13

Impian Akal

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Genre-genre

وقبل أن نترك طاليس جانبا ونستعرض فلاسفة آخرين من الملطيين، ثمة طرفة عنه تستحق أن تروى حتى وإن كانت من كتابات ديوجين ليرتيوس:

يقال إنه ذات مرة عندما اصطحبته امرأة عجوز في الهواء الطلق كي يراقب النجوم سقط في خندق، وعندما أخذ يصرخ طالبا النجدة سارعت العجوز قائلة: «أنى لك أن تعلم كل شيء عن السماء يا طاليس وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك؟»

وإذا صحت تلك الرواية فإن طاليس لا يستحق المطالبة بلقب أول الفلاسفة فحسب، بل بلقب أول الأساتذة شاردي الذهن. وعلى أية حال، فإن تلك الرواية تشهد بحقيقة استمتاع الناس بالربط بين الفلسفة والانفصال عن العالم. ويروي سقراط نسخة أخرى من الرواية نفسها عن طاليس في إحدى محاورات أفلاطون. وفي مسرحية «السحب» يقص أرسطوفان نسخة مشابهة ولكنها أشد قسوة من الرواية نفسها عن سقراط ذاته. •••

لقد كان الإغريق يقدرون النظام العقلي ويسعون إلى إيجاده أينما أعوزهم، وهو أحد الأسباب التي دعت الآخرين لدراستهم. ومن مظاهر تلك الرغبة في الترتيب المحكم للأمور ما نجده في الطريقة التي سجلوا بها تاريخهم. ففي المصادر القديمة التي تروي قصة تاريخ الفلسفة نجد سلسلة كبيرة من الأساتذة والطلاب، وكل منهم يسلم شعلة المعرفة إلى وريث محدد. وهكذا أطلق الملطيون على أناكسيماندر (حوالي 610-546ق.م.) - وهو مواطن ملطي أصغر سنا قليلا من طاليس - لقب «تلميذ طاليس وخليفته» رغم أنه قد لا يكون تتلمذ على يديه أصلا. وعلى غرار طاليس، كان أناكسيماندر موسوعي المعارف، ورغم أنه لم يتبق له مما كتبه سوى جزء من عبارة واحدة فقط من كتاب «عن الطبيعة» فثمة أدلة كافية على أنه ألف كتابا بهذا الاسم تقريبا (باللغة اليونانية) وأن هذا الكتاب قد غطى كل شيء تقريبا، بل إنه رسم أول خريطة معترف بها للأجزاء المعلومة من الأرض آنذاك. أما ما لم يكن يعلمه حول الطبيعة - وهو بالطبع قدر كبير - فقد اختلقه.

ولا يعني ذلك أن الرجل كان كاذبا، بل أنه حاول التفكير في الأمور وحلها بنفسه، وأنه تأمل مليا في نشأة الكون ومآله والمبادئ التي تحكم العمليات الطبيعية وتركيب الشمس والقمر والنجوم وتطور الحياة والطقس والكثير من الأمور الأخرى، كما وظف بعض الصور والأفكار الأخرى المشابهة لتفسير كل ما شاهده من أمور، ولكن يبدو أن ما لم يره كان أكثر أهمية مما رآه. وقد أدرك أناكسيماندر أن أفضل تفسير للطبيعة لا يمكن أن يعتمد دائما على ما نلاحظه مباشرة، ولكنه يتطلب الغوص في الأعماق أكثر. وعوضا عن الماء عند طاليس، افترض أناكسيماندر وجود أصل خفي للعالم؛ أو مادة أساسية صنع منها. وإذا كانت فلسفة طاليس قد تعرضت لأحد المظاهر الأساسية للتفكير العلمي وهو الحافز لتبسيط الظواهر المدركة بالحواس وتغيرها، فإن أعمال أناكسيماندر جسدت مظهرا آخر لا يقل عنه أهمية، ألا وهو أن العلم يؤكد أنه ثمة الكثير في هذا العالم أكثر مما تراه العين.

وأطلق أناكسيماندر على مادته الأساسية اسم

apeiron

أو «المطلق» بمعنى «غير المحدود»، وغالبا ما كانت تترجم إلى «اللانهائي»، ولكن هذا يجعل أناكسيماندر يبدو غامضا أكثر من اللازم. ولا ريب أنه ظن المواد الخام للعالم غير محدودة بمعنى أنها «كبيرة جدا»، تماما كوصف هوميروس المحيط بأنه «غير محدود»، ولكن أكثر ما عني به أناكسيماندر هو أن المادة الأساسية أيا كانت يجب ألا تكون في حد ذاتها ذات خصائص يمكن إدراكها بالحواس حتى يتسنى تفسير كل الظواهر المدركة بالحواس وفقا لها.

ولاحظ أناكسيماندر أن الأشياء التي يمكن إدراكها بالحواس تأتي في مجموعات متضادة كالساخن والبارد أو الرطب والجاف على سبيل المثال، وهذه العناصر - كما يطلق عليها - في حالة صراع دائم. وعن ذلك يقول فيما تبقى من كلماته: «إنها تعاقب بعضها بعضا على الظلم الذي تقترفه طبقا لتقييم الزمن.» ويبدو أن فكرته تتلخص في أن الأشياء تعتدي على بعضها (مرتكبة «الظلم») وتتبادل أدوار الضحية والمعتدي المنتقم بينما يلعب الزمن دور الحكم. ويقضي الزمن على سبيل المثال أن تشرب الظلمات والنور من كأس الظلم المذكور قدرا متساويا. ونحن نرى نتيجة هذا الصراع في تعاقب الليل والنهار. وثمة صراعات أخرى تدور ليل نهار في لعبة «حجر - ورق - مقص» كونية، فأحيانا تهاجم النيران الماء فتعمل على تبخيرها، وأحيانا أخرى يرد الماء بإخماد النيران.

ويتكرر مفهوم العناصر المتصارعة الذي يظهر لأول مرة عند أناكسيماندر كثيرا في الأدب الغربي مثل قول ميلتون:

Halaman tidak diketahui