Impian Akal
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genre-genre
وقد جاء ذكر أناكساجوراس في رواية أفلاطون عن محاكمة سقراط بتهمة الفسق بعد نحو ثلاثين عاما، حيث توجه سقراط إلى أحد متهميه وهو رجل يدعى ميليتوس، وسأله عما إذا كان الاتهام الموجه إليه هو «أني لا أؤمن بأن الشمس والقمر آلهة، في حين أن معظم الناس يؤمنون بذلك.» فأكد ميليتوس كلامه قائلا: «إنه فعلا لا يؤمن بذلك أيها السادة المحلفون؛ فهو يقول إن الشمس قطعة من الحجارة والقمر كتلة من التراب.» وقد أتاح هذا الرد الفرصة لسقراط ليمزح قليلا على حساب ميليتوس فقال: «عزيزي ميليتوس! هل تتخيل أنك تحاكم أناكساجوراس؟ ألهذا الحد تستهين بهؤلاء السادة حتى تظن أنهم جهلاء فلا يعرفون أن كتابات أناكساجوراس الكلازومني مفعمة بنظريات مثل هذه؟»
لا شك أن أناكساجوراس كان مهتما بالفلك اهتماما بالغا ولكن بصبغة أيونية. وقد قيل إنه تنبأ بسقوط نيزك وسقط فعلا على مدينة إيجوسبوتامي في تراقيا عام 467ق.م. صحيح أن هذه القصة أبعد عن المنطق حتى من قصة نبوءة طاليس بالكسوف منذ أكثر من قرن قبله، إلا أن هذه القصة ذات مغزى؛ فربما تكون قصة سقوط صخرة من السماء قد أكدت فكرة أناكساجوراس عن ماهية النجوم. ولا بأس بذلك التخمين عن الأجرام السماوية في أيونيا بفكرها الحر، أما في أثينا المتحفظة فمن الواضح أنه لم يكن مقبولا.
كان أناكساجوراس معارضا للخرافات بشتى أشكالها وليس للخرافات المتعلقة بالنجوم فحسب. وقد روى بلوتارخ في كتابه «حياة بريكليس» قصة إحضار رأس خروف بقرن واحد إلى بريكليس وكان به نتوء في منتصف رأسه، وادعى أحد العرافين - ويدعى لامبون - أن وجود مثل هذا الشيء الغريب على أرض بريكليس يعني أن بريكليس سيصبح قائد أثينا (وهو ما حدث بالفعل). أما أناكساجوراس - كما تروي القصة - فأمر ببساطة بتشريح رأس الخروف، وأوضح أن القرن الوحيد نما على تلك الشاكلة لأن مخ الخروف كان مشوها. ويشير بلوتارخ إلى وجهة نظر أناكساجوراس القائلة إنه لم يكن هناك داع للبحث عن معنى وراء هذا الحدث ما دامت تلك الحقيقة الفسيولوجية قد اكتشفت.
ويبدو أن بريكليس قد أفاد كثيرا من صحبة مستشار شكاك ومحب للاستطلاع مثل أناكساجوراس؛ فقد ألمح بلوتارخ إلى إن بريكليس «تشبع بما يسمى بالفلسفة العليا والتدبر الرفيع» إثر ارتباطه بأناكساجوراس قائلا: «فسمى به أناكساجوراس فوق الخرافات» التي لطالما «أصابت هؤلاء الذين يجهلون أسباب ... الأشياء، فأصبحوا مهووسين بفكرة التدخل الإلهي ...» كما يعزو بلوتارخ جل وقار بريكليس وروح الدعابة التي يتمتع بها لتعرضه لفلسفة أناكساجوراس. كذلك قال سقراط إن فلسفة أناكساجوراس هي سبب مهارة بريكليس في الجدل والبلاغة. لكن مهما كانت الآثار الطيبة التي تركتها رؤية أناكساجوراس للعالم على بريكليس لم يكن سقراط ليأخذها كاملة؛ فقد رأى أنها علمية ضيقة الأفق تهتم كثيرا بالأسباب الميكانيكية للأشياء وتهمل معناها وغرضها.
