رفع الْحَدث إِلَّا بِالْمَاءِ
وَأما النَّبِيذ فنجس
وَقَالَ أَبُو حنيفَة هُوَ طَاهِر وَعنهُ فِي جَوَاز الطَّهَارَة بِهِ ثَلَاث رِوَايَات
إِحْدَاهَا نَحْو قَوْلنَا وَهِي أَي أَنه لَا يرفع الْحَدث وَلَا
1 / 61
الْخبث قَول أبي يُوسُف
وَالثَّانيَِة أَنه يتَوَضَّأ بِهِ ويضيف إِلَيْهِ التَّيَمُّم وَهُوَ قَول مُحَمَّد
1 / 62
وَالثَّالِثَة أَنه يجوز التَّوَضُّؤ بنبيذ التَّمْر فِي السّفر عِنْد عدم المَاء
وَاخْتلف أَصْحَابه فِي النَّبِيذ الَّذِي يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ
فَقَالَ أَبُو طَاهِر الدباس يجوز التَّوَضُّؤ بالنبيذ النيء الحلو
وَقَالَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي لَا يجوز التَّوَضُّؤ إِلَّا بالمطبوخ المشتد
وَفِي الفتوحات المكية الَّذِي أَقُول بِهِ منع التطهر بالنبيذ لعدم صِحَة الْخَبَر الْمَرْوِيّ فِيهِ وَلَو أَن الحَدِيث صَحَّ لم يكن نصا فِي الْوضُوء بِهِ فَإِن الْوَارِد أَنه ﷺ قَالَ ثَمَرَة طيبَة وَمَاء طهُور أَي قَلِيل الامتزاج والتغير عَن وصف المَاء وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى مَا شرع لنا الطَّهَارَة عِنْد فقد المَاء إِلَّا بِالتَّيَمُّمِ خَاصَّة
فَإِن كَانَ يحْتَاج فِي طَهَارَته إِلَى خَمْسَة أَرْطَال وَمَعَهُ أقل من ذَلِك فكمله بمائع لم يتَغَيَّر بِهِ لقلته وَتَوَضَّأ بِهِ صحت طَهَارَته فِي أظهر الْوَجْهَيْنِ
1 / 63
وَذكر أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ فِي الإفصاح أَنه لَا يَصح
فَإِن طرح فِي مَا يَكْفِيهِ مَائِعا وَلم يتَغَيَّر بِهِ لموافقته المَاء فِي الطّعْم واللون والرائحة فَفِيهِ وَجْهَان
أظهرهمَا أَنه إِن كَانَت الْغَلَبَة للْمَاء جَازَت الطَّهَارَة بِهِ وَإِن لم تكن الْغَلَبَة لَهُ لم يجز
وَالثَّانِي أَنه يعْتَبر تغيره بِمَا يُغير فَإِن كَانَ قدرا لَو كَانَ مُخَالفا للْمَاء فِي صِفَاته غَيره منع الطَّهَارَة بِهِ
وَالشَّيْخ ابو نصر ﵀ قَالَ يقدر من جِهَة الْعَادة أَن لَا يُخَالِفهُ فِي صفة من صِفَاته
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام فَخر الْإِسْلَام رَحمَه الله تَعَالَى وأيده الله وَوجدت
1 / 64
القَاضِي أَبَا الطّيب ﵀ قد ذكر هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فِي المَاء الْمُسْتَعْمل إِذا طرح على مَاء مُطلق
وَإِن طرح فِيهِ تُرَاب فَتغير بِهِ جَازَت الطَّهَارَة بِهِ
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز
وَمِنْهُم من حكى فِيهِ قَوْلَيْنِ
وَإِن طرح فِي المَاء ملح مائي فَتغير بِهِ جَازَ الطَّهَارَة بِهِ
وَحكي عَن صَاحب التَّلْخِيص أَنه قَالَ يمْنَع من التطهر بِهِ
وَإِن تغير المَاء بِعُود أَو دهن طيب فقد نقل الْمُزنِيّ أَنه يجوز الْوضُوء بِهِ
وَنقل الْبُوَيْطِيّ أَنه لَا يجوز
1 / 65
وَإِن وَقع فِي المَاء قَلِيل كافور فَتغير بِهِ رِيحه فَفِيهِ وَجْهَان
وَإِن تغير بمخالطة شَيْء سوى ذَلِك مِمَّا يَسْتَغْنِي المَاء عَنهُ لم تجز الطَّهَارَة بِهِ وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد
وَمن أَصْحَابنَا من حكى فِي الْحِنْطَة وَالشعِير إِذا طبخا فِي المَاء فَتغير من غير انحلال أَجزَاء وَجْهَيْن
قَالَ الإِمَام ابو بكر وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن التَّغَيُّر بذلك لَا يكون إِلَّا بانحلال أَجزَاء
