ولقد اعتاد كل منهما مضادة الآخر حتى على الأمور المرئية المحسوسة، فإذا قال جبرة بأن الثلج أبيض، يجيبه داود بأن الثلج أسود، ولكل منهما براهين وحجج واستنزالات علوية وإلهامات روحية ما أنزل الله بها من سلطان.
اعتاد الناس من جيران وغيرهم التجمهر حول هذين البطلين للتسلية، وأكثرهم يوقد النار بينهما، ثم يقف الجميع؛ ليروا كيف تتعالى شرارات المناظرة بينهما، فيضحكون ويتسلون.
عندما يسمع في السوق صوت أحد الاثنين، إما جبرة وإما داود يتألب جماعة المتفرجين من هنا وهناك كأن ذلك الصوت عندهم دقة الناقوس للمترقبين انفتاح أبواب الكنيسة لكي يدخلوا للصلاة، وهكذا الأمر عندهم لدى سماعهم نبرة عالية من أحد الاثنين؛ إذ ذاك يؤلف القوم حلقة حولهما، ويبدأ الاثنان بتمثيل أدوارهما.
أما اختلافاتهما فليست بذات بال عندهما؛ فهي لا تشرق عليها شمس يوم ثان، ولهذا فكلاهما معروف عند العامة بأنهما كثيرا الغلبة، إنما طيبا القلب، وأنهما مع تصايحهما وتخالفهما بالرأي وأحيانا تقاتلهما ينسيان عندما يبرد غليلهما كل ما جرى بينهما، كأن المقدر ما كان.
كان جبرة صاعدا السلم ذات يوم إلى بيته، وإذا بداود نازلا، فسلما أولا حسب المعتاد كسلام المصارعين أو المتلاكمين في المسارح، وبعده يجيء دور الصراع أو الملاكمة، وقد يخطف الواحد منهما روح الثاني، إنما السلام لا بد منه أولا.
بعد السلام قال داود: «يا جار، وأنا اليوم أتمشى أمام البناية إذ سقط من عل لوح زجاج، فقلت في نفسي: أعوذ بالله من هذا النهار؛ فإن جارنا جبرة سيقيم الأرض ويقعدها، ويهبط السماء، ويدمر الفضاء على رأسنا قبل أن يدفع ثمن لوح الزجاج المكسور في منزله. ولكن الحمد لله يا جار، لم يكن اللوح المكسور من إحدى نوافذكم، بل من نافذة أحد الجيران؛ ولهذا مضت المسألة وأسبل الله ستره.»
قال داود هذا وجبرة يهم بالمقاطعة، ولكنه ضغط على عوامله الداخلية ليعلم جلية الخبر، ولما أنهى داود كلامه أجابه: «ولماذا أدفع ثمن لوح الزجاج، وأنا لست بكاسره؟»
فرد عليه داود في الحال: «لأنك صاحب المنزل المسئول عن كل شيء فيه ما عدا السقف». - أنت غلطان، فصاحب الملك عليه التصليح لا سيما والمستأجر كان خارج المنزل. - لا تعالجنا يا جبرة، فأنا حمدت الله ألف مرة؛ لأني خلصت من شرك هذا النهار، والمسألة لا تحتاج إلى صياح ومماحكة، اسأل من تريد فيجيبك أنه إذا انكسر شيء من الزجاج فإصلاحه على المستأجر. - والله لو هبط البيت وصار هباء منثورا تخطف ذراته الرياح لا أدفع بارة واحدة؛ لأن هذا ليس عدلا، والشريعة دائما مع المستأجر ضد صاحب الملك والوكيل، فاسأل غيرك إذا كنت جاهلا هذه الحقيقة. - لا تقل جاهلا ولا ماهلا، فأنا أعرف منك بالأمر، وقد جعلت الذي كسر زجاجه يدفع عنه في الحال، فلماذا المماحكة يا جار، احسمها ولا تدع الناس يتجمهرون على صياحنا؛ فإنهم سوف يشبعون ضحكا منك إذا سمعوا منك كلامك هذا.
ولا حاجة إلى الإتيان على كل الحديث الذي جرى بينهما، فهذه مقدمة له، وإن القارئ اللبيب يستطيع أن يصور في مخيلته ماذا يعقب هذه المقدمة من النتائج، ولا سيما بين المدعوين متشرعين لكثرة غلبتهما وعدم إعطاء الواحد طريقا للآخر؛ لكي ينسحب، فيمضي الاثنان.
وكالعادة أخذت المشاحنة زهاء ساعة بينهما، وكل يدعم رأيه بالبراهين وينهال على الثاني بالتعييرات فالمسبات، هازئا بقلة عرفانه وجهله الفاضح لأمور بسيطة يعرفها أي الناس.
Halaman tidak diketahui