وفي تلك السنة وهي سنة 55 فرزوا منا تلامذة لمدرسة المهندسخانة ببولاق، فاختاروني فيمن اختاروه، فأقمت بها خمس سنين وأخذت جميع دروسها وكنت فيها دائما أول فرقتي وقلفتها، فتلقيت بها الجزء الأول من الجبر على المرحوم طائل أفندي، وكذا تلقيت عنه علم الميكانيكا وعلم الديناميكا وتركيب الآلات، وتلقيت الجبر العالي عليه وعلى المرحوم محمد بك أبي سن، وحساب التفاضل وعلم الفلك على المرحوم محمود باشا الفلكي، وعلم الأدروليك على المرحوم دقلة أفندي، وعلم الطوبوغرافيا والثرورزية على المرحوم إبراهيم أفندي رمضان، وعلم الكيمياء والطبيعة والمعادن والجيولولجيا وحساب الآلات على المرحوم أحمد بك فايد، والهندسة الوصفية وقطع الأحجار وقطع الأخشاب والظل والنظر بعضه على إبراهيم أفندي رمضان، وبعضه على المرحوم سلامة باشا، وتلقيت عليه أيضا خاصة القسموغرافيا، ولعدم وجود كتب مطبوعة في هذه الفنون وغيرها إذ ذاك، كان التلامذة يكتبون الدروس عن المعلمين في كراريس كل على قدر اجتهاده في استيفاء ما يلقيه المعلمون، وكان المعلمون يومئذ يبذلون غاية مجهودهم في التعليم، فكان يندر أن يستوفي تلميذ في كراسته جميع ما يلقى إليه خصوصا الأشكال والرسوم، ولذلك كان الأمر إذا تقادم أو خرجت التلامذة من المدارس يعسر عليهم استحضار ما تعلموه فكان يضيع منهم كثير مما تعلموه، وفي آخر مدة المهندسخانة كان يطبع بمطبعة الحجر بعض كتب فاستعانت بها التلامذة وحصل منها النفع، ثم تكاثر طبع الكتب شيئا فشيئا إلى الآن فصارت تطبع الفنون بأشكالها ورسومها، فسهل بذلك تناولها واستحضار ما فيها.
ثم في سنة 60 عزم العزيز على إرسال أنجاله الكرام إلى مملكة فرنسا ليتعلموا بها، وصدر أمره بانتخاب جماعة من نجباء المدارس المتقدمين ليكونوا معهم وحضر المرحوم سليمان باشا الفرنسي إلى المهندسخانة، فانتخب عدة من تلامذتها، فكنت فيهم، وكان ناظرها يومئذ لامبير بك، فأراد أن يبقيني بالمهندسخانة لأكون معلما بها، فعرضت على سليمان باشا أني أريد السفر مع المسافرين، وجعل الناظر يحتال علي وأحال على الأساتذة ليثبطوني عن السفر، وقالوا لي: «إن بقيت ههنا تأخذ الرتبة حالا وتترتب لك الماهية، وإن سافرت تبقى تلميذا وتفوتك تلك المزية» ورأيت أن سفري مع الأنجال مما يزيدني شرفا ورفعة واكتسابا للمعارف، فصممت على السفر مع أني أعلم أن أهلي فقراء يتشوفون ما عسى أن يعود عليهم بالنفع من الوظيفة (الماهية)، لكن رأيت الكثير الآجل خيرا من هذا القليل العاجل، فحصل ما أملته والحمد لله.
