Impian Akal
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genre-genre
ولكن أرسطو الذي كان يمتلك في جعبته إجابة لكل شيء تقريبا لم تجلب عليه مفارقات زينون لا حزنا ولا كدرا، فقد اعتقد أنه بإمكانه أن يتملص منها رغم أن بعض محاولاته قد باءت بالفشل، ولكنه اعترف بأن زينون هو «مبتكر الجدل». ويعرف أرسطو «الجدل» بأنه طريقة الوصول إلى الحقيقة التي اتبعها سقراط في محاورات أفلاطون الأولى؛ فقد كان سقراط يحب محاورة الناس وسؤالهم عن آرائهم ليتوصل إلى نتائج ما كانوا ليفكروا فيها إلا بفضل أسئلته الثاقبة، وبذلك فقد كان يتمكن بالتدريج من تقويض الأساس الذي بنوا عليه آراءهم وجعلهم يعيدون النظر في الأمور بشكل أعمق ليصلوا إلى إجابة للأسئلة التي بين أيديهم. ويبدو أن سقراط قد أخذ هذه الطريقة من أسلوب زينون التمحيصي؛ ففي المفارقة السابق ذكرها انطلق زينون من رؤية المنطق السليم التي تقول إن الحركة ممكنة (وتحديدا الحركة التي نحتاجها لخوض سباق)، ثم أوضح تدريجيا كيف أن هذه الفكرة قد تقودنا إلى كثير من المشكلات. ويبدو أن زينون كان متخصصا في الحجج التي تدحض آراء خصومه في الحال بينما برع سقراط في إضعاف آراء خصومه ببطء حتى يدحضها تماما، ثم يعطيهم انطباعا بأن هذا لم يكن إلا لمصلحتهم، وإن كان كلاهما قد استخدم الأسلوب السلبي المتمثل في استنتاج النتائج غير المرغوب فيها مما يقوله الآخرون أو مما يعتقدون فيه.
وقد رأى أفلاطون محقا أن أسلوب الجدل الذي استخدمه سقراط كان أسلوبا إيجابيا في نهاية المطاف؛ إذ كان يعد أحد المتطلبات الأساسية للمعرفة، كما أن الغرض منه لم يكن الجدل وتفنيد حجج الآخرين بقدر ما كان محاولة لتصحيح أي خطأ في طريق الحصول على الحكمة، وقد كان سقراط نفسه ينظر لأسلوبه على هذا النحو أيضا.
ولكن يبدو أن أهداف زينون لم تكن على القدر نفسه من السمو والرقي، فلم تكن لديه أية نوايا بناءة على خلاف سقراط، ولم تكن لديه سوى رغبة في الدفاع عن العوار الشديد الذي شاب كثيرا من أفكار معلمه بارمنيدس؛ ولذلك ينظر إلى زينون نظرة سلبية باعتباره سببا لكثير من المشكلات والخلافات وإن كان بارعا، ولكن التاريخ أنصفه ليس بكشف الغطاء عن جوانب الخير في حياته أو بإثبات صحة النتائج التي توصل إليها، ولكن باكتشاف جانب دائم الاستفزاز والاستثارة في مفارقاته. كما كتب الفيلسوف وعالم الرياضيات ألفريد وايتهيد عام 1932 ميلادية قائلا: «إن محض الإقبال على تفنيد مفارقاته على مدار كل قرن هو دليل على النجاح الباهر الذي حققه زينون ... فلم يدرس أحد فلسفة زينون دون أن يحاول تفنيدها، ورغم ذلك يرى الفلاسفة في كل قرن أن آراءه ما زالت تستحق التفنيد.» •••
لقد كتب لمفارقات زينون - خاصة تلك التي تحدث فيها عن الحركة - أن تعمر أطول من المفارقات الأخرى التي ذاعت في عهد ما قبل سقراط؛ فقد ناقشها علماء الرياضيات وعلماء الطبيعة والفلاسفة بالتفصيل، وتناولوها بالذكر منذ أن كتبت على يديه حتى يومنا هذا. وقد نفخ برتراند راسل في هذه المفارقات روح حياة في أوائل هذا القرن لم تبلغ أرذل عمرها حتى الآن، بل إنها زحفت إلى مجالات أخرى حيث اتسع استخدامها ليشمل تحليل بعض الأعمال الأدبية بدءا من رواية (الحرب والسلام) لتولستوي (التي استخدمت فيها هذه المفارقات؛ لإقامة علاقة تشبيهية ضعيفة بين إدراك الحركة وفهم التاريخ) ووصولا إلى مسرحية هزلية من أدب القرن العشرين (استخدمت فيها إحدى مفارقات زينون المعقدة لإضفاء جو من المرح على أحداث المسرحية).
