43

Impian Akal

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Genre-genre

وذات مرة سمعت أحدهم يقرأ من كتاب قال إنه لأناكساجوراس، وأكد أن العقل هو المتحكم في النظام، وهو مسبب كل شيء. وسررت بهذا التفسير، وبدا لي منطقيا أن يكون العقل هو مسبب كل شيء، وبدأت أتأمل أن لو كان الأمر كذلك فإن العقل ينظم كل شيء كيفما يلائمه. ومن ثم إذا أردنا أن نعرف سبب حدوث أي شيء أو توقفه أو استمراره يجب أن نتبين أفضل حال لذلك الشيء ...

وقد دفعتني تلك التأملات إلى الاعتقاد أني قد وجدت في أناكساجوراس مرجعية أطمئن لها حول المسببات، وافترضت أنه سيشرع في إخبارنا ما إذا كانت الأرض مسطحة أم كروية، ثم سيسهب في شرح سبب ذلك وضرورته المنطقية بأن يشرح لنا كيف أن ذلك هو أفضل حال وما هي أسبابه. ولم يخطر ببالي أبدا أن يقدم الرجل الذي أكد أن ما تبدو عليه الأشياء من نظام إنما هو نتيجة عمل العقل أي تفسير آخر لها، غير أنها في أنسب حال لها ... (يقول سقراط إنه اشترى بعد ذلك نسخة من أعمال أناكساجوراس.) ... وعندما شرعت في القراءة اكتشفت أن ذلك الرجل لم يستفد من العقل ولم ينسب له أي علة (أي تفسير) لنظام العالم، بل أخذ يقدم أسبابا مثل الهواء والأثير والماء وغيرها من السخافات.

بعبارة أخرى، لم يقدم أناكساجوراس شيئا جديدا. وسأعود لاحقا للحديث عن أهمية تفسير الأشياء بالرجوع إلى العقل وبحث «الحال الأنسب للأشياء». وقد قاد أفلاطون - ويليه أرسطو - ذلك الاتجاه، وعلى مر 2000 عام توارى خلفهما التفكير العلمي ذو الطراز المادي الميكانيكي الذي صاغه أناكساجوراس وعلماء الطبيعة من قبله. وبعد ذلك عاد علم العلم المادي يرفرف فوق سارية الحياة، وازدهر في عهد جاليليو ونيوتن، ولكنه قبل أن يخبو مؤقتا وراء أفلاطون وأرسطو كان قد بلغ أوج مجده في العالم القديم على يد من يدعون «الذريين»، مثل ليوكيبوس وديموقريطس، الذين يعدون في بعض الأوجه من زمرة مفكري القرن السابع عشر، بيد أنهم جاءوا سابقين لزمانهم.

نشأ تفسير أناكساجوراس للطبيعة في ظل فكر بارمنيدس، شأنه في ذلك شأن الذريين من بعده وإمبيدوكليس من قبله، فكان عليه أن يجد سبيلا لإعادة ترتيب العالم المادي المتغير الذي هاجمه بارمنيدس. ورغم أن أناكساجوراس لم يذكر عن العقل ما يرضي أفلاطون فقد ذكر عن المادة الكثير، وذلك ما أعطاه مكانته في ذاكرة تاريخ الفلسفة وليس هجومه على الخرافات . •••

لقد انطلق أناكساجوراس من النقطة نفسها التي انطلق منها إمبيدوكليس، لكنه انتهى في نقطة مخالفة تماما. فإذا كان إمبيدوكليس قد ضاعف «الحقيقة الواحدة» السرمدية غير القابلة للانهيار لدى بارمنيدس وأتى ب «العناصر الأربعة» الخالدة غير القابلة للانهيار، فإن أناكساجوراس كان يطمح إلى مضاعفة عالم ما وراء الطبيعة بطموح أكبر من ذلك؛ فقال إن كل المواد خالدة وغير مخلوقة وغير قابلة للانهيار. ويمكننا تبين مصدر هذه الفكرة إذا نظرنا في التساؤل الغريب الذي اعتراه: «كيف للشعر أن ينشأ من غير الشعر ...؟»

يشير أناكساجوراس في هذا السؤال إلى أن الطعام الذي نأكله ويبدو (في المجمل) أنه لا يحتوي على أي شعر فيه يتحول إلى أجسامنا النامية، التي تحتوي على شعر. إذن فالشعر ينشأ من غير الشعر. ولكن لماذا تحير أناكساجوراس من ذلك؟ يرجع ذلك كما قال أحد أتباع بارمنيدس إلى استحالة نشوء الشيء من العدم أو من شيء مغاير، فدفعه ذلك إلى محاولة تفسير كل الحالات الظاهرة للأشياء التي تأتي إلى الوجود مثل نمو الشعر. وكان إمبيدوكليس قد حاول في نظريته عن العناصر الأربعة تفسير تلك التغيرات قائلا إنها تتمثل في إعادة ترتيب للعناصر؛ فمثلا بترتيب الماء والتراب والنار كما ينبغي تحصل على العظام. ومن ثم فليس هناك أي شيء جديد ينشأ عندما تنمو العظام لأنها ليست إلا نتاج إحدى طرق الترتيب المتعددة التي يمكن لمكونات العالم الموجودة مسبقا أن تترتب عليها. ولكن أناكساجوراس لم ينجذب إلى تلك الفكرة فطرح نظريته المتطرفة.