فسافرنا إلى تلك البلاد، وجعل مرتبي كل شهر مائتين وخمسين قرشا كرفقتي، فجعلت نصفها لأهلي يصرف لهم من مصر كل شهر، وكانت هذه سنتي معهم منذ دخلت المدارس، فأقمنا جميعا بباريس سنتين في بيت واحد مختص بنا، ورتب لنا المعلمون لجميع الدروس، والضباط والناظر من جهادية الفرنسية؛ لأن رسالتنا كانت عسكرية، وكنا نتعلم التعليمات العسكرية كل يوم، وهنا نكتة نذكرها: وهي أن معلومات رسالتنا كانت مختلفة: فبعضنا له إلمام بالتعليمات العسكرية فقط مثل الذين أخذوا من الطوبجية والسواري والبيادة، والبعض له إلمام بالعلوم الرياضية ولا يعرفون اللغة الفرنسية كالمأخوذين من المهندسخانة الذين أنا منهم، والبعض له معرفة باللغة الفرنسية، وكان بعض هؤلاء معلمين فيها بمدارس مصر، فاقتضى رأي الناظر أن يجعل المتقدمين في الرياضة واللغة الفرنسية فرقة واحدة وكنت أنا منهم، وأمر المعلمين أن يلقوا الدروس للجميع باللغة الفرنسية لا فرق بين من يفهم تلك اللغة ومن لا يفهمها، ففعلوا، وأحالوا غير العارفين بها على العارفين ليتعلموا منهم إعطاء الدروس، فكان العارفون باللغة يبخلون علينا بالتعليم لينفردوا بالتقدم، فمكثنا مدة لا نفهم شيئا من الدروس حتى خفنا التأخير، وتكررت منا الشكوى لتغيير هذه الطريقة وتعليمنا بكلام نفهمه، فلم يصغ لشكوانا، فتوقفنا عن حضور الدرس أياما، فحبسونا وكتبوا في حقنا للعزيز محمد علي، فصدر أمره للتنبيه علينا بالامتثال ومن يخالف يرسل إلى مصر محددا، فخفنا عاقبة ذلك، وبذلت جهدي وأعملت فكري في طريقة يحصل لي منها النتيجة ومعرفة اللغة الفرنسية، فسألت عن كتب الأطفال، فنبئوني عن كتاب فاشتريته، واشتغلت بحفظه، وشمرت عن ساعد جدي في الحفظ والمطالعة، ولزمت السهاد وحرمت الرقاد، فكنت لا أنام من الليل إلا قليلا حتى كان ذلك ديدنا لي إلى الآن، فحفظت الكتاب بمعناه عن ظهر قلب، ثم حفظت جزءا عظيما من كتاب التاريخ بمعناه أيضا، وحفظت أسماء الأشكال الهندسية والاصطلاحات، كل ذلك في ثلاثة الأشهر الأول، وكانت العادة أن الامتحان في رأس كل ثلاثة شهور، وكنت مع ذلك ألتفت للدروس التي تعطيها الأساتذة، فأثمر الحفظ معي ثمرة كبيرة، وصرت أول الرسالة كلها بالتداول مع حماد بك وعلي باشا إبراهيم.
ولما حضر إلى مدينة باريس المرحوم إبراهيم باشا سر عسكر الديار المصرية، حضر امتحاننا هو وسر عسكر الديار الفرنسية مع ابن ملكهم، وأعيان فرنسا، وجملة من مشاهير النساء الكبار، فأثنى الجميع علينا الثناء الجميل، وفرقت علينا المكافآت نحن الثلاثة، فناولني المرحوم إبراهيم باشا مكافأتي بيده وهي المكافأة الثانية، وكانت نسخة من كتاب جغرافيا مالطبرون الفرنسي بأطلسها منه هبة. ودعينا للأكل مع سر عسكرنا إبراهيم باشا، ولما رجع إلى مصر صار يثني علينا عند العزيز وغيره، وبعد تمام سنتين تعين الثلاثة الأول من فرقتنا، وهم: أنا وحماد بك وعلي باشا إبراهيم إلى مدرسة الطوبجية والهندسة الحربية بناحية ميتس من مملكة فرنسا أيضا وأعطينا رتبة الملازم الثاني، فأقمنا بها سنتين أيضا، وتعلمنا فيها فن الاستحكامات الخفيفة، والاستحكامات الثقيلة، والعمارات المائية والهوائية عسكرية ومدنية، والألغام وفن الحرب وما يلحق به، مع إعادة جميع ما سبق تعلمنا إياه بتلخيص من المعلمين في عبارات وجيزة جامعة، ولم يحصل امتحاننا في هذه المدرسة إلا في آخر السنتين، فكنا في النمرة الخامسة عشرة من نحو خمسة وسبعين تلميذا، ثم تفرقنا في الآلايات، فكنت في الآلاي الثالث من المهندسين الحربيين، فأقمت فيه أقل من سنة، وكان المرحوم إبراهيم باشا يود إقامتنا في العسكرية حتى نستوفى فوائدها، ثم نسيح في الديار الأوربية لنشاهد الأعمال، ونطبق العلم على العمل مع كشف حقائق أحوال تلك البلاد وأوضاعها وعاداتها، وكان ذلك نعم المقصد، ولكن أراد الله غير ما أراد هو، وتوفي إلى رحمة الله تعالى.