ولا تثير هذه المفارقات إعجابنا حتى الآن فحسب، بل يقال إن تأثيرها لا يزال فعالا حتى الآن، وإن ثمة دروسا علينا أن نتعلمها منها. وينطوي هذا الادعاء المثير للإعجاب على شيء من الحقيقة وإن كان مضللا إلى حد ما. إن مفارقات زينون تدين بالفضل في البقاء حتى الآن إلى حقيقة أننا لا ندرك كنهها بالتحديد، فنحن نعتمد في الحديث عن أشهر مفارقاته على التلخيصات المقتضبة الغامضة وربما غير الدقيقة التي قدمها لها أرسطو، وهذا يعطي مساحة كبيرة للنزاع، وهو ما يعني كذلك أن المعلقين على فلسفته يمكنهم أن يتلاعبوا بالتفسيرات ويعيدوا تفسيرها وفقا لرؤيتهم، بل ربما يعزون بعضا من أفكارهم إلى زينون وينسبونه إليه في نصوصه المفقودة. كما أن كثيرا من هذه المفارقات يتضمن حديثا عن اللانهاية بطريقة أو بأخرى. وبما أن هناك الكثير مما يمكن أن نقوله عن هذه المفارقات فهناك الكثير أيضا مما يمكن أن نقوله عن فكرة اللانهاية (بل إن هذا أصح وأقوى). ويميل الفلاسفة والعلماء من مختلف العصور إلى استخدام مفارقات زينون كمشجب يعلقون عليه أفكارهم التي تتناول اللانهاية، منها على سبيل المثال إمكانية تقسيم المكان والمادة ومفاهيم الوقت والحركة. أما وقد دفع زينون المفكرين إلى اقتحام عالم اللانهاية المحموم بالمشكلات فقد فتح طاقة من جهنم أخذت تقض مضجع عالم مثل نيوتن بعد أكثر من ألفي عام، بل لا تزال هذه المفارقات يستشهد بها في النزاعات المعاصرة بين علماء الفيزياء.
ويبرز هنا أحد الجوانب الإيجابية في مفارقات زينون؛ فقد تخطت مجالها لتفتح آفاقا أوسع للحديث بدلا من التقيد بما ورد فيها. ويمكننا أن نأخذ على سبيل المثال سباق أخيل وأن نفسره على النحو التالي: لا شك أن أخيل إذا أراد أن يجتاز أية مسافة فعليه أولا أن يجتاز نصفها، وهكذا إلى ما لا نهاية ، وهذا يعني أن هناك، بمعنى ما، عددا لانهائيا من المسافات التي عليه اجتيازها. إلا أن هذا لا يعني في الوقت نفسه أنه لا بد له أن يجتاز كل المسافات في الوقت عينه، بل يعني أنه متى اجتاز مسافة منها انتقل إلى الأخرى. وهنا يكمن الخطأ. وقد يساعدنا هنا أحد التشبيهات التي ساقها أحد المعلقين المعاصرين، فإذا كان لدينا بيضة يمكننا أن نقسمها إلى عدد غير محدود من الأجزاء فإن هذا لا يعني في الوقت نفسه أنك إذا أردت أن تأكلها فعليك أن تتناول هذه الأجزاء واحدا تلو الآخر، فإذا كان يجب عليك أن تفعل ذلك فعليك إذن أن تمتلك سرعة لانهائية في التهام أجزاء البيض، وإلا فستظل تتناول إفطارك حتى قيام الساعة. ولحسن الحظ ليس عليك هذا ولا ذاك، فما دام بإمكانك أن تتناول عددا لانهائيا من أجزاء البيضة الصغيرة في قضمات معدودات حيث تخلصك كل قضمة من عدد لانهائي من هذه القطع، يمكنك كذلك أن تقطع عددا لانهائيا من المسافات في خطوات قليلة؛ إذ إن كل خطوة سوف تجتاز بك عددا غير محدود من المسافات الصغيرة. وتكفي هذه النقطة لدحض مفارقة السباق السابق ذكرها، ولكنها رغم ذلك تضع علامات استفهام أخرى، فكيف يمكن لطريق سباق بمسافة 100 متر مثلا أن يحتوي على عدد لانهائي من المسافات؟ ولماذا لا تجعله هذه المسافات طريقا طويلا لا نهاية له؟ وإذا كان للبيضة عدد لانهائي من الأجزاء فلماذا لا يجعلها هذا بيضة كبيرة بحجم لا نهاية له؟
لقد سأل زينون نفسه هذا السؤال في موضع إحدى مفارقاته، وكانت الإجابة أنه عندما تقسم البيضة أو يقسم الطريق إلى نصفين، ويقسم النصفان إلى نصفين آخرين، وهكذا إلى ما لا نهاية؛ فإن أجزاء البيضة أو الطريق تصغر أكثر وأكثر كلما ازداد تقسيمهما وكذلك إلى ما لا نهاية. (ويقول علماء الرياضيات إن هذه السلسلة من التقسيمات والتصغير يمكن أن تقترب من حد معين ولكنها لا تصل إليه أبدا.) ولم يكن زينون في الظاهر على علم بهذه الحقيقة، إلا أن عدم وجود حد نهائي لتقسيم الأجزاء - ومن ثم تصغيرها - يعني أن ثمة إمكانية كذلك للإضافة إليها إلى حد لانهائي. ومن ثم فلا تناقض في المفارقة التي تقول إن البيضة متوسطة الحجم تحتوي على عدد لانهائي من الأجزاء، وإن طريق السباق البالغ طوله 100 متر يحتوي هو الآخر على عدد لانهائي من المسافات.
