138

Hayat Sharq

حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره

Genre-genre

ولا سيما وأن الملك حسين يحب الأمير عبد الله ويفضله ويثق به ويكثر من استشارته، ولهذا كان من واجبات نوري السعيد باشا أن يكتب من مصر إلى حسين صاحب القبلة والنهضة بما جرى في لندن وأن يطلب موافقته وموافقة الأمير عبد الله على قبول فيصل عرش العراق، لأن فيصلا وهو يعلم حلم أخيه ومكانة أخيه عند أبيهما صرح بأنه ليس في إمكانه أن يتقلد تاج المملكة العراقية ما لم يقترن ذلك بموافقة أبيه وأخيه.

ولما اطمأن نوري باشا من هذه الجهة أو كاد، سافر إلى بغداد ليقوم بدعاية واسعة النطاق لمصلحة الأمير أو الملك فيصل الذي صار في نظر القوم مواليا للحلفاء بحيث يولونه أو يتولى من قبلهم الإمارة أو الملك الذي يرغبون (جمادى الأولى سنة 1339).

وفي تلك المدة عقد في لندن مؤتمر اسمه مؤتمر شرق الأردن أرسل إليه فيصل احتجاجا باسم أبيه وأسرته، وطلب فيه من الحلفاء أن يبروا بوعودهم وذكرهم بأن أباه خاض الحرب تنفيذا للوعود والعهود، ولكن حلول عصر السلام خيب آمال العرب تخييبا لم يذق مثله سواهم من الحلفاء، وأن العرب لم ينالوا الاستقلال بل «أضاعوا ما كان لهم من الوحدة النسبية لما كانوا تابعين للأستانة، وليس بين الاعتبارات الصحيحة ما يسوغ التفريق بين الولايات العربية ...» وقد أصاب فيصل حفظه الله كبد الحقيقة ودل على سمو الإدراك.

والمذكرة التي اقتطفنا منها هذه النبذة كتبت في الظاهر باسم العرب والوحدة العربية ووعود الحلفاء لهم، ولكن حقيقتها ترمي إلى ترويج الدعوة عند الحلفاء لمصلحة الحكم والمبادرة بتعيين ملك على العراق، فهو أقل ما يمكن أن يرضى به العرب بعد أن خابت آمالهم وأقل نذر يعد وفاء ويقبل. وقد نالت المذكرة بغيتها وكانت ذات أثر بليغ في سير المداولات في القضية العراقية بصفة خاصة، وهذه المذكرة تعد في نظرنا عملا سياسيا موفقا لمصلحة الملك فيصل، ومثله كمثل من يقول: «أنت وعدتني بألف دينار وقصر وحديقة وكذا من الجياد، وأن ترد لي أملاكي المغتصبة وكذا وكذا، والآن وقد نكثت بوعدك وحنثت في يمينك فلا أقل من أن تعطيني القصر أو الحديقة.»

هذا كلام وجيه ولا يمكن لمغتصب مهما كان سيئ النية قاسي القلب أن يهمله، لأجل هذا عقد مؤتمر خطير في القاهرة في آذار سنة1921، ونحن نذكر أن تشرشل عندما وصل مصر أنزلوه في محطة شبرا وأدخلوه القاهرة خفية خوفا عليه من الانزعاج بالمظاهرات، وكان تشرشل وزيرا للمستعمرات في تلك السنة وكان مستشاره المقرب إليه لورنس صديق فيصل الحميم الذي صاحبه في ثورة العرب، وهو يعرفه معرفة جيدة ويحبه منذ التقيا في سنة 1916 على ما وصفناه في مكان آخر من هذا الكتاب. وقد استدعي سير برسي كوكس وجعفر باشا العسكري وساسون أفندي أحد وزراء العراق اليهود وميس جرترود بيل أفعى العراق العانس وجنرال أتكنسون وآخرون، وعقد هذا المؤتمر في فندق سميراميس وطرحت فيه مسألة العراق على بساط البحث، وهو المؤتمر الذي ذكره دكتور شهبندر في إحدى مقالاته على لورنس في مجلة المقتطف، وقال إن لورنس خدعه وأظهر له في أثنائه غير ما يبطن. وقد تم في هذا المؤتمر مشروع تمليك فيصل على العراق وإعلان العفو الشامل ونفي السيد طالب النقيب لأنه كان يطالب بالعرش أو يدعي أنه أحق من في العراق بالسيادة، وكان الإنجليز والعرب يخشون دسائسه، ولكن هذا العفو الشامل لم يكن ليشمل أمثال الشيخ ضاري الذي أمر ولده خميس وأتباعه بقتل الكولونيل ليتشمان.