وفي سنة 69 من الهجرة تولى حكومة مصر المرحوم عباس باشا، فطلبنا للحضور إلى مصر نحن الثلاثة؛ وكان علي دين لبعض الإفرنج نحو الستمائة فرنك، وكانت الأوامر المقررة أن لا يسافر أحد إلا بعد وفاء دينه، وأن من يأتي منا إلى مصر مدينا يوضع في الليمان، فوقعت في أمر خطير، وبقيت متحيرا، وطلبت من رفقتي أن يسلفوني فقالوا: ما عندنا ما نسلفك إياه، وأنا أعلم تيسر بعضهم واقتدارهم، فقعدت في محل إقامتي أفكر فيما أصنع، وإذا بصاحب لي من الإفرنج دخل علي يدعوني للأكل عنده حيث إني مسافر، فوجد حالي غير ما يعهد، فسألني فأخبرته، فقال: «لا تحزن، قل يا سيد يا بدوي يا من تجيب الأسير خلصني مما أنا فيه»، فقلت له: ليس الوقت وقت هزل، فقال: هذا أمر هين لا يهمك، ثم ذهب فغاب قليلا ورجع إلي بكيس رماه أمامي، فإذا فيه قدر الدين مرتين، وقال لي: بعد استقرارك بمصر وتيسر أمرك ترسل إلي وفاءه، ولم يأخذ مني سندا بوصول المبلغ، وقال: أنا أكتفي بالقول منك، وقد كان، وحضرنا إلى مصر في تلك السنة، وأرسلت إليه المال على يد قنصل فرنسا بعد مدة، ومن حينئذ بطل المكتب الذي خصصه العزيز للتلامذة في بلاد أوربا، وبطلت الرسالة المصرية ومن بقي هناك كان في المدارس الفرنسية تحت نظارتهم بمصروف على الحكومة.
