Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genre-genre
ألمانيا وإنجلترا
لقد ألف المؤلفون كتبا كثيرة ليفسروا أسباب تمايز بعض الأمم بذكائها، جريا وراء تعليل ينطبق على الحقيقة التاريخية. وكان آخر من ألف فيها هوستون شمبرلن في كتاب «أسس القرن التاسع عشر»، وجيز والمؤرخ الفرنسي وميشليه وتين والدكتور إميل رايش وغيرهم، ولكن هذه النظرية قد ماتت الآن، والذكاء موهبة مشاعة بين جميع الأجناس والأمم ولم تختص به أمة دون أمة ولا شعب دون شعب، وقد هجر هذه النظرية كبار المؤرخين في كتبهم أمثال «ولز» في «تاريخ العالم»، وقد أهرقت دماء المحابر في سبيل تأييدها وضده، والآن قد زالت من عقول المفكرين والعلماء وكتبهم، ولكنها لم تزل من أفكار العوام فترى الإنجليزي يعتقد أنه أذكى العالم وشعبه أرقى الشعوب، وكذلك الفرنسي والألماني وغيرهما، وكل هذا راجع إلى رذيلة الغرور والإعجاب بالنفس.
فإن الشعب الروماني كان أقوى الشعوب وأذكاها في زمنه وقد كانت قوته الحربية والسياسية مضرب الأمثال، ومع ذلك قد قضى عليه بضعة رجال من اليهود الثائرين الذين تشتتوا بعد عهد أستاذهم ومعلمهم عيسى المسيح، فتمكن بولس وبطرس وبعض الحواريين بخطبهم وكتبهم من دك أعظم إمبراطورية حربية في العالم، وهكذا تمكن المسلمون الخارجون من الصحراء من القضاء على دولة الفرس ودول العراق ومصر والهند وشمال أفريقيا، بل هاجموا الأوروبيين في أوطانهم واستولوا على ممالكهم، ولم يكن قد مضى على ظهور الإسلام سبعون أو ثمانون عاما.
ويا حبذا لو استفاد الشرق من مصائبه! فإن الهزيمة لا تكون دائما سببا في السقوط أو الموت، فإن بعض الأمم مدينة في نهضتها إلى هزيمتها، فإن ألمانيا التي كانت أشرفت على الاضمحلال صدمت صدمة كبرى في موقعة إينا 1806 وقد أنزلتها تلك الموقعة إلى حضيض الخيبة والذل، ولكن هذه الهزيمة أيقظت شعور الألمان ونبهتهم إلى ما هم فيه من الانحطاط، ومن ذلك اليوم صحت عزيمتهم على النهوض، وفي يوم هزيمة ألمانيا بدأت نهضة ألمانيا. وربما كانت هزيمة الفرنسيين في سيدان 1870 هي التي أيقظت همة الفرنسيين، وما زالت تلك الهمة متيقظة في قلوب بعض الرجال أمثال بوانكاريه وديلكاسيه وكلمنصو حتى كانت حرب الانتقام في سنة 1914، وفيها استردت فرنسا الألزاس واللورين وقهرت ألمانيا في معاهدة فرساي بعد أن ألبت عليها دول العالمين القديم والجديد. فلا يجوز لنا أن نستهين بالهزيمة والانكسار، فرب هزيمة أورثت نصرا! وقديما قال أحد المتصوفين المسلمين: «رب معصية أورثت ندما واستغفارا خير من طاعة أورثت عجبا واستكبارا.» أو ما هذا معناه. أما الهزيمة الذميمة فهي التي تميت القلب وتضعف الهمة فلا تقوم للمهزوم بعدها قائمة، وهي مثل الانتصار الذي يملأ المنتصر إعجابا وغرورا فيكون ذلك بداية هلاكه.
وكل هذا يدخل في اعتبارات تكوين الأمم الخلقي والنفساني، فإن الإنجليز اشتهروا بقوة الإرادة وأذاعوا عن أنفسهم أنهم يعتقدون بأنهم مخلوقون لحكم العالم، والحقيقة أنهم جعلوا الاستعمار في القرن الماضي لسرقته وسلبه ونهبه، فإن الله أعدل من أن يخلق شعبا ليحكم العالم. والحقيقة أن كل أمة مخلوقة لتحكم نفسها، ولكن الأمة الذكية القوية الإرادة العنيدة المتشبثة قد تسود أمدا قصيرا أو طويلا غيرها من الأمم المستضعفة المستسلمة. وقد اكتسب الإنجليز نصيبا من الصلابة والعناد التي تشبه صلابة الكلب الإنجليزي القوي المشهور بولدوج، واسم الشعب كله جون بول مزيج من اسم شخص واسم حيوان وهو تشبيه صادق، وهذا «البولدوج» تراه متين العضلات يسير في الأرض مستعرضا وناظرا إلى العالم بغباوة وشراسة، وهو مكشر عن أنيابه الدميمة فلا تدري أضاحك هو أم عابس، أعدو هو أم صديق، وهو يبقى سائرا أو مقعيا في حالة صمت عميق لا يبدي حركة ولا صوتا ولا يلهث كغيره من الكلاب سواء أحملت عليه أم لم تحمل، ولكنه إذا دنا من شخص وعضه وأطبق فكيه الخبيثتين على قطعة من لحمه فلا يفرقهما إلا عن أشلاء ممزقة، لأن أنيابه مصنوعة بحيث لا تنفرج إذا هي انطبقت وهو نفسه لا يعرف كيف يفرجها، وتراه أحيانا يعض مولاه فهو لا يفرق بين العدو والحبيب، وربما يستأذن عليه سيده ومربيه في جوف الليل أو في غرفة مغلقة فيهاجمه البولدوج ويعمل فيه أنيابه كما يفعل في أجنبي يهاجم مولاه!
وكثيرا ما شبه علماء الاجتماع الخلق الإنجليزي بأخلاق البولدوج.
فترى الإنجليزي صابرا على الشدائد، مستعدا لمقاومة ما يقع به من النوائب، مقيما على الكفاح حتى يبلغ مقصوده من قهر عدو أو فتح قطر أو دفع بلاء.
وأنت إذا شهدت الطفل الإنجليزي كما شاهدناه في وطنه ترى أن أمه تعوده منذ نعومة أظفاره على التخلص من ضعف الطفولة وخنوثتها، فلا يبكي ولا ينفعل ولا يظهر عواطفه على الأسلوب الذميم الذي تراه في أطفال الشرق وصبيانه. وفي الرابعة عشرة حيث يكون الطفل الشرقي لا يزال مدللا منعما ترى الفتى الإنجليزي شاعرا بعبء المسئولية وتراه حائرا في البحث عن خطة يسلكها في الحياة، وهو يريد أن يشق لنفسه طريقا سواء في الجامعات أو في المستعمرات أو في سبل العمل المجدي.
وقد يكون الصبي الشرقي أو الأوروبي غير الإنجليزي شديد الذكاء واسع الاطلاع، ولكنه لا يبلغ شأو الصبي الإنجليزي في الاعتماد على النفس والاستعداد للكفاح في الحياة. وقد يكون الشرقي أو الأوروبي مهملا للغد أو متواكلا، ولكن الإنجليزي لا يعرف إلا تدبير الغد والاستعداد له وحسبان حسابه، وهو يشعر بالمسئولية الملقاة على كاهل الرجل، ولا شيء في العالم ينضج الرجال مثل الشعور بالمسئولية.
التصوف في الشرق والغرب
Halaman tidak diketahui