ويزور أبي جماعة من الأصدقاء فيدور الحديث عن الثورة، لا حديث هذه الأيام إلا عن الثورة. حتى حديثنا نحن الغلمان يرطن بلغة الثورة، ولعبنا في الحارة مظاهرات وهتافات، وتصبح دوريات الإنجليز منظرا مألوفا لدينا، نمعن في الجنود النظر بذهول، ونقارن بين ما نسمع عن وحشيتهم وما نرى من جمال وجوههم وأناقتهم ونتعجب.
يدور الحديث بين الزوار عن الثورة. - من يصدق هذا كله أو بعضه؟! - إنه الله الرحمن الرحيم. - يخلق الحي من الميت. - الفلاحون والعمال والطلبة والموظفون والنساء يقتلون ويقتلون. - الفلاح يحمل السلاح ويتحدى الإمبراطورية. - انقطعت المواصلات تماما، أصبحت مصر دويلات مستقلة! - والمذابح؟ - مذبحة الأزهر. - مذبحة أسيوط. - العزيزية والبدرشين . - الحسينية. - لا أنا ولا أنت، ليحيا سعد! - إي والله، ليحيا الساحر العظيم! - ولكن الأموات يفوقون الحصر. - أحياء عند ربهم.
وينبري رجل ليقص سيرة سعد كما يعرفها، ومواقفه مع الإنجليز والخديوي قبل الثورة.
وألمح أبي تغرورق عيناه بالدموع.
أراقبه بذهول محتقنا بانفعال صامت وفيض من الدموع ينهمر على خدي.
الحكاية رقم «16»
سلومة أول شهيد من أبناء حارتنا، حقيقة إن علوة صبي الفران أول من قتل في حارتنا ولكنه في الأصل من أبناء كفر الزغاري، وعم طلبة - أبو سلومة - بياع يسرح بعربة غزل البنات، وكان سلومة يعاونه، وينام على مقدم العربة إذا أنهكه التعب.
وتخترق مظاهرة ميدان بيت القاضي فينضم إليها سلومة بتلقائية دون أن ينتبه إليه أبوه. وتنقض على المظاهرة قوة إنجليزية في خان جعفر، وتطلق عليها النار، يصاب سلومة برصاصة في رأسه ويسقط قتيلا.
وينتشر الخبر في الحارة، فيجتاحها حزن، ويهزها الفخار والإكبار، ويقبل الناس على عم طلبة يعزونه وينثرون بين يديه لآلئ الكلمات، ورغم حزن الرجل وتهالكه؛ فإنه يمارس إحساسا جديدا لم يعرفه من قبل، يرى نفسه لأول مرة محوطة بأهل الحارة من كافة الطبقات، يفوز بإكبار من لم يبالوا من قبل برد تحياته، وتنهال عليه نفحات الموسرين من التجار والمعلمين.
وتكون جنازة سلومة أعظم جنازة تشهدها حارتنا، تصغر إلى جانبها أي جنازة سابقة من جنازات الفتوات والأعيان ورجال الدين، سعى وراء النعش المكلل بالعلم جميع الذكور، وحياه النساء من النوافذ والأسطح، وانضم إلى المشيعين مئات من الحواري المجاورة، فبلغت الحسين في ضخامة مظاهرة وجلالها.
Halaman tidak diketahui