ولما جئنا إلى مصر مكثنا جملة أيام لا ندري ما يفعل بنا، ثم طلبنا إلى طرف حسن باشا المناسترلي وهو الكتخدا يومئذ، وأحسن إلينا نحن الثلاثة دون غيرنا برتبة يوزباشي أول، وتعينت أستاذا بمدرسة طره، وتعين علي باشا إبراهيم وحماد بك في آلاي الطوبجية بطره أيضا، وتعين الذين كانوا بمدرسة أركان حرب الفرنسية في معية رئيس رجال أركان حرب سليمان باشا الفرنسي برتبتهم الأولى وهي رتبة الملازم، ورفت الباقون، ثم فرزت تلامذة المدارس، وتشكلت مدرسة المفروزة من متقدمي تلامذة جميع المدارس، ولم يبق بمدرسة طره إلا جماعة قليلون متقدمون في السن قد أزمنوا في المدرسة، وكان ناظرهم يومئذ برنستو بك من ضباط طوبجية فرنسا المعروفين، وكان رجلا رقيق الطبع حسن الأخلاق حسن التدبير حسن القيام بوظائفه، فأحضرني مع باقي المعلمين، وقال لنا: إن التلامذة الباقين صاروا إلى ما ترون من قلة العدد وكبر السن وطول المدة، وأخاف أن ذلك يدعوكم إلى التكاسل، لكني أرجوكم كما هو الواجب عليكم أن تبذلوا الجهد معهم زيادة حتى تستميلوهم إلى الاستفادة على قدر الإمكان، وأملى أن هذه الحالة لا تدوم، وعما قليل تستقيم الأحوال، وعلي وعليكم أن نقوم بواجب الامتثال وأداء ما علينا، ثم قال لي: «خصوصا إنك قد اشتغلت بفن الهندسة الحربية، وقد بلغني أن جاليس بك يرغب أن تكون معه، وألح كثيرا في طلبك، ولم يجب إلى مرغوبه، وأظن أن الأمر يئول إلى إلحاقك به، فلا تضجر واصبر، فعاقبة الصبر خير، والآن ما عندك إلا تلميذ واحد، وعن قريب ألحق لك به غيره» فشكرناه على نصيحته، وانصرفنا واشتغل كل منا بما نيط به.
وفي تلك المدة تأهلت بكريمة معلمي في الرسم بمدرسة أبي زعبل، وكان أبوها قد مات، وصارت إلى حالة الفقر، فتزوجت بها لما كان لوالدها علي من حق التربية والمعروف، ثم حدثتني نفسي أن أستأذن لزيارة أهلي بعد هذه الغيبة الطويلة، فكلمت الناظر في ذلك، فقال لي: إن من يسافر يقطع نصف ماهيته، وأنت الآن محتاج إليها، فالأحسن أن تصبر حتى أكلم سليمان باشا الفرنسي ليأخذك معه في مأمورية اكتشاف البحيرة والسواحل، فإذا حصل ذلك يتم مرغوبك بسهولة، وقد حصل، وأخذت المأمورية وسافرت معه، ولما كنا بدمياط انفصلت عنه في جهة من المأمورية، وبعد أن مسحت البحيرة وحررت جريدتها ورسمها، ذهبت إلى بلدتنا برنبال، وكان أهلي قد رجعوا إليها قبل ذلك بمدة، فوجدت أن أبي قد سافر إلى مصر لزيارتي ولم أجد في المنزل إلا والدتي وبعض إخوتي، وكان دخولي عليهم ليلا، فطرقت الباب، فقيل: من أنت؟ فقلت: ابنكم علي مبارك. وكانت مدة مفارقتي لأمي أربع عشرة سنة لم ترني فيها ولا سمعت صوتي، فقامت مدهوشة إلى ما وراء الباب، وجعلت تنظر وتحد النظر، وكنت بلباس العسكرية الفرنسي لابسا سيفا وكسوة تشريف، وكررت السؤال حتى علمت صدقي، ففتحت الباب، وعانقتني ووقعت مغشيا عليها ثم أفاقت وجعلت تبكي وتضحك وتزغرد، وجاء أهل البيت والأقارب والجيران، وامتلأ المنزل ناسا، وبقينا كذلك إلى الصباح، والناس بين ذاهب وآيب، ثم رأيت والدتي في حيرة فيما تصنعه لي من الإكرام، وتريد عمل وليمة وهي فارغة اليد، ورأيتها تبكي ففهمت حقيقة الحال، فناولتها عشرة بنتوات كانت بجيبي، ففرحت وأولمت، فأقمت عندهم يومين، ثم استأذنتهم ووعدتهم بالعود، ورجعت إلى دمياط، وأوردت