فقلت له: دعني من عتبك يا بطرس وأخبرني أين قرأت القصة التي قلتها في بيت الميت؟ فقال: إنه سمع جده يرويها في مأتم شيخ القرية. فقلت: وأين قرأها جدك؟ فقال: لا بد أنه سمعها من جده، فقلت له: إذن في مرة ثانية اضبط التاريخ، وقل هكذا حدثني جدي عن جده عن جده حتى تصل إلى معاصر لإسكندر الكبير.
فضحك بطرس وصفح عني، وقال وهو يصافحني ليأخذ سبيلا غير سبيلي: «اضحك بسرك؛ فإننا لم نكمل الساعة في بيت المرحوم، وإلا لكنا سمعنا حكاية إسكندر الكبير لا أقل من عشرين مرة.»
فأجبته، ولعلني قلت الصواب: «لو كنت موضع أهل الميت لقلت للناس المرحوم استراح من هذه الدنيا ومن مواعظكم.»
وودعت بطرس وسرت في طريقي، فالتقيت بجماعة عرفت منهم واحدا، ولما رآني دنا مني مسلما وأخبرني أنه ذاهب ليأخذ بخاطر آل المر، فأخبرته أني آت من تعزيتهم الله يساعدهم، فأعاد: «الله يساعدهم.» وزاد: «ويعينهم.» وقد أخبرته كيف أني دخلت بيت الميت ولم أقل عبارة تعزية أعزي بها المساكين؛ لأني لا أفهم الاصطلاحات، فضحك مني وقال: «أهي مسألة فلسفة، احك قصة فيها مغزى وعز بها الجماعة.» فقلت: وما عساك أن تحكي أنت؟
فبدا يخبرني قصة إسكندر ذي القرنين، ولكني قاطعته قائلا إني أعرفها وأشرت له أن يلحق بأصحابه؛ ليعزوا الجماعة وليساعدهم الله ويعنهم ويرحمهم.
المتشائم
ما كنت أعهد فيه الشر والميل إلى تضليل الناس؛ بل عرفت صديقي إلياس البقاعي شابا مهذبا رقيق العواطف محبا، يدأب في عمله ويغار على مصالح زبنه، ولكنه في الأيام الأخيرة انقلب بأخلاقه وطباعه، فصار إذا سأله ضال: أين الطريق إلى الشمال؟ يدله على الجنوب غير مبال بعقبى، ولا آبه بجناية يرتكبها بتضليل الآخرين.
جلست إلى جانبه في أحد الأيام وسألته لماذا تبدل بأخلاقه حتى سود الناس صحيفته؟ فرأيته يهز رأسه، عاضا شفته السفلى عضا قويا، وما تكلم غير هذه العبارة جوابا: «آليت ألا أهدي ضالا ما دام الضلال في البشر، وإذا رأيت أعمى له أمل بالنور أحمل على أمله حتى لا يبصر لا في الحقيقة ولا في الخيال.»
قلت: إلياس، إلياس ما الذي صار لك؟ قل لي ما أنت بذاك الذي أعرفه بإلياس البقاعي، أنت رجل غيره، ماذا دهاك؟
أجاب: «أتظن أن أتعابي سنين طوالا غيرتني، لا والذي خلق المكاسب والمخاسر، إن ما غيرني من إلياس البقاعي الذي تعرفه إلى إلياس البقاعي الذي تراه الآن لهو التطفل مني على إنارة سبل الضالين؛ فإن التائه في سبيل حياته لأضمن حالا من الذي تفتح عينه العمياء فيرى الكون كله تحت باصرته، ويجعل عينه فما واسعا يريد ابتلاع ما يراه.»
Halaman tidak diketahui