Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genre-genre
وقد استعرضنا الأديان التي ظهرت في الشرق لنقف القارئ على حقيقة مهمة وهي أن معظم الأفكار الدينية والروحانية التي ظهرت في العالم إنما كان مصدرها آسيا، حتى الدين المسيحي الذي ساد في أوروبا وأمريكا، وأن أمم الشرق لم تقنع كغيرها بعقيدة واحدة ولم تصلح بمرشد واحد أو مرشدين، بل احتاجت في حياتها النفسانية إلى عشرات الأديان وكل دين ينطوي على مئات من الشيع والفرق والأحزاب. في حين أن ممالك أوروبا وأمريكا، وهم ذوو مدنية عظيمة وقوة مادية أعظم، قد دانوا بدين واحد وهو النصرانية وإن كانوا من قبل وثنيين، إلا أن تلك الوثنية قد زالت واتخذوا الدين المسيحي في كل بقعة وأرض وشعب من سواحل سيبريا شرقا إلى شواطئ المحيط غربا.
وحتى وثنيتهم كانت ترجع إلى عبادة الكواكب والأبطال (في اليونان ورومة) ولم تنزل إلى عبادة الأحجار والأشجار. وإن الأمم الآسيوية والأفريقية التي أقبلت على الأديان المنزلة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، قليلة جدا بالنسبة للكثرة الوثنية، ويعد انتحال واحد منها في آسيا أو أفريقيا استثناء، فإن للبرهمية والبوذية وعبادة الأفيال والكونفوشيوسية والسنتينوية القدح المعلى في شعوب آسيا. والإسلام في كل من الصين والهند وجزر المحيط استثناء، ما عدا أهل إندونيسيا وبضع عشرات الملايين في بقية آسيا. ولعل قارة أفريقيا هي وحدها السائرة نحو الإسلام بقدم ثابتة، ولكن لا بد من مضي بضعة أجيال على انتشار الإسلام فيها.
فماذا استفاد الشرق من هذه الروحانية المبالغ فيها، في حين أن أهل أوروبا وأمريكا وأستراليا سنوا الشرائع ونظموا المجالس وأحدثوا حضارة قوية التهمت الشرق بأجمعه؟ إن الشعوب الشرقية استغرقت كل قواها في المباحث التي وراء الطبيعة وبعد الموت وفي أعلى السموات، ولم تصرف كثيرا من جهودها فيما هو ماثل أمامها على سطح الأرض. إن في الهند براهمة واصلين يمكنهم نقل الجبال بإيمانهم، ويأتون في كل يوم بالعجائب التي نقرأ عنها ونراها ويقر بها كتاب فضلاء أمثال رومان رولان في كتابه عن راما كريشنا وڤيڤيكندا، ولكن هؤلاء القديسين والواصلين الذي يتحملون أشق الآلام في تعذيب أبدانهم وإماتة نفوسهم، وبلغوا الذروة من العلوم الروحانية، وعبدوا الآلهة والأرباب المتعددة الأيدي والرءوس والأرجل وزينوا الهياكل بالأحجار الكريمة والذهب والفضة؛ لم يقدروا على إبطال فعل مدفع واحد في حروب الاستعمار التي أعلنتها عليهم أوروبا، وإن شئنا التأدب في مقامهم قلنا إن أهل الباطن لم يرغبوا في التدخل في أمور أهل الظاهر. فهل من وراء هذا كله فائدة للشرق؟ وهل الاستمرار على هذه العبادات الوثنية السخيفة يعود على الشرق بخير بعد أن تبددت قوى هذه الأمم؟
4
حقا إننا رأينا أمة وثنية آسيوية تكافح وتتحضر وتتغلب على دولة أوروبية، وهي اليابان، ولكنها وحيدة ومنفردة والبحث في معتقداتها أدى بنا إلى العلم بأنهم لا يكترثون كثيرا لأربابهم، ويتخذونهم وسائل للوصول إلى أغراضهم الدنيوية. وهل لا بد للشرق من الإفراط في الأديان بعد الذي رأينا؟ إن أوروبا تعير البيزنطيين بما وقعوا فيه من الإفراط في الاشتغال بالدين بمناقشات بيزنطية أدت إلى اقتحام الترك عاصمتهم وهم يبحثون في هل الملائكة ذكور أم إناث، وهل للمرأة روح مثل الرجل أم لا! فهل تريد بقية أمم الشرق أن تقع في مثل ما وقع فيه أهل بيزنطة من الخيبة والخسران؟
وقد حدث في العهد الأخير حادثان جليلان في تاريخ العالم، أولهما أن الروس وعددهم 400 مليون وكانوا زعماء الكنيسة الأرثوذكسية وكانوا من المتعصبين للدين ومن أهل التشدد في المذاهب؛ قد طلقوا الدين المسيحي بتاتا، ونشروا الإلحاد وأقاموا له هيكلا كان أصله مجمعا للقساوسة والبابوات الأرثوذكس، وهم لم يصابوا ببلاء ولا تزال دولتهم قائمة.