نتيجة الاستكشاف على رئيس الرجال، فوقعت عنده موقع الاستحسان وأثنى علي، وأخبرني أنه حصل على أمر من عباس باشا بإلحاقي بمعية جاليس بك فقبلت يده وشكرت له، ولما رجعنا إلى المحروسة استأذنته وسافرت إلى إسكندرية بعيالي وأخ وأخت لي صغيرين كنت أربيهما، فلما وصلت هناك تركتهم في المركب، وذهبت إلى جاليس بك، فوجدت عنده سليمان باشا الفرنسي قد سبقني وكذا غيره من الأمراء والضباط، فجلست بعد أداء الواجب، وبينما فنجان القهوة بيدي إذا بمكتوب وارد بالإشارة من المرحوم عباس باشا بطلبي حالا في الوابور المتهيئ للقيام، فاغتم لذلك جاليس بك، وداخلني ما لا مزيد عليه من الخوف لما كنت أعلم مما كان يقع لمن يلوذ بالعائلة الخديوية من الإيذاء، وكان لي اجتماعات بالخديوي إسماعيل وغيره منهم، فهون علي سليمان باشا الفرنسي، وقال: لعله يريد أن يجعلك معلما لابنه لأنه تكلم في ذلك مرارا فلا تخف، فقلت: إن أهلي في المركب وكيف أصنع بهم؟ فقال: أنا أنوب عنك فيهم وأرسلهم وراءك إلى مصر فخل عنك هذا الأمر وامض بسلامة الله، فمن غير أن أرى عيالي ولا أن يعلموا بي سافرت في الوابور وأنا بين راغب وراهب، ولما مثلت بين يدي المرحوم عباس باشا أنا وحماد بك وعلي باشا إبراهيم، قال لي: أنت علي أفندي مبارك؟ قلت: نعم، فقال: «إن أحمد باشا (يعني أخا الخديوي السابق) قد أثنى عليك، فقد جعلتكم في معيتي، وقد أمرت بامتحان مهندسي الأرياف ومعلمي المدارس لأن الكثير منهم ليسوا على شيء، وجعلتكم من أرباب الامتحان»، وشرط علينا أن لا نتكلم إلا بالصدق ولو على أنفسنا، وإذا عثر على أن أحدا منا كذب في شيء فجزاؤه سلب نعمته وإلباسه لبس الفلاحين وسلكه في سلكهم، ثم حلفنا على ذلك واحدا وأحدا فحلفنا، وحينئذ أنعم علينا برتبة الصاغقول أغاسي، وأعطانا نيشانات الرتبة ؛ وهي عبارة عن نصف هلال من الفضة ونجمة من الذهب فيها ثلاثة أحجار من الماس، وخرجنا فرحين، واشتغلنا بما نيط بنا على الوجه الأتم، وسافرنا معه إلى الجهات القبلية، وصار امتحان المهندسين وتعويض كثير بآخرين من أرباب المعارف الذين تربوا في المهندسخانة.
وفي هذه السفرة أحيل علينا الكشف على شلال أسوان لبيان الطريق الأوفق لسير المراكب، فاكتشفنا ذلك، وقدمنا به جريدة ورسما، فأتى على الغرض المطلوب، ومذ كنا بأسيوط أمرنا بالذهاب إلى منفلوط لبيان ما يلزم عمله في تحويل البحر عنها، فتوجهنا مع الكاشف جمال الدين كبير هذه المدينة، وقررنا ما يلزم إجراؤه لمنع هذا الداء العضال، فأجري وحصلت نتيجته.
ثم لما عدنا إلى المحروسة صدر الأمر بتوجهنا إلى القناطر الخيرية لمشورة مع موجيل بك باشمهندسها فيما يلزم عمله لتسهيل سير المراكب بها ومنع العطب عنها، فإن الخطر كان متتابعا فيها لشدة التيار هناك لأن القناطر كانت قد قاربت التمام، ولم يبق إلا فتحات الوسط، فكان كثير من المراكب يتعطل إن لم يعطب، وكان موجيل بك قد أبدى رأيا بعمل ترع تمر فيها المراكب، وقدمه للمرحوم عباس باشا فلم يوافقه عليه لما في ذلك من كثرة المصرف، وهذا هو السبب في تعيننا، فبالتداول اتفقنا على استعمال وابورات تسحب المراكب بالأرغاطات، وعرض ذلك عليه فأعجبه، وأجرى به العمل وأبطل التصميم الأول، وكان كثيرا ما يحيل علينا أشغالا ترد من الدواوين مما يتعلق بالهندسة فنقوم بها.