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه تغير المَاء بالطاهر لَا يمْنَع الطَّهَارَة بِهِ مَا لم يطْبخ بِهِ أَو يغلب على أَجْزَائِهِ بِأَن يثخن إِن كَانَ رَقِيقا أَو فَقَالَ حل فِيهِ مَاء إِن كَانَ مَائِعا
1 / 66
فَإِن وَقع فِي المَاء قطران فَغَيره فقد قَالَ الشَّافِعِي ﵀ فِي الْأُم لَا يجوز اسْتِعْمَاله وَقَالَ بعده بأسطر يجوز وَالْمَسْأَلَة على اخْتِلَاف حَالين لِأَن القطران على ضَرْبَيْنِ ضرب فِيهِ دهنية فَلَا يخْتَلط بِالْمَاءِ وَضرب لَا دهنية فِيهِ فيختلط بِهِ
وَإِن تغير المَاء بطول الْمكْث لم يمْنَع من الطَّهَارَة بِهِ
وَحكي عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ يمْنَع
وَلَا يكره الِاغْتِسَال وَالْوُضُوء فِي مَاء زَمْزَم
1 / 67
وَقَالَ أَحْمد يكره فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ
1 / 68
ﷺ َ - بَاب مَا يفْسد المَاء من النَّجَاسَة وَمَا لَا يُفْسِدهُ
إِذا وَقعت فِي المَاء الراكد نَجَاسَة يُدْرِكهَا الطّرف من خمر أَو بَوْل أَو ميتَة لَهَا نفس سَائِلَة وَهُوَ أقل من قُلَّتَيْنِ نجس وَإِن كَانَ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدا فَتغير فِيهِ أحد أَوْصَافه من طعم أَو لون أَو رَائِحَة نجس وَإِن لم يتَغَيَّر لم ينجس
والقلتان خَمْسمِائَة رَطْل بالبغدادي وَهل ذَلِك تقريب أَو تَحْدِيد فِيهِ وَجْهَان
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ القلتان خَمْسمِائَة منا
1 / 69
وَقَالَ أَبُو عبد الله الزبيرِي القلتان ثَلَاثمِائَة منا وَاخْتَارَهُ الْقفال وبقولنا قَالَ أَحْمد وَأَبُو ثَوْر وَاخْتَارَهُ الْمُزنِيّ
وَحكي عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ ﵄ أَنه قدر المَاء الْكثير بِأَرْبَعِينَ قلَّة وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر
وَمِنْهُم من قدره بكر وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين ووكيع
1 / 70
وَالْكر عِنْدهم أَرْبَعُونَ قَفِيزا والقفيز اثْنَان وَثَلَاثُونَ رطلا
وَقَالَ مَالك الِاعْتِبَار بِتَغَيُّر المَاء بِكُل حَال وَبِه قَالَ دَاوُد ويروى عَن عبد الله بن عَبَّاس ﵁
1 / 71
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه كل مَوضِع تَيَقنا وُصُول النَّجَاسَة إِلَيْهِ أَو غلب على ظننا وُصُول النَّجَاسَة إِلَيْهِ حكمنَا بِنَجَاسَتِهِ وَجعل حَرَكَة المَاء بِوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ عَلامَة على وصولها إِلَى حَيْثُ انْتَهَت الْحَرَكَة وَمَا لم تصل إِلَيْهِ طَاهِرَة من غير نظر إِلَى كَثْرَة وَلَا إِلَى تَغْيِير
وَحكي عَن دَاوُد تَفْرِيع عَجِيب على هَذَا الأَصْل بِدَلِيل خبر حمله عَلَيْهِ ترك الْقيَاس فَقَالَ إِذا بَال فِي مَاء راكد وَلم يتَغَيَّر لم ينجس وَلَا يجوز لَهُ أَن يتَوَضَّأ مِنْهُ وَيجوز لغيره أَن يتَوَضَّأ مِنْهُ
وَإِن بَال فِي إِنَاء ثمَّ طَرحه فِيهِ وَلم يتَغَيَّر لم ينجس وَجَاز لَهُ وَلغيره أَن يتَوَضَّأ مِنْهُ
وَإِن كَانَت النَّجَاسَة مِمَّا لَا يُدْرِكهَا الطّرف فَظَاهر مَا نَقله الْمُزنِيّ أَنه لَا ينجس
وَفِي الْبُوَيْطِيّ فِي الثَّوْب أَنه ينجس أدْركهُ الطّرف أَو لم يُدْرِكهُ
1 / 72