والقارئ الذي لا يزال في حيرة من أمره بسبب هذه الألغاز التي لا تنتهي يمكنه أن يلتمس السلوى في حقيقة أنه ليس أول من يتملكه هذا الشعور؛ إذ إن فكرة وجود سلسلة من التقسيمات اللانهائية لم تشرح بشكل واف حتى القرن التاسع عشر. ففي هذا العصر كان نيوتن ولايبنتس قد أحرزا بعض التقدم فيما يتعلق بنوعية مشابهة من هذه الأسئلة باستخدام علم حساب التفاضل والتكامل الذي وضعاه. وعلى الرغم من أن هذا العلم قد أعطى فرصة لبعض العلماء لإجراء العديد من الحسابات عن الحركة والتغير التي كان من المستحيل إجراؤها في الماضي؛ فقد ظل الكثير من الأفكار فيه ملتبسا على الناس حتى تناوله بالشرح والتفسير العلماء ديديكايند وفايشتراس وكانتور وغيرهم من علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر. أما فكرة نيوتن المشوهة حول الكميات متناهية الصغر - وهي إحدى خصائص علم حساب التفاضل والتكامل التي لم يكن نيوتن نفسه راضيا عنها - فقد هاجمها الفيلسوف بيشوب بيركلي الذي عاش في القرن الثامن عشر بالإضافة إلى نفر آخر من العلماء. وقد تحدث بيركلي عن الكميات متناهية الصغر ساخرا فقال: «إن الكميات متناهية الصغر إنما هي بقايا الكميات الهالكة.» وقد احتاج الأمر إلى عبقرية كانتور وآخرين حتى يتخلصوا من هذه البقايا، فلا داعي إذن أن يشعر المرء بالحرج إذا عرقلته هذه البقايا.
وثمة مفارقة أخرى من مفارقات زينون حول الحركة تبتعد عن الحقيقة الرياضية ولكنها على القدر نفسه من البراعة والحذاقة. وتهدف هذه المفارقة إلى توضيح أن السهم المنطلق في الهواء يكون في الحقيقة في حالة من الثبات لا يتحرك؛ حيث إنك لو رصدته في كل لحظة من لحظات طيرانه لوجدته يشغل حيزا من الفضاء يتماثل معه من حيث الحجم، فمثلا السهم المتحرك الذي يبلغ طوله 12 بوصة يشغل سلسلة من المساحات طول كل منها 12 بوصة. ويبدو أن زينون يقصد هنا أن السهم يكون دائما في حالة من السكون في مساحة طولها 12 بوصة. ولنا أن ننظر إلى الأمر بطريقة أخرى عندما نسأل: «متى تحديدا يكون السهم في حالة الحركة؟» فإذا فكرنا في حركة طيرانه المزعومة فسنجد أن السهم الآن في مكان ما ثم بعد ذلك ينتقل إلى مكان آخر، وخلال انتقاله من مكان لمكان لا بد وأن يشغل مساحة بين هذين المكانين؛ ولذلك يبدو في حالة دائمة من السكون بشكل أو بآخر. إذن متى يتحرك من مكان لآخر؟ من الواضح أنه ليس ثمة وقت يتحرك فيه.
ويبدو أن زينون قد وضع الحركة المتدفقة للسهم في قالب من الجمود حين رصدها على شكل صور فوتوغرافية متناولا كل لحظة من لحظات حركته على حدة، وهذا في حد ذاته لا يخرج عن جادة الصواب ولكن الحقيقة التي أغفلها هي أن الحركة تتكون في الأساس من سلسلة من مواضع السكون، وخطأ زينون يكمن في توصله لاستنتاجه الذي يقول إنه ليس هناك أي شيء في حالة حركة من هذه المقدمات. ونحن حين نقول إن شيئا ما في حالة من الحركة؛ فهذا يعني أنه يشغل أماكن متعاقبة مختلفة وفي أوقات متعاقبة؛ ولذلك فزينون كان على حق عندما أنكر أن يكون السهم في حالة من الحركة في لحظة معينة، ليس لأن السهم كان في حالة من السكون في هذه اللحظة، بل لأن التفريق بين الحركة والسكون أمر لا فائدة منه عند رصده في لحظات مستقلة، بل عند رصده خلال فترة ممتدة من الوقت. ومن ثم فإذا كان السهم في مكان واحد طيلة الوقت فإنه في حالة سكون، أما إذا وجد في أماكن مختلفة فإنه يكون قد تحرك. وهذا هو المعنى المقصود بالحركة لا أكثر.
Halaman tidak diketahui