وفي أواخر سنة 66 كان قد عرض عليه من طرف لامبير بك ترتيب للمدارس الملكية، والرصدخانة، يبلغ منصرفه نحو عشرين ألف كيس، فاستعظمه وأحال علينا النظر فيه بشرط أن لا نفشيه، فتداولنا ذلك بيننا أياما، ولم تتفق آراؤنا، فخفت فوات الوقت قبل تمام العمل، فشرعت وحدي في عمله من غير انتظار لرأي أحد، فعملت لجميع المدارس ترتيبا بلغ منصرفه ألف كيس، وجعلت أساس ذلك احتياجات القطر لا غير، وأن جميع المدارس الملكية تكون في محل واحد تحت إدارة ناظر واحد، وأسقطت الرصدخانة بالمرة من الترتيب لعدم وجود من يقوم بها حق القيام إذ ذاك من أبناء الوطن مع احتياجها إلى كثرة المصرف، وأبديت في الترتيب أنه يلزم توجيه جماعة إلى بلاد الإفرنج ليتعلموا فنون الرصدخانة، وبعد قدومهم تفتح إدارتها، وعينت لذلك محمود باشا الفلكي، وكان إذ ذاك برتبة صاغقول أغاسي وإسماعيل باشا الفلكي، وحسين بك إبراهيم وكان من التلامذة الذين تمموا دروسهم، ثم قرأت ذلك الترتيب على رفيقي، فلم يوافقاني عليه، فقلت هو عندنا محفوظ، فإن لم نعمل غيره نقدمه ليمتنع عنا اللوم، وقد كان ذلك عين الصواب؛ لأنه بعد قليل طلب منا تقديم الترتيب، ولم نكن عملنا غير هذا فقدمناه، فاستغربه المرحوم عباس باشا وعجب مما فيه من الأصول المخترعة مع قلة مصرفها، وقال: من عمل هذا؟ فقلت: أنا عملته، ووجد آراء صاحبي مختلفة ومخالفة لذلك، فأحال النظر فيه على مجلس ينعقد من جميع رؤساء الدواوين مع حضوري وحضور لامبير بك، فانعقد المجلس ثمانية أيام وبعد المناقشة الطويلة استقر رأي الجميع على هذا، وصدرت خلاصة باستحسانه واستحقاقي رتبة أميرالاي، فطلبني المرحوم عباس باشا، وسألني عما أراه من نجاح هذا الترتيب وعدمه لدى العمل به، فقلت: «هذا رأيي، فإن أحسن مديره إدارته وأجراه على فهم منه وبصيرة نجح، وإلا فلا، فإن الساعة المضبوطة الدقيقة الصنعة يفسدها من لا يحسن إدارتها من جاهل أو مفرط وتدوم على حالها إذا كانت بيد من يحسن إدارتها»، فعجب من جراءتي واستحسن جوابي، وقال: فهل تضمن ذلك؟ فقلت: وكيف وقد ضمنه الجميع بالقرار الذي عملوه!، فأحال علي نظارتها وأعطاني الرتبة والنيشان وجعل علي باشا إبراهيم معلم نجله إلهامي باشا، وحماد بك ناظر قلم هندسة برتبة بيكباشي فأجريت إدارة المدارس المهندسخانة وما يلحق بها، وأحال علي تعيين معلمي المفروزة وترتيب دروسها واختيار ما يلزم لها من الكتب؛ فأجريت ذلك، وكان لي عنده منزلة.
Halaman tidak diketahui