وفي تركيا أدخل مصطفى كمال آراء جديدة وغير من مظاهر المسلمين في أحوالهم، وصرف النظر عن الأشكال، ووجه قوته إلى تنمية الدولة وإعظام شأنها، ونقل الكتابة من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية؛ فقامت عليه قيامة فريق من الناس يقدسون الدين دون سواه، وقام مدافعون عن مصطفى كمال يبررون فعله بما جرى لدولته وقومه على أيدي أوروبا لأنها كانت دولة الإسلام الكبرى، فكانت أوروبا تضطهدها وتحاربها وترمي إلى هلاكها واغتصاب أملاكها حتى قضت عليها ... والأعجب والأدهى أن المسلمين أنفسهم الذين كانوا تحت أحكام تركيا انقلبوا عليها وحاربوها ولم يساعدوها في ظرف من ظروف الضيق التي وقعت فيها.
فلم يساعدوها عندما اعتدى عليها الموغول منذ سبعمائة سنة، وجرد محمد علي وإبراهيم جيوشهما لمهاجمتها في عهد السلطان محمود في سورية والأناضول، وهما من رعاياها وولاتها.
وفي حرب روسيا لم يتقدم إلى مساعدتها إلا أفراد متطوعون ولم تسير دولة إسلامية جيشا من جيوشها للمحاربة في صفوف الأتراك إلا لمما، وفي العهود الأخيرة خلق لها العرب أنواع القلاقل في جزيرة العرب وسوريا والعراق حتى قضوا عليها. ووجد الحلفاء وزراء من الأتراك وشيوخا من مشيخة الإسلام يفتون بكفر مصطفى كمال ومن معه وبمروقهم من الدين ليسيئوا إلى سمعتهم في العالم الإسلامي، أما هم وسادتهم الذين كانوا منغمسين في المعاصي والفجور إلى أذقانهم وكانوا يمدون أيديهم لرشوة الأجانب فلم يكونوا خائنين ولا مارقين ولا ملحدين بل طهرة أبرار! ولما ذهب ملك تركيا بفعل أوروبا من جانب وبفعل المسلمين من جانب آخر، وسقطت تلك الخلافة البالية البائدة التي لم يكن لها معنى ولا طعم ولا ذوق ولا قيمة؛ قام المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، ومعظمهم مأجورون ووسطاء، ينعون على مصطفى كمال سلوكه، ويطعنون في شرفه وذمته وإخلاصه وأخلاقه، ويهددونه بأنه فقد الجنة، كأنهم هم ضمنوها لأنفسهم وأخذوا بها صكا على رضوان!
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل إن أحد المسلمين واسمه مصطفى الصغير، وهو مسلم هندي، دخل إلى تركيا باسم جمعية الخلافة المؤسسة في الهند، وتجسس على الرجل وأخذ يرسل التقارير إلى سادته الذين ربوه في عليكره وفي أكسفورد وأطلقوه كالأفعى السامة ينفث سمومه في دولة الإسلام الباقية.
Halaman tidak diketahui