Hikmah Barat
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genre-genre
غير أن العناصر الأكثر بدائية ظلت باقية حتى في التراث الأورفي، والواقع أنها هي مصدر التراجيديا اليونانية؛ ففي هذه التراجيديا نجد الكاتب يتعاطف دائما مع أولئك الذين تنتابهم عواطف وانفعالات عنيفة. ولقد كان أرسطو على حق حين وصف التراجيديا بأنها عملية تطهر
Catharsis ، أي تطهير للانفعالات.
هذا الطابع المزدوج للشخصية اليونانية هو الذي أتاح لها في النهاية أن تغير العالم بصورة حاسمة. وقد أطلق «نيتشه» على هذين العنصرين اسم العنصر الأبولوني والديونيزي، وهما عنصران لم يكن في استطاعة أي واحد منهما بمفرده أن يفجر الطاقة العجيبة للحضارة اليونانية؛ ففي الشرق كان العنصر الصوفي يسيطر بلا منازع، ولكن ما أنقذ اليونانيين من الوقوع في براثن هذا العنصر وحده، هو ظهور المدارس العلمية في أيونية. ومع ذلك ينبغي أن نلاحظ، من جهة أخرى، أن الدقة العلمية وحدها كانت - شأنها شأن التصوف - عاجزة عن إحداث ثورة عقلية؛ إذ يحتاج الأمر إلى سعي متحمس ومنفعل وراء الحقيقة والجمال، وهذا بالضبط ما جلبه التأثير الأورفي. لقد كانت الفلسفة عند سقراط طريقا للحياة، ولنذكر في هذا الصدد أن كلمة «النظرية»
Theory
في اليونانية كانت تعني في البداية شيئا أشبه «بتأمل منظر طبيعي»، وبهذا المعنى استخدمها هيرودوت. وهكذا يمكن القول إن ما أعطى الإغريق القدماء مكانتهم الفريدة في التاريخ هو ميلهم إلى حب الاستطلاع الذي لا يرتوي، والذي يدفع المرء إلى القيام ببحث مشبوب بالانفعال، يكون مع ذلك موضوعيا نزيها.
إن حضارة الغرب التي انبثقت من مصادر يونانية، مبنية على تراث فلسفي وعلمي بدأ في ملطية
Miletus
منذ ألفين وخمسمائة عام، وهي في هذا تختلف عن سائر حضارات العالم الكبرى؛ فالمفهوم الرئيسي الذي يسري عبر الفلسفة اليونانية بأسرها هو مفهوم «اللوجوس
Logos »، وهو لفظ يدل على معان كثيرة، من بينها «الكلام» و«النسبة أو المقياس». وهكذا توجد رابطة وثيقة بين اللغة الفلسفية والبحث العلمي، ويترتب على هذا الارتباط مذهب في الأخلاق يرى الخير في المعرفة، التي هي تطهير للانفعالات حصيلة البحث المجرد عن الهوى.
لقد قلنا من قبل إن طرح أسئلة عامة هو بداية الفلسفة والعلم. فما شكل هذه الأسئلة إذن؟ يمكن القول - بأوسع معنى ممكن - إنها بحث عن النظام فيما يبدو للعين غير المدربة سلسلة من الأحداث العشوائية المتخبطة. ومن المفيد أن نتنبه إلى الأصل الذي استمدت منه فكرة النظام لأول مرة؛ ففي رأي أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي، لا يعيش بمفرده، بل في مجتمع. ويقتضي ذلك، حتى على أكثر المستويات بدائية، نوعا من التنظيم، ومن هذا المصدر استمدت فكرة النظام؛ فالنظام هو أولا وقبل كل شيء نظام اجتماعي، وبطبيعة الحال فقد اكتشفت في الطبيعة، منذ أقدم العصور، تغيرات منتظمة؛ كتعاقب الليل والنهار، ودورة الفصول، ومع ذلك فإن هذه التغيرات لم تفهم لأول مرة إلا في ضوء تفسير بشري ما؛ فالأجرام السماوية آلهة، وقوى الطبيعة أرواح، صنعها الإنسان على صورته.
Halaman tidak diketahui