Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genre-genre
وقد كان هذا الفساد كله نتيجة حكم الفرد واستبداده بالأمر، فكان تعظيم شخصه وخوفه على ذاته ومحافظته على كرامته من الأوهام واستسلامه للجواسيس واعتماده على الخصيان والمشايخ، لأنه نشأ بين الأولين وكان يستعين بما للآخرين من مسابح وأحجبة وتمائم وأوراد لحفظ شخصه من كل مكروه وللوقوف على أمور الغيب وحوادث المستقبل. وهكذا ضاع ملك عظيم ضحية الرقاعة والتخريف والبله وعدم الإيمان بالله الذي يجعل الإنسان متكلا عليه.
أين هذا من عدل أمراء الإسلام العادلين، الذين كانوا يعملون على سعادة أممهم وطاعة الله وإعلاء كلمة الإيمان والتوحيد ونشر لواء الحضارة الإسلامية؟!
لقد سرى الجبن والخوف إلى النفوس وصار النطق بالألفاظ جريمة يعاقب عليها بالإعدام والنفي، فمثلا أحرقوا كتاب «الطريقة المحمدية» للنابلسي لأن فيه حديث «الأئمة من قريش»، وصادروا كل كتاب فيه آية الجهاد أو آية
الذين كفروا
خوف أن تحاربهم أوروبا على هذا، ونفيت كلمة «الملة» والدولة ولم تبق إلا الذات الشاهانية، ونفيت من أحد القواميس كلمة «سيف» لأنها قد تنبه الأرمن للحرب، ولا يقولون جمهورية أمريكا بل مجتمعة أمريكا، ولا ولي عهد روسيا، واستنطق أحد المنشدين المصريين لأنه تغنى بقصيدة منها «أنت المراد»، خوفا من الإشارة إلى الأمير مراد المسجون! دع عنك ألفاظ العدل والظلم والإنصاف فإنها من المحرمات. وعند صلاة الجمعة أو حفلة السلاملك أمر الخطيب أن يتجنب في خطبته كل آية وكل حديث فيه ترغيب في العدل أو تنفير من الظلم أو إيماء إلى موعظة من نهي عن منكر أو أمر بمعروف، ولا يدور في الخطبة إلا حديث واحد اختاروه لبعده عن كل تأويل وهو «إن الله جميل يحب الجمال»، فإذا جاء عيد الأضحى استبدلوه بقوله: «سمنوا ضحاياكم.» وهكذا صار القصد الحقيقي من السلطنة والدولة والخلافة والإمامة والجيوش والمعاقل والحصون والرتب والنياشين هو حفظ ذات السلطان!
ومن نوادر خير الدين باشا بل من الحوادث التي أدت إلى استقالته أنه استؤذن عليه يوما لبهرام أغا أقوى خصي في عهد عبد الحميد وكان في ذلك الوقت باشمصاحب، ولما دخل عليه قدم إليه قائمة بأسماء أشخاص يوظفهم وآخرين يزيد في مرتباتهم، فقال له الصدر الأعظم خير الدين باشا: ما لك وهذا يا وصيف؟! قف حيث وقفتك وظيفتك بباب الحرم ولا تدخل في شغل غيرك!
ولما خرج بهرام أغا سأل عن معنى «وصيف» فقيل له معناه في تونس الخويدم، فامتلأ إهاب الأغا الخصي على الصدر الأعظم حقدا.
ودخل عليه عقب هذا السيد أحمد أسعد ومعه قائمة كالأولى، فسأله عن وظيفته فقال: «وكيل الفراشة الشريفة» فقال له: أيها الشيخ، وظيفتك هي أن تدعو لجلالة السلطان. فخرج من عنده يعض على ناجذيه لطلب الانتقام منه.
ولما رأى خير الدين باشا أن لا قدرة له على مقاومة أهل «المابين» استعفى من الصدارة كما تقدم، وثبت له كما ثبت لكل محب لخير الدولة العثمانية أنها شاخت ودب الفساد إليها من رأسها كما هي العادة في الممالك والدول، وعند الترك مثل شهير قديم وهو قولهم السائر: «الشجرة تفسد من رأسها ويعتورها الفناء من قمتها» وقد صح هذا المثل وصدق في تطبيقه على دولتهم.
فإذا كان القصد الحقيقي في السلطنة العثمانية قد انقلب إلى أن الغاية من الدولة والخلافة والإمامة والجيوش والمعاقل والحصون هو حفظ ذات السلطان؛ فكيف ترجى حياة لهم بل أين هذا من عمر بن الخطاب الذي أنزل رضي الله عنه نفسه في كثير من الأحوال منزلة واحد من أفراد الأمة ليبني صرح المجد للإسلام وليقنع الأجنبي بعظمته؟ فقد كان يخرج بنفسه لما جاءه الخبر بنزول رستم إلى القادسية فيستخبر الركبان كل يوم عن أهل القادسية منذ حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله، وكأنه قد تسلم أخبار البريد أو قرأ التلغرافات لو كان من أهل هذا الزمان.
Halaman tidak diketahui