خبرني لبناني هاجر وعاد إلى الوطن غانما قال: كنت أتاجر بالثياب الجاهزة متنقلا من مزرعة إلى مزرعة في أرياف البرازيل، أبيع العمال فيها بالدين، وأقبض في نهاية الشهر من صاحب المزرعة، والمزرعة هناك مقاطعة كبيرة. فقلت: لا بد من تقديم هدية لابن هذا السيد، فاشتريت طقما من الجوخ الممتاز وحملته إليه في آخر الشهر . فما رآه الخواجه حتى صاح: ما هذا؟ قلت: طقم للمحروس خورخي، اشتريته له خصيصا لأنني لا أبيع إلا ثيابا عمالية من الكتان الأسمر.
فقال: يا صاحبي، هذا ليس ملبوس ابني، لا أريد أن يتعود ابني لبس الجوخ فتيا؛ لئلا يعرى شيخا. ضب الطقم وبعه ممن تشاء. ثم نده ابنه فجاء، وقال له: نق طقما من هذه الثياب. فانتقى واحدا. وهكذا جبر خاطري ولم يرد أن يعود ابنه (الجخ) صغيرا، فعاد الفتى إلى مراقبة الألوف من عمال مزرعة أبيه والعمل معهم، ولم يضع فرصة الصيف.
أما نحن فنرى القعود هو الحرفة الشريفة، وأن الفلاح والخادم والعامل ليسوا بشرفاء. وهذا الداء فاش بين طلاب المدارس، ولهذا إذا رفع الله مرءا بماله أو وظيفته لا يرجع إلى عمله القديم إذا عانده الدهر. يا حبذا لو كان التلامذة عندنا يشتغلون كابن هذا المزارع المليونير أو كالتلامذة الأميركيين. وهنا أذكر حكاية قرأتها في إحدى الصحف منذ نصف قرن: أقبلت المواسم في بعض جهات الولايات المتحدة، فاضطر الفلاحون إلى ازدياد الفعلة لحصاد المزروعات فنشروا إعلانا يقولون فيه: إنهم يدفعون أجرة الحاصد في النهار خمسة دولارات - هذا قبل الحرب الأولى - فما طرق هذا الخبر مسامع طلبة الكليات، وكلهم أبناء بيوت غنية حتى تسابقوا إلى العمل وحصل كل منهم نصيبه.
أما نحن فقد قتلتنا القنفشة، ديوك حبش، إذا علونا فترا تسامينا كيلومترا. فنحن نزوج أولادنا وننفق عليهم ولا ينفصلون عنا. وهم يفصلونهم عنهم متى رشدوا، ويكون البيت مثابة لهم إذا شاءوا ولكن ببدل. إن ابن تيودور روزفلت ترك ثروة أبيه ولم يتكل عليها، وأراد هو أن يكون مستقبله كما كون أبوه مستقبله. أما نحن فلا يفارقنا هم أولادنا، يرافقنا حتى نغمض أعيننا آخر إغماضة. قد سمعت واحدا بلغ السبعين يبكي أباه الميت الذي جاوز التسعين قائلا: يا أبي. وص أصحابك في.
وقال لي أحد أصدقائي وهو أديب كبير عندما زار مكتبي، سمعته يتأوه فقلت: ما لك؟! فأجاب: بعت من مكتبتي كتبا نفيسة بألف ليرة ذهبية حتى زوجت الصبي .
فقلت له: لو كنت أميركيا لما عناك أمره، ولما أخرجت كتبا كانت هي أساس شهرتك ومنها أتت ثروتك الفكرية.
فقال: وليتك تعلم ماذا صار فيما بعد!
فأجبته: دعني يا سيدي من ماذا صار! صار أن الأب يحب ابنه، والابن يحب زوجته، والزوجة هي وذمتها، وحسبك الله يا محمد!
فبفتيان العالم الجديد فليتشبه طلابنا، وبآبائهم فليقتد آباؤنا. ولعله من هنا قد جاء إخفاق المتعلمين المهاجرين حتى سمعنا أن فلانا الذي تخرج في الكلية الفلانية هو في حالة من الفقر يرثى لها، والمعاز الأمي الذي لا يعرف الألف من العصا، صار في غربته صاحب دور وقصور، ومزارع ومعامل، وشركات ضخمة. هذا الجاهل يطأ الشوك بأخمصيه غير مبال بالصعاب، وذاك - وهو صاحب الشهادة المتنعم في نشأته - تنفخه العظمة الكاذبة ولا يبالي إلا بتركيز القبة وربطة الرقبة والنظر في المرآة ليرى إذا كانت منسجمة مع ثوبه وبوطه وكلساته.
إن النجاح موقوف على العمل، أي عمل كان، ونحن لا عمل ولا ثبات. دأبنا الشكوى من ضيق البلاد، وبطء الحركة، غير عارفين الحقيقة كطفل أصيب بوجع في جسمه، فأخذ يشير طورا إلى رأسه، وحينا إلى معدته، فلم هذا الكسل؟! أليس من الواجب على كل شاب، إن غنيا أو فقيرا، أن يجتهد في هذا العصر الذي لا يعيش به الإنسان إلا لنفسه؟ فمجد الأجداد (رحمة الله عليهم) قد دفن معهم، والمستقبل أسد هصور يزأر في غاب الحياة، وهل يقنص الأسد غير الأسد.
Halaman tidak diketahui