وكان طالب النقيب قد أفسد على نفسه باتصاله بسير ويلسون اتصالا أظهر اتفاقه مع الإنجليز على وطنه، وقد نفي النقيب من العراق إلى الهند وأوروبا. أما الشيخ ضاري الذي استثني من العفو العام هو وولداه خميس وسليمان وسرب وأسلوبي ولدا مجباس ودهان بن فرحان وكلهم من عشيرة الزوبع، وتهمتهم قتل ليتشمان أو التحريض على قتله؛ فلم يقع منهم في قبضة الحكومة سوى الشيخ ضاري، فقد فر من العراق وجعلت الحكومة مكافأة كبيرة لمن يقبض عليه، فتعقبه أرمني صاحب سيارة وصار يتقرب إليه ويدعي الإخلاص له وينقله من مكان إلى مكان إلى أن ركب معه يوما فساق به إلى بغداد وسلمه وقبض المكافأة، وبذلك أضاف صفحة جديدة لسجل أعمال بني جلدته الأرمن الذين جبلت نفوسهم على الغدر والخيانة وامتزجت دماؤهم باللؤم والدناءة وكراهية الإسلام والعرب والترك، وعاقبهم الله على ذلك بتبديد دولتهم وتشتت ملكهم وصاروا كاليهودي التائه في أنحاء العالم يربحون من أقبح الأعمال وأدنسها وأحطها ويزجون في أعماق السجون لاقترافهم أنواع الجرائم التي ننزه القلم عنها، وكان الدور الذي مثلوه في تركيا ومصر وسوريا ولبنان وبلاد الفرس يدل على صدق فراسة السلطان عبد الحميد في طباعهم.

وقد وصل الشيخ ضاري إلى بغداد وهو في مرض الموت، ولكن الأطباء الإنجليز الشرعيين أصحاب الذمم الطاهرة قرروا قدرته على احتمال المحاكمة، وفعلا حاكموه وحكموا عليه بالإعدام، وكان يوم تشييع جنازته يوما خطيرا في بغداد.

وجاءت الصحف بوصف المظاهرات التي لازمت المشهد والأناشيد التي كانت تنشد واسمها «هوسة» وفيها بعض عبارات الوعيد للندن، وهو وعيد لا يتلوه لحسن الحظ تنفيذ فأين بغداد من لندن؟!

ومما يلاحظ في هذه المسألة أن الإنجليز تعودوا أن يتساهلوا في إسداء العفو الشامل عقيب الثورات في البلاد المحتلة أو المغتصبة، ولكنهم لا يتساهلون في توقيع القصاص على من قتلوا فعلا ضباطا أو موظفين إنجليز مهما كلفهم ذلك من استمرار الخصومة أو الاشتهار بالقسوة.

وقد شاهدنا ذلك في حوادث ديروط في مصر سنة 1919 وفي العراق بشأن الشيخ ضاري الذي حرض على قتل ليتشمان وفي قضية جميل وحميد دبوني المتهمين بقتل بارلو وستيوارد في تل عفر وقاسم المويلي وبسبوس بن محاوبس وغيرهم، وكلهم متهمون بقتل ضباط إنجليز وثبتت عليهم التهمة. أما الأفراد الذين كانت لهم علاقة بتهم سياسية أخرى وكانوا معتقلين أو منفيين فإن الإنجليز شملوهم بعفو عام.

Halaman tidak diketahui