كان رفض سقراط لرؤية أناكساجوراس نقطة تحول في تاريخ الفلسفة، ويقال أحيانا إنه بيت القصيد الذي تحول فيه الموضوع من دراسة تأملية في الطبيعة إلى دراسة معنوية جادة للإنسان، وهذا ما قاله شيشرون بعد قرابة ثلاثة قرون:
منذ قديم الأزل وحتى عهد سقراط تناولت الفلسفة الحركات والأرقام، وتساءلت عن الأشياء من أين أتت وهل عادت أم لا، كما بحثت الفلسفة بشغف في حجم النجوم والمسافات التي تفصلها ومساراتها وكل الظواهر السماوية الأخرى. أما سقراط فهو أول من أتى بالفلسفة من السماء ووضعها في ميادين الإنسان ... وأكرهها على طرح أسئلة عن الحياة والأخلاقيات والخير والشر.
في هذا الحديث بعض من الصحة ولكن ليس الكثير، فليس صحيحا أن الفلسفة كانت مقصورة على المسائل العلمية حتى مجيء سقراط؛ إذ إن كثيرا من الفلاسفة مثل فيثاغورس وهرقليطس طرحوا «أسئلة عن الحياة والأخلاقيات والخير والشر» قبل سقراط بوقت طويل. وقد كانت أحكامهم الغامضة التي توصلوا إليها في ظل القرن السادس أقل تعقيدا مما قاله سقراط، إلا أنه كانت هناك محاولات أكثر حذقا وحجاجا لتناول مسألة الأخلاقيات في عهد سقراط بأثينا، ولم تكن هذه المحاولات ناتجة عن تأثيره (انظر نهاية الفصل الثامن). وظلت الفلسفة تتناول موضوعات الفلك وغيرها من المسائل العلمية لوقت طويل في أثينا وكل بقعة أخرى في بلاد اليونان لوقت طويل بعد أن أتى بها سقراط من السماء إلى الأرض.
ويرجع عدم اكتراث سقراط بالجانب العلمي من الفلسفة جزئيا إلى أنه وجد ذلك الجانب مثيرا للجدل والخلاف؛ حتى إنه لم يستطع أن يقرر أية مدرسة يتبع من بين المدارس المتخاصمة في ذلك المجال، لكن السبب الرئيس في ذلك هو أنه كان أكثر اهتماما بالإنسان وسلوكه في وقت لم يكن لدى العلم ما يقوله عنهما إلا القليل. كما أن سقراط وأفلاطون وجدا مشكلة أخرى تتعلق بفلاسفة من طراز أناكساجوراس؛ فالفلسفة العلمية التي ناديا بها لم تستفد بدور السبب والغرض في الطبيعة إلا قليلا. ولا نعرف رأي سقراط في هذا المذهب، لكن أفلاطون قال إنه كان يتبنى ذلك الرأي. وكان سقراط يود سماع تفسيرات للطبيعة تحاكي عمل وظائف العقل الذكية، فكان يريد تفسيرا لسلوكيات الطبيعة يشبهه بسلوكيات الإنسان ويشرح ما يقوم به من عمليات في ضوء الأهداف التي كان يسعى إلى تحقيقها.
ويقول أفلاطون إن هذا هو سبب انجذاب سقراط في بادئ الأمر لما سمعه من أناكساجوراس؛ فقد ألمح أناكساجوراس إلى أن ثمة «عقلا» يتحكم في العالم بأسره وفي كل العمليات الطبيعية، ولكن سرعان ما خاب ظن سقراط في هذه الفكرة لأن أناكساجوراس لم يستفد منها حق الاستفادة فقال:
عندما كنت صغيرا كنت شغوفا بالعلوم الطبيعية؛ إذ ظننت أنه سيكون أمرا رائعا أن يعرف المرء الأسباب التي تؤدي إلى وجود الأشياء واستمرارها في الوجود وانقطاعها عنه، وتساءلت: هل صحيح أن المخلوقات تتكاثر عن طريق الاختمار بفعل الحرارة والبرودة كما يقول البعض؟ وهل نفكر بفعل الدماء التي تجري بداخلنا أم بفعل أبخرة النيران المشتعلة داخلنا؟ في النهاية توصلت إلى أنني على وجه الخصوص لست مؤهلا لمثل تلك التساؤلات. لقد حيرتني تلك التأملات حتى إني لم تعد لدي المعرفة التي ظننت أني أعرفها ...
Halaman tidak diketahui