Impian Akal
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genre-genre
ويعرف هذا التفسير بنظرية الحركة الاستاتيكية، ودون قصد تقدم مفارقة سهم زينون سببا قويا لقبولها. وثمة مفارقة أخرى لزينون لن نناقشها في هذا المقام، وهي تظهر دون قصد حقيقة أن حركة شيء ما لا يمكن رصدها إلا من خلال مقارنتها بحركة أشياء أخرى؛ أي لا يمكن أن نقول إن الأشياء تتحرك في ذاتها، وإنما فقط عند مقارنتها بغيرها من الأشياء، وبذلك فإن مفارقات زينون بدلا من أن تنبذ فكرة الحركة من الأساس - وهو ما كان من أهداف زينون المعلنة - فإنها تسوي بين الفكرتين بتوجيهنا إلى فهم أكثر دقة لمفهوم الحركة. •••
ونحن الآن بصدد التعليق على ما حققه زينون من إنجازات. لقد رأينا كيف أثارت مفارقاته العديد من الأسئلة التي حيرت الكثير من مفكري عصره، بل وكثيرا ممن جاءوا بعده بزمن بعيد؛ حيث لم يتمكنوا من تقديم إجابات شافية لها. وكما هو الحال مع بارمنيدس، يمكننا أن نزعم بالنيابة عن زينون أن أحد الأسباب التي تجعلنا نفهم مفارقاته التي تحدث فيها عن طريق السباق على سبيل المثال أو تعريف الحركة، هو أن الألغاز التي ساقها قادت المفكرين من بعده إلى تنقيح أفكارهم ليتمكنوا من التعامل معها. فالأفكار تتطور مع الوقت، ووجود مثل هذه المشكلات التي تثيرها مفارقات زينون هو أكبر عامل مساعد في تطور مثل هذه الأفكار.
ويبدو أن زينون قد شط بعيدا وغالى في حماسه لاصطياد الألغاز والحجج، وهو ما أدى به إلى خلط الحابل بالنابل. ألم يكن من الأفضل لزينون أن يقول إن طبيعة الحركة وفكرة اللانهاية تحتاجان لمزيد من البحث بدلا من إنكار حركة الأشياء بالكلية؟ وبإدراكنا الحالي للأمور يمكننا أن نقول إن الإجابة هي نعم؛ فقد ذهب زينون بعيدا في أفكاره، وهو ما جذب الانتباه إليه على الأقل. ولكن علينا أيضا أن ندرك كم تأخرنا في إصدار هذا الحكم عليه؛ فقد ثبت أنه من الممكن تطوير الأفكار التي تدور حول الحركة وقابلية التقسيم إلى ما لا نهاية وإعادة بنائها لنأخذ اعتراضاته بعين الاعتبار، ولكن لم يكن زينون نفسه ليعلم كيفية القيام بهذا الأمر؛ فقد رأى أن أفكار الحركة وقابلية التقسيم إلى ما لا نهاية محض حديث أجوف لا طائل من ورائه.
وتعرض مفارقات زينون بوضوح كم المعرفة التي قد يحصل عليها المرء من التأملات النظرية؛ فهي تستجلي الأفكار وتستثيرها، وهو أمر مهم لتقدم المعرفة؛ إذ إن الحجج المجردة والتأمل في المفاهيم يلعبان دورا كبيرا في اكتشاف الحقائق عن العالم أكثر مما قد يظنه المرء للوهلة الأولى، فحقيقة أن العلماء يقومون فقط بتسجيل ملاحظاتهم وجمع الحقائق أثناء تجولهم هي اعتقاد خاطئ ويعكس صورة مغلوطة عن مهمتهم الأساسية، فهم يسعون كذلك إلى التوصل إلى طرق لوصف ما يلاحظونه ويحاولون صياغة الحقائق التي توصلوا إليها في صورة نظريات تفسيرية متقنة ويتأملون في الأدلة التي جمعوها. ويمكننا القول إنهم يقومون بإعادة بناء أفكارنا ومعتقداتنا، وهو ما تستخدم من أجله مفارقات زينون وغيره من المفكرين، فيمكن وصف ما تقدمه هذه الحجج بالنقد المفهومي. وهذا النقد لا يمكن وصفه على أية حال بأنه المجال الوحيد الذي يدور في فلكه من يسمون أنفسهم فلاسفة؛ فهو ليس حكرا على أحد بعينه. لا يهمنا من أي مصدر استقى زينون أفكاره ومفارقاته، ولا يهمنا كذلك ما إذا كانت تتناقض مع المنطق السليم الذي نعرفه اليوم ما دامت تعمل على تحفيزنا، وأننا نجد فيها من الدروس ما يمكن الاستفادة منه.
