Hikmah Barat
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genre-genre
وفي نظريات لوك السياسية نجد نفس المزيج الذي يجمع بين العقل والتجريبية التجزيئية. وقد عبر عن هذه الآراء في رسالتيه عن «الحكومة» اللتين كتبتا في 1689-1690م، وكانت أولى هاتين الرسالتين ردا على كتيب ألفه السير روبرت فيلمر
Filmer
بعنوان «الملك الأب
»، وتحوي صياغة متطرفة لفكرة الحق الإلهي للملك، وتقوم هذه النظرية على المبدأ الوراثي الذي لا يجد لوك صعوبة في هدمه، وإن كان يمكننا أن نلاحظ أن المبدأ في ذاته لا يتعارض مع العقل البشري بل إنه في الواقع مقبول على نطاق واسع في الميدان الاقتصادي.
1
وفي الدراسة الثانية يعرض لوك نظريته الخاصة. فهو، مثل هبز، يعتقد أنه قبل أن تقوم الحكومة المدنية، كان الناس يعيشون في حالة طبيعية يحكمها القانون الطبيعي، وكل هذه الآراء تنتمي إلى المدرسة التقليدية. أما رأي لوك في نشوء الحكومة فيبنى، مثل رأي هبز، على نظرية العقد الاجتماعي، وهي نظرية يقول عنها المذهب العقلي. وقد كانت هذه النظرية تمثل تقدما بالنسبة إلى من يؤمنون بحق الملوك الإلهي، وإن كانت أدنى مستوى من نظرية فيكو. والدافع الأساسي الذي يحفز إلى العقد الاجتماعي هو في رأي لوك، حماية الملكية. فحين يلتزم الناس بهذه الاتفاقات، يتنازلون عن حقهم في العمل بوصفهم المدافعين الوحيدين عن شئونهم، ويعهدون به إلى الحكومة. ونظرا إلى أن الملك ذاته، في النظام الملكي، قد يدخل في منازعات، فإن المبدأ القائل بعدم جواز حكم أي إنسان في قضيته الخاصة يحتم استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. وقد تناول مونتسكيو فيما بعد مسألة فصل السلطات بمزيد من التفصيل. أما عند لوك فإننا نجد أول عرض متكامل لهذه المسائل، وكان معنيا بوجه خاص بالسلطة التنفيذية للملك في مواجهة الوظيفة التشريعية للبرلمان. فالسلطة التشريعية هي التي ينبغي أن تكون لها الكلمة العليا، لأنها مسئولة فقط أمام المجتمع ككل ، ذلك المجتمع الذي تعد هي ممثلة له. فما الذي ينبغي عمله حين تتصادم السلطتان التنفيذية والتشريعية؟ من الواضح أن السلطة التنفيذية هي التي ينبغي أن تجبر في هذه الحالات على الاستسلام، وهذا بالفعل ما حدث للملك تشارلز الأول، الذي أدت أساليبه القمعية إلى إثارة الحرب الأهلية.
وتبقى بعد ذلك مسألة الطريقة التي يمكن بها أن نقرر متى يكون من الواجب استخدام القوة ضد حاكم مشاكس. هذه الأمور تقرر عادة، في الواقع العملي، على أساس نجاح القضية موضوع النزاع أو إخفاقها. وعلى الرغم من أن لوك يبدو واعيا بهذه الحقيقة، ولكن بصورة فيها شيء من الغموض، فإن رأيه يتمشى مع اتجاه التفكير السياسي لعصره، الذي كان في عمومه عقلانيا. فقد كان يفترض أن أي إنسان عاقل يعرف ما هو الصواب، وهنا نجد مرة أخرى أن نظرية القانون الطبيعي تكمن في خلفية هذا التفكير؛ ذلك لأن صواب أي فعل لا يمكن تقديره إلا على أساس مبدأ من هذا النوع. وهنا تلعب السلطة الثالثة، القضائية، دورا خاصا. والواقع أن لوك ذاته لا يتحدث عن السلطة القضائية بوصفها سلطة مستقلة، غير أن هذه السلطة اكتسبت بمضي الوقت، حيثما كان مبدأ فصل السلطات مقبولا، مركزا مستقلا تمام الاستقلال، مما أتاح لها أن تقوم بدور التحكيم بين أية سلطات أخرى، وعلى هذا النحو تكون السلطات الثلاث نسقا من الضوابط المتبادلة التي تحول دون ظهور قوة طاغية، وهذا مبدأ جوهري بالنسبة إلى الليبرالية السياسية.
أما في إنجلترا الآن، فإن جمود البناء الحزبي، والسلطات التي يملكها مجلس الوزراء تقلل إلى حد ما من الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولكن أوضح مثال للفصل بين السلطات على النحو الذي تصوره لوك يوجد في حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يعمل الرئيس ومجلسا الكونجرس على نحو مستقل. أما عن الدولة بوجه عام فإن سلطاتها زادت، منذ أيام لوك، حتى اتخذت أبعادا هائلة، على حساب الفرد.
وعلى الرغم من أن لوك لم يكن من أعمق المفكرين أو من أكثرهم أصالة، فإن أعماله قد مارست تأثيرا قويا وباقيا في الفلسفة والسياسة معا، فهو في الفلسفة واحد ممن بدءوا المذهب التجريبي الحديث، وهو اتجاه فكري طوره بعد ذلك باركلي وهيوم، ثم بنتام وجون استورت مل. وفضلا عن ذلك فقد كانت حركة «الموسوعيين» الفرنسية في القرن الثامن عشر متأثرة بلوك إلى حد بعيد، باستثناء روسو وأتباعه. كذلك فإن الماركسية تدين بمذاقها العلمي لتأثير جون لوك.
لقد كانت نظريات لوك السياسية تلخيصا لما كان يمارس بالفعل في إنجلترا في ذلك الوقت. لذلك لم يكن لنا أن نتوقع لهذه النظريات أن تحدث في إنجلترا تقلبات ضخمة. أما في أمريكا وفرنسا فقد كان الأمر على خلاف ذلك؛ إذ أدت ليبرالية لوك إلى تغييرات ضخمة وثورية. ففي أمريكا أصبحت الليبرالية هي المثل الأعلى القومي، الذي صانه الدستور بحرص شديد، ومع أن من سمات المثل العليا أنها لا تراعى دائما بإخلاص، فإن الليبرالية المبكرة، من حيث هي مبدأ، قد ظلت تمارس في أمريكا لدرجة لا يكاد يطرأ عليها أي تغيير.
Halaman tidak diketahui