Hikmah Barat
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genre-genre
ولقد أدى تأكيد الفلسفة الديكارتية لتلك الثنائية القديمة العهد، ثنائية العقل والمادة، إلى إبراز مشكلة العلاقة بين الذهن والجسم، وهي المشكلة التي يتعين على أية فلسفة كهذه أن تواجهها. ذلك لأنه يبدو أن العالمين المادي والذهني يسير كل منهما في مجراه الخاص، المكتفي بذاته، الذي تحكمه مبادئه الخاصة، ووفقا لهذا الرأي يكون من المستحيل بوجه خاص القول بأن عمليات ذهنية أو نفسية كالإرادة يمكن أن تؤثر على العالم المادي على أي نحو. وقد وضع ديكارت ذاته استثناء لهذه القاعدة، حين اعترف بقدرة النفس البشرية على تغيير حركة الأرواح الحيوية من حيث الاتجاه، ولكن ليس من حيث الكم. غير أن هذا المهرب المصطنع لم يكن يتمشى مع مذهبه، فضلا عن أنه لا يتفق وقوانين الحركة؛ ومن هنا فقد استغني عنه أتباع ديكارت ورأوا أن الذهن لا يستطيع تحريك الجسم. ولكي نفسر العلاقة بينهما ينبغي أن نفترض أن العالم قد رتب مقدما بحيث إنه كلما حدثت حركة جسمية معينة، يطرأ في الميدان الذهني، وفي الوقت المناسب، ما نعتبره الحدث الذهني الصحيح المصاحب لهذه الحركة، دون أن يكون هناك أي ارتباط مباشر. وقد قال بهذا الرأي خلفاء ديكارت، وخاصة جولينكس
Geulinex (1624-1669م) ومالبرانش
Malebranche (1638-1715م). ويطلق على هذه النظرية اسم «مذهب المناسبة
Occasionalism »، لأنه يرى أن الله يرتب الكون بحيث تسير سلاسل الأحداث المادية والذهنية في مساراتها المتوازية على نحو يجعل الحادث في إحدى السلسلتين يقع دائما في المناسبة الصحيحة لوقوع حدث في السلسلة الأخرى. وقد ابتدع جولينكس تشبيه الساعتين لكي يضرب به مثلا يوضح هذه النظرية. فإذا كانت لدينا ساعتان تدل كل منهما على الوقت بدقة كاملة، ففي وسعنا أن ننظر إلى إحداهما عندما يشير العقرب إلى اكتمال الساعة، بينما نسمع دقات الساعة الأخرى. وقد يؤدي بنا هذا إلى الاعتقاد بأن الساعة الأولى هي التي جعلت الثانية تدق. والواقع أن الذهن والجسم أشبه بهاتين الساعتين اللتين ضبطهما الله بحيث تسيران كل في مجراها المستقل والموازي لمجرى الأخرى. وبالطبع فإن مذهب المناسبة، يثير بعض الصعوبات المحرجة. فكما إننا نستطيع، من أجل معرفة الوقت المضبوط، أن نستغني عن إحدى الساعتين، فكذلك يبدو من الممكن أن نستدل على الأحداث الذهنية بالإشارة إلى الأحداث المادية الموازية لها فحسب.
والواقع أن مبدأ المناسبة، ذاته هو الذي يضمن إمكان نجاح مثل هذه المهمة. وهكذا يمكننا أن نقدم نظرية كاملة عن الأحوال الذهنية من خلال الأحداث المادية وحدها. وهي محاولة قام بها بالفعل الفلاسفة الماديون في القرن الثامن عشر، وتوسع فيها علم النفس السلوكي في القرن العشرين. وهكذا فإن مذهب المناسبة، بدلا من أن يعمل على ضمان استقلال النفس عن الجسم، يؤدي في نهاية الأمر إلى جعل النفس كيانا زائدا يمكن الاستغناء عنه، أو قد يؤدي، بعكس ذلك، إلى جعل الجسم كيانا غير ضروري في كل الأحوال. وأيا كان الرأي الذي يفضله المرء، فإن هذا لا يتفق والمبادئ المسيحية، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تجد مؤلفات ديكارت مكانا مضمونا على قائمة الممنوعات لدى الكنيسة. ومن أسباب ذلك أن المذهب الديكارتي لا يمكنه تفسير الإرادة الحرة بطريقة متسقة. والواقع أن النزعة الحتمية الصارمة التي يتسم بها التفسير الديكارتي للعالم المادي، الفيزيائي والبيولوجي، قد أسهمت بدور كبير في تشجيع المذهب المادي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وخاصة عندما ننظر إلى هذه النزعة في ارتباطها بفيزياء نيوتن.
إن الثنائية الديكارتية هي في نهاية المطاف حصيلة نظرة تقليدية تماما إلى مشكلة الجوهر، بالمعنى الفني الذي استخدم به الفلاسفة المدرسيون هذا اللفظ. فالجوهر هو حامل الصفات، غير أنه هو ذاته مستقل ودائم. وقد اعترف ديكارت بجوهرين متباينين، أعني المادة والعقل، لا يمكنهما أن يتفاعلا على أي نحو، لأن كلا منهما مكتف بذاته، وقد ظهرت فكرة «المناسبة» من أجل عبور الهوة بينهما، ولكن من الواضح أننا لو قبلنا بمثل هذا المبدأ فلن يحول شيء بيننا وبين الاعتماد عليه إلى أي حد نشاء، فمن الممكن مثلا النظر إلى كل عقل على أنه جوهر في ذاته، وقد سار ليبنتس
Leibniz
في هذا الاتجاه، فوضع نظرية «الذرات الروحية
monads » التي تنطوي على القول بعدد لا نهاية له من الجواهر، كلها مستقلة، ولكن بينها تنسيقا، وفي مقابل ذلك يستطيع المرء أن يعود إلى وجهة نظر بارمنيدس فيقول بأنه لا يوجد إلا جوهر واحد، وهذا الاتجاه الأخير هو الذي سار فيه اسبينوزا، الذي ربما كانت نظريته أشد المذاهب الواحدية التي عرفها التاريخ اتساقا وصرامة.
كان اسبينوزا (1632-1677م) الذي ولد في أمستردام، ابنا لأسرة يهودية رحل أجدادها - قبل وقت كانت ذاكرة الأسرة لا تزال تعيه - عن ديارهم في البرتغال لكي يجدوا مكانا يمكنهم فيه أن يعبدوا الله على طريقتهم الخاصة. ذلك لأن خروج المسلمين من إسبانيا والبرتغال قد أتاح الفرصة لمحاكم التفتيش لكي تنشر حكما يسوده التعصب الديني، مما جعل الحياة بالنسبة إلى غير المسيحيين غير مريحة، هذا إذا استخدمنا أخف تعبير ممكن. أما هولندا فقد كانت أثناء عصر الإصلاح الديني في حرب ضد حكم الطغيان في إسبانيا؛ ومن ثم قدمت ملجأ لضحايا الاضطهاد، وأصبحت أمستردام موطنا لطائفة يهودية كبيرة. وفي هذا الإطار تلقى اسبينوزا تعليمه وتربيته الأولى.
Halaman tidak diketahui