إن التأثير الأكبر لأفكار بارمنيدس وزينون هو إثارة الاهتمام ببعض أعمال مفكري القرن الخامس أمثال إمبيدوكليس وأناكساجوراس وليوكيبوس وديموقريطس (ولا سيما الأخيرين)؛ إذ يمثل هؤلاء الرجال المرحلة النهائية في فكر ما قبل سقراط، تلك الفترة المتوسطة التي شهدت محاولات التسلل خلسة للعودة إلى جنة التساؤل والبحث في الطبيعيات والتي شغلت المفكرين قبل عهد بارمنيدس. ويعد «تحكيم العقل» الذي توصي به إلهة بارمنيدس النصيحة الأفضل ما دامت لا تؤخذ على أنها محض توصية لتجاهل الأدلة، بل باعتبارها نصيحة للتفكير في هذه الأدلة بعقلانية والاستفادة منها. وربما يكون هذا هو ما فهمه الآخرون من مفكري ما قبل سقراط من حديث الإلهة. وكما سأوضح فيما بعد، فقد تخطى اهتمام هؤلاء المفكرين المتنوعين دورهم كورثة متمردين على بارمنيدس وزينون .
الفصل السادس
الحب والصراع: إمبيدوكليس
ابتكر إمبيدوكليس الأكراجاسي (تعرف أكراجاس الآن ب «أجريجنتو» وتقع جنوب صقلية) نظرية حول المادة كانت من البساطة والإقناع بمكان جعل الجميع يؤمنون بالعديد من جوانبها حتى عصر النهضة. والحق أن تبني أرسطو هذه النظرية قد ساعد كثيرا على انتشارها بعد إدخال بعض التعديلات عليها. وفي ظل دعم أرسطو لها، بقيت هذه النظرية سائدة بين أعمال التراث القديم حتى القرن الثامن عشر الميلادي، حيث خضعت لنقد متنور على يد علماء الكيمياء من أمثال بويل. وتقوم النظرية على أن جميع الأشياء تتكون من أربعة عناصر هي التراب والهواء والنار والماء وليس لأيها أفضلية على الآخر، ولكنها تتحد بكميات مختلفة في الأشياء المختلفة. ولنضرب مثالا على إحدى وصفتي إمبيدوكليس اللتين قدمهما من أجل البقاء؛ فالعظام تتكون من جزأين من الماء وجزأين من التراب وأربعة أجزاء من النار. وهذه الوصفة التي ذكرها إمبيدوكليس تغرينا بتقديم وصفة شخصية لإمبيدوكليس نفسه، فهو عالم أولي في جزأين منه، وواعظ فيثاغوري في جزأين آخرين، وصانع أعاجيب في جزء آخر، ولا يخلو من عجرفة هرقليطس ولو شيئا يسيرا.
وقد شبه البعض إمبيدوكليس بفاوستوس؛ ذلك أنه زعم أن المعرفة التي اكتسبها جعلته شبيها بالآلهة ومكنته من ممارسة السحر، فأصبح يحيي الموتى ويتحكم في الطقس (أو «العناصر» كما نسميها أحيانا). وهذا يذكرنا بكلمات ملاك الشر التي قالها ل «دكتور فاوستوس» شخصية كريستوفر مارلو الشهيرة حين قال له:
امض يا فاوستوس في ذاك الفن الشهير،
Halaman tidak diketahui