سبقتني ناعومي عبر مرأب السيارات العشوائي غير الممهد، وصعدت السلم المضاء الذي لا يضيئه سوى مصباح أصفر واحد. إذا كانت تشعر بالخوف مثلما أشعر أنا فإنها لم تظهر ذلك. ثبت عيني على كعبي حذائها العاليين اللذين يدلان على التكبر، وعلى ساقيها القويتين العاريتين ناميتي العضلات بلونهما الشاحب. كان ثمة رجال وشباب يجلسون على السلم، لم أستطع رؤية وجوههم ولم أنظر لأراها، لم أر سوى سجائرهم أو حليات أحزمتهم المعدنية أو الزجاجات التي تتلألأ في الظلام. كي أمر عبر الكلام الناعم المثير للازدراء والمفزع بطريقة غريبة، حاولت أن أوقف حاسة السمع لدي بالطريقة نفسها التي يكتم بها المرء أنفاسه. ماذا حدث لثقتي بنفسي التي كنت أتمتع بها، تلك الثقة الزائفة التي ميزت الأيام الخوالي للتهريج والشعور بالأفضلية؟ لم يبق منها شيء، كنت أفكر بحنين وعدم تصديق كم كنت جريئة حينها! كما حدث مع السيد شامبرلين، على سبيل المثال.
طبعت سيدة بدينة مسنة يدينا بطابع قرمزي.
شقت ناعومي طريقها على الفور نحو بيرت ماثيوز الذي كان واقفا بالقرب من مسرح الرقص وقالت له: «لم أتوقع قط أن أجدك هنا، أسمحت لك ماما بالخروج؟»
اصطحبها بيرت ماثيوز للرقص. كان الرقص يتم فوق منصة خشبية ترتفع عن مستوى الأرض نحو قدمين، وهي محاطة بحواجز مزينة بحبال من الأضواء الملونة، والتي كانت أيضا تلتف حول الأعمدة الأربعة التي تتوزع في الأركان وتمتد في خطين مائلين يتقاطعان فوق رءوس الراقصين؛ مما يجعل منصة الرقص تبدو كسفينة مضاءة تطفو فوق الأرض المرشوشة بنشارة الخشب. وفيما عدا تلك الأضواء، والضوء الذي ينبعث من نافذة مفتوحة على ما يشبه المطبخ - حيث تباع النقانق وشطائر الهامبرجر والمشروبات الغازية والقهوة - كان المكان مظلما. كان الناس يقفون متجاورين في حشود غامضة، وكانت نشارة الخشب تحت أقدامهم مبللة وتفوح منها رائحة المشروبات المسكوبة. وقف رجل أمامي حاملا كوبا ورقيا، اعتقدت أنه قد أخطأ العنوان، فهززت رأسي، لكني بعدها تمنيت لو أنني أخذته منه، فلربما بقي بجواري وطلب أن أرقص معه.
