والمرحوم طانيوس المر كنت أعرفه معرفة سطحية، فلم أزره في بيته بحياته، ولكن صديقي بطرس كرواني جذبني جذبا؛ لنأخذ خاطر أهل الفقيد، قائلا لي: إن التعزية واجبة على كل عارف، ولا فرق نسيبا كان أم صديقا أم من المعارف.
وهكذا، كان ذهابنا، وكان حضرة صديقي أبرع مني في الكلام؛ فقد دخلت إلى بيت الميت وأنا كالجنين في عالم التقاليد؛ فقد هممت بإلقاء التحية التي أقولها في كل الأوقات إلا أن صديقي بطرس رفع كفه ووضعه على فمي، فجعلني أبلع «نهاركم سعيد»، ثم همس بأذني أن أقول: «الله يعوضنا بسلامتكم.» فقلت، وجلست كأني من أهل الميت على ما وصفت، وأزيدهم بعدم التمتمة؛ لأن المسألة لا تعنيني، وبنظر الأشباح من كل جهة؛ لأن حضني كان مملوءا بسترتي المطوية وفوقها قبعتي، وقد احمر وجهي خجلا؛ لأني كنت الوحيد النازع عنه سترته.
بعد سكوت خمس دقائق فتح بطرس فاه بالكلام، فقال: «قبل أن مات إسكندر الكبير عرف أن آخرته اقتربت، وأن أمه ستحزن عليه حزنا عميقا، فدعاها إليه قبل موته، وقال لها: وصيتي إليك يا أماه أن تأدبي مأدبة بعد موتي وتدعي إليها كل الناس، وعندما يجلسون إلى المائدة قولي لهم إن من لم يذق حزنا على حبيب له فليمد يده ويأكل. وهكذا كان، فبعد وفاته أدبت مأدبة، ودعت إليها جميع الناس، ولما جلسوا إلى المائدة قالت لهم ما أوصاها ابنها إسكندر أن تقوله، فلم يمد أحد يده للطعام، فعرفت إذ ذاك أن كأس الموت دائرة على الجميع؛ ولهذا تعزت في مصابها الجلل.»
سمعت هذه الموعظة فكبر قائلها بعيني، وقلت في نفسي: يا ضيعان ما تعلمته في المدارس! والله إن بطرس فاقني بأسلوبه المعزي، وقال أحسن موعظة تقال في محلها. وكأني نسيت نفسي أني موجود في هيكل الصمت، فقلت لرفيقي: أحسنت والله بهذه التعزية، إنها لحكمة منزلة.
أما الحاضرون ولم يكونوا كثارا؛ لأن زيارتنا لأهل الميت كانت بعد أسبوع، وقد بدأت حركة التعزية تقل؛ فقد سمعوا الموعظة الجميلة كأنهم لم يسمعوا شيئا البتة ، وقد عجبت لأمرهم، فقلت في نفسي: لعلهم طمطمانيون لم يفهموا معنى الذي قيل أمامهم.
ولم يكد ينهي بطرس كلماته الدرية حتى وافى البيت فوج مؤلف من ثلاثة رجال، ولأن المكان واسع والزوار قليلون بقينا في أماكننا، بل بقي بطرس جالسا، واضطررت ألا أتحرك؛ لأنه هو الزنبرك لهذه الزيارة.
ولما جلس القادمون جديدا فتح أحدهم فاه بالكلام، وفيما هو يهم ليتكلم حزنت على نفسي، وقلت: يا لله! ما أجهلني؛ فإني لا أفهم شيئا من العادات والتقاليد، ولم أمرن نفسي على الكلام اللازم في كل حين. أما المتكلم فبدأ بقوله: «هذا حال الدنيا، الموت محتم على كل الناس لا مهرب منه. كان إسكندر الكبير قد فتح الدنيا بأسرها، وهو في الثلاثين من عمره ...»
وفيما هو يخبرنا عن الإسكندر قلت في نفسي موعظة ثانية تأتينا، وقد حتمت علي أن أقصد المكتبة العمومية بعد هذه الزيارة لأطالع حياة ذلك الرجل العظيم، الذي كل تاريخه مواعظ لازمة للبشر وبالأخص في حالات المصائب، وقد تحولت إلى إصغاء تام لأسمع المتكلم فلا تفوتني الموعظة الثانية، ولكن شد ما كان فشلي عندما سمعت منه نفس الموعظة التي أخبرها بطرس؛ ولهذا استأت في داخلي أيما استياء.
عندئذ هم رفيقي بالنهوض؛ لأنه رأى فوجا آخر مؤلفا من قادمين اقتربا من الباب، فكبست على ركبته، وهمست في أذنه: إني أريد أن أبقى حتى نخرج كلنا معا، فسايرني بطرس مضطرا، ودخل القادمان فتليا أفشين التعزية وجلسا. وما هي إلا لحظة حتى فتح كبيرهما فاه بالكلام، فسمعته يقول: «ما هان علينا موت المرحوم، ولكن أمر الله لا مرد له، هكذا قدر وكان، فسبحان الدائم، يحكى أن إسكندر ذي القرنين شعر بدنو أجله ...»
هنا تنحنحت قليلا فلاحت مني لفتة إلى صديقي بطرس، فرأيته يخط وجهه ابتسامة، ولكن في الحال أدرت وجهي عنه إلى ناحية المتكلم لأسمع حكاية إسكندر ذي القرنين، وبعد سماعي جملتين من حديثه بدأ وجهي يخط ابتسامة عريضة، وللحال خوفا من أن تنتهي الابتسامة بضحكة ونحن في هيكل الحزن والخشوع نهضت ونهض معي رفيقي، فقلت: «بالإذن بلا قطع حديث حضرة المتكلم، ونهاركم سعيد جميعا.» وخرجت وتبعني بطرس، ولما صرنا خارج البيت أمسكني صديقي مستوقفا إياي، وقال والسم يقطر من وجهه: «ما نفعك ونفع علمك إذا كنت لا تفهم أن في بيوت أهل الموتى لا يقولون عبارة «نهاركم سعيد»، وقد أفهمتك عندما دخلنا ألا تلفظها فبلعتها، فلماذا نسيت هذا الأمر عندما خرجت؟»
Halaman tidak diketahui