وتتمثل فكرة أناكساجوراس الجوهرية في أن كل مادة تحتوي على كميات صغيرة من الكثير من المواد الأخرى. وتقدم هذه الفكرة حلا لمشكلة تحول الشيء إلى شيء آخر؛ لأنها تقول إن المادة «الجديدة» كانت موجودة في المادة القديمة طوال الوقت، إذن فليس هناك جديد فيما نشأ. ومن ثم فعندما يغذينا الطعام الذي نتناوله ويتحول إلى شعر أو عظام أو غير ذلك؛ فهذا لأنه يحتوي على الشعر من البداية. ويبدو أن أناكساجوراس رأى أن أي شيء يمكن أن يتحول إلى أي شيء آخر (ربما من خلال مراحل وسيطة عدة)؛ ولذا قال إن كل مادة تحتوي على كميات من الكثير من المواد الأخرى بل من كل المواد الأخرى. ولذلك فما نسميه خبزا يحتوي أيضا على اللحم والماء والتراب والدقيق والذهب وكل شيء آخر لكن بكميات صغيرة؛ حتى إننا لا نرى إلا المادة السائدة وهي مادة الخبز. ويصف أرسطو هذه الفكرة (التي يعارضها) قائلا:

تبدو الأشياء ... مختلفة عن بعضها وتحمل مسميات مختلفة وفقا لما يزيد عدده فيسود بين خليط مكوناتها اللانهائية؛ فليس ثمة ... ما هو بأكمله أسود أو أبيض أو حلو أو عظم أو لحم، وإنما يكتسب الشيء طبيعته مما يغلب بين مكوناته.

كان ذلك حلا يستند إلى الخيال - إذا استخدمنا أخف الألفاظ - مما يسر على الفيلسوف الروماني لوكريتيوس (حوالي 98-55ق.م.) أن يسخر منه في قصيدته «عن طبيعة الأشياء»، فزعم أنه وفقا لنظرية أناكساجوراس «ينبغي أن يظهر على حبات الذرة عند طحنها تحت حجر الرحى علامات وجود الدم أو غيره من المواد التي تغذي أجسادنا.» ورأى لوكريتيوس أن ذلك استنتاج عبثي، ولكنه لو واجه أناكساجوراس بهذا الاستنتاج لقدم أناكساجوراس ردا جاهزا له ولقال إن الذرة بالفعل تحتوي على الدم، ولكن لا يبدو لنا أنها تدمى لأن حجر الرحى لا يستطيع أن يطحنها بما يكفي لنرى جزيئات الدم الصغيرة رأي العين. ولا يكفي النظر للذرة لمعرفة بواطنها الحقيقية.

لقد رأى أناكساجوراس إذن أن الحواس لا تقدم ما يكفي من المعلومات الدقيقة عن العالم. وفي إشارة إلى الكميات غير المرئية الموجودة في الخبز والماء على سبيل المثال، قال أناكساجوراس إن تلك المواد تحتوي على «أجزاء لا يدركها إلا العقل.» أي إن الحجج العقلية لا الحواس هي التي ترشدنا إلى أن الخبز لا بد وأن يحتوي على كميات صغيرة من الأشياء الأخرى. وتشير هذه الحجة إلى أنه لا توجد طريقة أخرى لتفسير تحول الخبز إلى مواد أخرى في أجسادنا ليغذينا. وفي هذا الإطار اتبع أناكساجوراس الفرضية التي قدستها إلهة بارمنيدس والتي تنادي ب «تحكيم العقل» وعدم الانسياق وراء ما ندركه بحواسنا والانخداع به. ولكن أناكساجوراس كان أقل تطرفا وتشددا من بارمنيدس؛ فلم يعمد إلى تحكيم العقل بتجاهل الشواهد تماما، وإنما بمحاولة فهمها فهما معقولا، وأعرب عن ذلك في عبارة غامضة قال فيها: «ما الظواهر إلا لمحة من الغموض والإبهام.» أي إن الحواس ترسم لنا خطوطا ضبابية لفهم العالم فيأتي العقل ليوضحها لنا ويركز عليها.

Halaman tidak diketahui