بعد رقصتين عادت ناعومي ومعها بيرت ماثيوز ورجل آخر نحيل جذاب ذو وجه أحمر وشعر أحمر. وقف ورأسه ممدودة للأمام وجسده الطويل منحن على شكل حرف الواو. لم يطلب مني هذا الرجل الرقص وإنما جرني من يدي إلى المنصة عندما بدأت الموسيقى. ولدهشتي، وجدته راقصا بارعا ومبتكرا واستمر يدفعني بعيدا عنه ثم يسحبني إليه مرة أخرى ويدور حول نفسه وهو يطقطق بأصابعه، وكان يفعل ذلك دون أن يبتسم وإنما في الواقع كان يرتسم على وجهه تعبير جاد عدواني. وفي الوقت الذي كنت أحاول أن أتابع رقصه، كان علي أيضا أن أتابع كلامه لأنه كان يتحدث كذلك خلال تلك اللحظات القصيرة غير المتوقعة التي تتخلل الرقص عندما نكون على مسافة قريبة بعضنا من بعض. كان ذا لكنة هولندية، ولكن لم يكن ذلك صحيحا؛ ففي ذلك الوقت كان المهاجرون الهولنديون قد اشتروا بعض المزارع القليلة حول جوبيلي، وكانت لهجتهم - بأصواتها الدافئة البريئة - يمكن أن تسمع في نكات محلية بعينها وفي الأقوال المأثورة. قال لي مستخدما واحدة من تلك العبارات وهو يدير عينيه متوسلا: «راقصيني بليونة.» لم أعرف ماذا كان يعني، فلقد كنت أراقصه أو أنه كان يراقص نفسه بأقصى قدر من الليونة يستطيع أحد أن يرقص به. كان كلامه كله بهذا الشكل؛ فكنت أسمع الكلمات لكني لا أستطيع أن أحدد المعنى، لعله كان يمزح لكن وجهه ظل لا يبتسم. لكنه أدار عينيه بطريقته الغريبة وناداني قائلا: «يا حبيبتي.» بصوت بارد واهن، كما لو كنت شخصا مختلفا تماما عن نفسي، وكل ما فكرت أن أفعله هو أن أتخيل تلك الفتاة التي يظن أنه يراقصها وأتقمص شخصيتها، فتاة ضئيلة مندفعة مشرقة لعوب. لكن كل ما كنت أفعله، كل حركة، وكل تعبير حاولت به أن أواكب حركاته بدا متأخرا جدا؛ إذ يكون قد تجاوزه إلى شيء آخر.
رقصنا حتى أخذت الفرقة استراحة، سررت لانتهاء الرقص وسعدت لأنه ظل معي؛ فقد كنت أخشى أن يشعر بمدى عدم ملاءمتي ويذهب للبحث عن فتاة أخرى. سحبني خارج منصة الرقص ثم إلى نافذة المطبخ حيث دفعنا المتزاحمون كي يستطيع أن يبتاع لنا كوبين من جعة الزنجبيل.
قال بلهجة آمرة: «اشربي بعضا من هذا.» متخليا عن لهجته الهولندية وهو يبدو متعبا وعمليا، فشربت بعضا من كوبي فقال لي: «اشربي الاثنين فأنا لا أشرب جعة الزنجبيل قط.» كنا نمشي عبر ساحة القاعة، استطعت وقتها تمييز الوجوه، ورأيت أناسا أعرفهم وأخذت أبتسم لهم وأنا يخالجني شعور بالفخر؛ لكوني في هذا المكان ولكوني أتبع رجلا. وصلنا إلى بيرت وناعومي، اشترى بيرت قنينة من الويسكي وقال: «حسنا أيها العريف، كيف أخدمك؟» ثم صب بعض الويسكي في الكوبين، ابتسمت ناعومي لي ابتسامة خاوية كسباحة خرجت لتوها من الماء. كنت أشعر بالحر والعطش فشربت الويسكي وجعة الزنجبيل في ثلاث أو أربع رشفات كبيرة.
قال بيرت ماثيوز: «يا إلهي!»
وقالت ناعومي وهي سعيدة بي: «إنها معتادة على احتساء الكحول.»
فقال بيرت: «إذن، فهي لا تحتاج إلى جعة الزنجبيل.» وصب الويسكي في كوبي، فاحتسيته وبداخلي رغبة قوية في إضافة المزيد من البريق إلى وضعي الجديد، ولم أهتم بالطعم كثيرا. أخذ بيرت يشكو أنه لا يريد أن يرقص بعد ذلك، قائلا إنه يعاني ألما في ظهره. أطلق الرجل الذي كنت معه - والذي عرفت وقتها أو بعدها أن اسمه كلايف - ضحكة مرعبة متحشرجة صوتها كصوت مدفع رشاش، وحرك يده وكأنه يلكم بيرت عند حلية حزامه. «كيف ضعف ظهرك؟ ها! كيف ضعف ظهرك؟»
Halaman tidak diketahui