Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genre-genre
وترى السائح الشرقي الحديث القادم من شمال أفريقيا أو من بلاد العراق أو عائدا من بمباي إلى الخليج الفارسي يحدثك بلوعة عن دولة بحرية إسلامية نشأت في تلك البحار، فإن أهل البلاد وهم من الإباضية إحدى فرق الخوارج قد انشقوا على أنفسهم فاستقل الفريق الأعظم منهم بالداخل والجبل الأخضر، وجعلوا عليهم إماما هو الشيخ الرويحي ثم خلفه الشيخ الخليلي وذلك على أثر مفاوضة السلطان تيمور مع الإنجليز في سنة 1912، وما زال تيمور يحكم السواحل وطولها ثلاثمائة كيلومتر في عرض أربعين كيلومترا، وإذا نزلت إلى الجنوب لقيت جزيرة البحرين وعاصمتها منامة بقصورها الفخمة، وإذا صعدت شمالا وجدت إمارات صغيرة بل مدنا مثل دبي وأبو ظبي ورأس الخيمة. ولكن الشعب والمدنية والتعليم والسياسة والمالية ... هذا كله وراء الستار أو في المستوى الخلفي، لأن استئثار الأمراء بالملك وتنازعهم على السلطة وثروة الأقلية وفقر الأغلبية قد غطت على كل شيء، وجاءت دسائس السياسة الأجنبية فقضت على البقية الباقية.
سبب انحطاط العرب
روى لنا محدث ثقة أنه زار عمان في سنة 1924 ونزل بضيافة السيد أحمد دملوك من أكبر أغنيائها، وكان القصر فخما والرياش نفيسا والمائدة رداحا، وكل مظاهر العز والرفاهية موفورة.
وفي الصباح دخل عليه في قاعة الجلوس التي أعدت له شاب جميل الصورة يلبس قميصا في غاية القذارة قد انقلب من البياض إلى السواد وقد أرخى شعوره مكدسة على كتفيه وعلى جبينه ولطخها بزيت قذر فكان منظره كإنسان الغابة، وقد قال صاحبي إنه ظن عند رؤيته أن هذا الشاب لم يذق طعم النظافة حياته وأنه لم يعرف لون الماء ولا رائحة الصابون. فلما دنا منه وسلم عليه رد تحيته بغير اكتراث، فجاء رجل وجيه وهمس في أذن الضيف محدثي وقال له: «هذا السيد محمد دملوك نجل السيد أحمد دملوك»، فدهش الضيف ولم يخف دهشته على الشاب وقال له: يا سيد محمد، لا عذر لك فيما أنت فيه من سوء البزة، فالغنى بحمد الله متوافر والماء كثير والثياب النظيفة الجميلة من الحرير والمخمل ميسورة والحلاق يتمنى أن يتشرف بقص شعرك وتقليم أظافرك، فضحك الشاب وقال له: «أتريد أن أكون مخنثا؟!»
غير أن هذا الشاب الذي يحمل في رأسه تلك المعقولية الغريبة والذي تربى على أن النظافة قد تؤدي إلى فقد الرجولة، ونسي كل ما حفظه الأثر من تاريخ النبي ووصف حياته الخاصة، وما أمر به الدين الإسلامي؛ لم يكن غبيا ولا بليدا بل كان على أوفر نصيب من الذكاء وحسن الإدراك وسعة الاختبار، وكان في عينيه بريق يدل على سمو النفس، فقد قال يوما لمحدثي: أتريد حقا يا سيد فلان أن تصلح شئون العرب، وأنت تغار على تاريخهم وتتمنى لهم السلامة والنهوض والعلا؟
فأجاب صاحبي بالإيجاب.
فقال له: عليك إذن أن تلقي بملايين والدي في البحر أولا، فإذا تمكنت من ذلك فإنك ناجح في إنهاض العرب.
فاستفسر وطلب المزيد من البيان فقال: اعلم يا سيدي أن هذه البلاد تشمل عشرين أو ثلاثين شخصا من أرباب الملايين وهم يسخرون الشعب كله في تكوين الثروة لأنفسهم، فلا يعقل أنهم يعينون أحدا على تحسين حالة الشعب بتعليم أو تربية أو تهذيب، فالحال كما ترى يشقى المليونان أو الثلاثة ليسعد عشرون أو ثلاثون رجلا فقط، وأنشد:
وكم قائل ما لي رأيتك راجلا
فقلت له من أجل أنك فارس
Halaman tidak diketahui