Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genre-genre
ومن العجيب أن المصريين الذين رأوا أمان الله أثناء زيارته مصر وفرحوا به وأعجبوا بشجاعته ووطنيته وسعة إدراكه، عادوا فانقلبوا عليه لما عاكسه الدهر، وأنحوا عليه باللائمة وكرهوه وحقدوا عليه ظنا منهم أنه حقيقة خرج على الدين أو كفر أو فسق، ولم ينظروا إلى جانب الإصلاح العظيم الذي قام به الرجل، ولم يمجدوا عاطفة حب الوطن والعمل لرفعة الشرق والإسلام التي كانت تملأ قلبه، بل جعلوا تقديرهم له رهن عاطفة دينية لم يثبت لهم أن الملك السابق قد جرحها أو خدشها، ولم يسألوا أنفسهم كيف يفعل الرجل كل ما فعل إن لم يكن وطنيا مسلما ومخلصا لوطنه ودينه؟ كأن هؤلاء القوم لا يرضيهم إلا النفاق والمداجاة والظهور بغير الحقيقة، فلا حول ولا قوة إلا بالله! غير أننا لا ننسى أن أمان الله يمثل الزعيم ملكا يريد الإصلاح بالسياسة وبالحرب والاجتماع، ولكنه قبل كل شيء شرقي يعمل في وسط شرقي، وكل وسط شرقي لا يزال موبوءا ويمكن إهاجته في أقرب فرصة للانقلاب على المصلح أو الزعيم سواء أكان من الرعية أو من صف الملوك والأمراء.
الفصل الثاني
الطبقات الاجتماعية في الشرق وبعض الفروق بين الشرق والغرب والنظرية السبعية
إن الدولة جسم حي، قوامه روح الشعب، ولا تعيش أمة بغير مثل أعلى يهديها سواء السبيل في دياجير الحياة، فهو بمثابة النور الكشاف الذي يكشف أمامها ظلام الطريق فتتقي بضيائه شر العثار. ولكن المثل العليا ليست شائعة وليست من مواهب الجماعة، وقد لا تكون إلا في نفوس أفراد يعدون على الأصابع، وقد ذهب زمن استئثار بضعة أفراد بتلك المثل العليا وأصبح فرضا على كل منهم أن ينشره في طبقات الشعب لتمتلئ به كل نفس، لأن العالم والشعوب تسير نحو الديمقراطية بأوسع معانيها. وقد ذهب عهد الأرستقراطية الناشئة عن الميلاد وشرف الأرومة، وأصبحت الأرستقراطية هي شرف الخلق وسمو المدارك وتمايز العقل. وكما أن في الإسلام لا تفضيل إلا بالتقوى ولا كرامة إلا لمكارم الأخلاق فكذلك ترى الزعماء في الأمم العظمى لا يرون المستقبل إلا في المساواة وتفضيل الفضلاء حقا بعقلهم وعلمهم وأخلاقهم. وقد تغير نظام العالم الحديث وليس للمال الآن تلك المكانة التي كانت له في أوائل القرن العشرين، كما أن الأنساب العظيمة فقدت أهميتها لأن أحفاد الأحفاد جاءوا بأفظع الأمثلة فلا يصح أن يكونوا قادة أو في القمة، والإنجليز أنفسهم وهم من أشد الغلاة في هذا السبيل عدلوا الآن عن حصر الكرامة في الأعيان واللوردات ويحكمهم اليوم رئيس حكومة من العمال، وهذا الروح سار في العالم كله.
ولو أننا ننظر إلى ألمانيا التي كانت صاحبة أعظم قوة حربية في العالم، لرأينا أن تلك القوة العظيمة لم تكن مستمدة من قوة العسكرية وحدها أو من نظام الإمبراطورية المقيدة أو المطلقة، إنما كانت قوة ألمانيا مستمدة قبل كل شيء من قوة عقلية عظيمة تغذيها وتنفخ فيها، ولا تزال ألمانيا أعظم أمم العالم في التربية والتعليم وانتشار العلوم الحقة كالطبيعيات والكيميا والرياضيات بين ظهرانيها، فإن حرب ألمانيا لأوروبا كانت حربا علمية أكثر منها عسكرية، بل كان وراء مظاهر تلك القوة العسكرية سلسلة طويلة من كبار المفكرين والفلاسفة، فلا نهضة لأمة الآن سواء أكانت في الشرق أو في الغرب إلا بنهوض أفرادها وترقية عقولهم وتطهير نفوسهم وتأديبها أحسن تأديب.
فهذا البناء الداخلي من التهذيب والثقافة يسبق البناء الخارجي الذي هو مظهر القوة والحرب. وقد ترى في الأمم الضعيفة علائم لا تخفى على الخبير، منها عبادة القوة وإهمال الثقافة والتعلق بمثل أعلى يتطلب التضحية في حين أن الشعب منغمس في الرذائل سواء في ذلك الأغنياء والفقراء، ثم ترى الانقسامات السياسية تنخر في عظامه وهو لاه عن مشاكل الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وإذا شعر الشعب بعاطفة ظنها فكرة جديدة، فهو لجهله لا يميز بين الأهواء والعواطف والأفكار؛ فالنزاع السياسي هوى، وحب الوطن عاطفة، وتدبير الخلاص من الظلم فكرة، فترانا في الشرق الإسلامي نخلط بين الثلاثة أشياء فنتبع أهواءنا ونمجد عواطفنا ونحتقر الأفكار النافعة.
الشرق بين العاطفة والفكر
إن الهوى والعاطفة قوتان عظيمتان في حياة الشعوب، ولكن يجب أن تسخرا للعقل المفكر لا أن تقودا الأمة إلى الخراب، لا يمكن لعمل عظيم أن يقوم بغير عاطفة، ولكن العاطفة وحدها لا تكفي بل يجب أن يرشدها العقل ويسيرها، كما أن الهوى كالقوة المحركة لا يطلق له العنان إلا بعد أن نستوثق من الطريق التي نسلكها. وحياة الفرد مقسمة بين عقله وهواه، ولكن العقل يجب أن يسبق الهوى ويحكمه، لا يكفي أن تحب أن تسمو أو تتحرر أو تستقل بل يجب أن تريد ذلك، ولا يكفي أن تريده بل يجب أن تفكر في طريق العمل وتعمل للخلاص. والأمم التي تكون مثلها الأعلى وهي تحت حكم الهوى تندم في ساعة لا ينفع فيها الندم، ولكن الأمم التي تفكر أولا في هدوء ثم تندفع إلى العمل تفلح وتنجح.
والغرب الغاصب لا يعرف الهوى ولا يعرف العاطفة في محاربتنا واغتصاب بلادنا، بل يعرف التفكير والتدبير وانتهاز الفرص.
انظر كيف صنع ديزرائيلي في شراء أسهم قنال السويس، ثم ماذا صنعت إنجلترا في الاستيلاء على مصر بطريق القروض المتتالية، وماذا صنعت فرنسا في شمال أفريقيا، هل هاجت أو تبعت عواطفها أو هواها؟ كلا، إنها اتبعت فكرتها وتدبيرها.
Halaman tidak diketahui