Hikmah Barat
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genre-genre
وذلك في نظر فيثاغورس على الأقل، ولكي يتغلب الفيثاغوريون على هذه الصعوبة، اخترعوا طريقة الاهتداء إلى هذه الأعداد التي يستحيل الوصول إليها، عن طريق سلسلة متعاقبة من التقريبات، وقوام هذه الطريقة هو إيجاد الكسور المتصلة التي تحدثنا عنها من قبل؛ ففي مثل هذا التعاقب تزيد الخطوات المتتالية عن العلامة المحددة مرة، وتقل عنها مرة، بمقادير تتناقص باستمرار، ولكن العملية لا نهائية في أساسها، والعدد الأصم الذي نستهدفه هو الحد النهائي للعملية، والفكرة من هذا التدريب هي أننا نستطيع الوصول إلى تقريبات جذرية تقترب بنا من الحد بقدر ما نريد. والواقع أن هذه السمة مماثلة لتلك التي ينطوي عليها مفهوم الحد في العصر الحديث.
المثلثات، عدد مثلثي من أربعة سطور الرمز الذي كان يقسم به الفيثاغوريون.
وهكذا يمكن وضع نظرية للعدد على أسس كهذه. ومع ذلك فإن فكرة الوحدة تخفي خلطا أساسيا بين العدد المنفصل والكم المتصل، ويتضح هذا بمجرد تطبيق النظرية الفيثاغورية على الهندسة، وسوف نرى الصعوبات المترتبة على ذلك حين نناقش النقد الذي وجهه زينون.
أما الفكرة الرئيسية الأخرى، التي خلفتها الرياضيات الفيثاغورية، فهي نظرية المثل، والتي تبناها سقراط وزادها تطويرا. وقد انتقد الإيليون هذه النظرية بدورها، هذا إذا اعتمدنا على شهادة أفلاطون، وقد أشرنا من قبل تلميحا إلى الأصل الرياضي لهذه النظرية. فلنتأمل مثلا نظرية فيثاغورس الهندسية، إن من غير المجدي رسم شكل دقيق غاية الدقة لمثلث قائم الزاوية والمربعات المقامة على أضلاعه، ثم الانتقال إلى قياس مساحات هذه المربعات؛ ذلك لأن الرسم لن يكون دقيقا بصورة كاملة مهما توخينا الدقة فيه، بل إن من المستحيل أن يكون كذلك؛ فليست مثل هذه الأشكال هي التي تقدم برهانا على النظرية، بل إننا نحتاج من أجل مثل هذا البرهان إلى شكل كامل، من ذلك النوع الذي يمكن تخيله، ولكن لا يمكن رسمه. وأي رسم فعلي ينبغي أن يكون نسخة للصورة الذهنية تتفاوت في مدى مطابقتها لها. وهذا بالضبط هو لب نظرية المثل التي كانت جزءا معروفا من مذهب الفيثاغوريين المتأخرين.
ولقد رأينا كيف استحدث فيثاغورس مبدأ للانسجام من الكشف المتعلق بالأوتار المنغمة. ومن هذا الكشف ظهرت النظريات الطبية التي تنظر إلى الصحة على أنها نوع من التوازن بين الأضداد، وقد مضى الفيثاغوريون المتأخرون بهذه الفكرة مرحلة أبعد، وطبقوا مبدأ الانسجام على النفس. فالنفس تبعا لهذا الرأي هي تناغم البدن، بحيث تصبح النفس مرتبطة بالحالة السليمة للجسم. وعندما ينهار تنظيم الجسد، يتحلل الجسد، وتتحلل النفس بدورها، ومن الممكن تصور النفس على أنها الوتر المشدود لآلة موسيقية، بينما الجسم هو الإطار الذي يشد عليه هذا الوتر، فإذا ما تحطم الإطار ارتخى الوتر وفقد تناغمه، ولا شك أن هذا الرأي مختلف كل الاختلاف عن الأفكار الفيثاغورية الأقدم عهدا حول هذا الموضوع؛ إذ يبدو أن فيثاغورس كان يؤمن بتناسخ الأرواح، على حين أن الأرواح أو النفوس تبعا لهذا الرأي الأحدث عهدا، تموت كما تموت الأجساد.
وفي ميدان الفلك قال الفيثاغوريون المتأخرون بفرض جريء غاية الجرأة، وتبعا لهذا الرأي لا يكون مركز العالم هو الأرض، بل نار مركزية ، وما الأرض إلا كوكب يدور حول هذه النار، ولكن هذه الأخيرة غير مرئية؛ لأن الجانب الذي نعيش فيه من الأرض بعيد دائما عن المركز، وقد نظروا إلى الشمس بدورها على أنها كوكب، يتلقى نوره بالانعكاس من النار المركزية. ولقد كانت تلك خطوة طويلة في اتجاه الفرض القائل بمركزية الشمس، والذي قال به أرسطرخس
Aristarchus
فيما بعد. ولكن الشكل الذي صاغ به الفيثاغوريون نظريتهم ظلت تعترضه صعوبات جمة، مما حدا بأرسطو إلى العودة إلى الرأي القائل بأن الأرض مسطحة. ونظرا إلى ما كان لأرسطو من سلطة هائلة في نواح أخرى، فإن هذا الرأي وليس الرأي الصحيح هو الذي أصبح سائدا في العصور التالية التي نسيت فيها المصادر الأصلية.
أما بالنسبة إلى نمو النظريات المتعلقة بتكوين الأشياء، فإن الفيثاغورية كانت تعترف بصفة تجاهلها كثير من المفكرين السابقين أو أساءوا فهمها، تلك هي فكرة الفراغ، التي يستحيل بدونها تقديم تفسير معقول للحركة. وهنا أيضا نجد النظرية الأرسطية تعود فيما بعد إلى الرأي المتخلف القائل إن الطبيعة تبغض الفراغ، أما إذا شئنا أن نهتدي إلى اتجاه التطور الصحيح للنظرية الفيزيائية، فعلينا أن نرجع إلى أصحاب المذهب الذري.
وخلال ذلك حاولت المدرسة الفيثاغورية أن تستوعب جوانب التقدم التي حققها أنبادقليس، وبطبيعة الحال فإن نظرتهم الرياضية لم تسمح لهم بأن يقبلوا العناصر الأربعة التي قال بها، بوصفها العناصر النهائية. وبدلا من ذلك وضعوا حلا وسطا أرسى نظرية رياضية في تكوين المادة، وهكذا أصبحوا ينظرون إلى العناصر على أنها تتألف من جزئيات لها شكل الأجسام الجامدة المنتظمة، وقد طور أفلاطون هذه النظرية أبعد من ذلك في محاورة «طيماوس». أما كلمة «العنصر» ذاتها فيبدو أن هؤلاء الفيثاغوريين المتأخرين هم الذين نحتوها.
Halaman tidak diketahui