انضمت أمي إلى مجموعة مناقشة الكتب العظيمة التي تلتقي يوم الخميس الثاني من كل شهر خلال فصل الشتاء في قاعات المجلس في مبنى البلدية. وكانت المجموعة تضم خمسة أشخاص آخرين منهم طبيب متقاعد يدعى د. كومر كان شديد الضعف ومهذبا - وكما اتضح أيضا - مستبدا. كان ذا شعر أبيض ناعم ويرتدي وشاحا يلفه حول رقبته كأنه ربطة عنق. وقد عاشت زوجته في جوبيلي لما يزيد عن ثلاثين عاما، ولكنها بالكاد كانت تعرف أسماء الناس وأماكن الشوارع. لقد كانت مجرية، ولديها اسم رائع تقدمه للناس أحيانا، كما لو كان سمكة على صحن كبير مقاطعها الفضية الحرشفية سليمة ولكن بلا فائدة، فلم يتمكن أي شخص في جوبيلي من نطق الاسم أو حتى تذكره. في بادئ الأمر، سعدت أمي بصحبة هذين الزوجين اللذين رغبت دائما في التعرف عليهما، واغتبطت كثيرا عندما دعيت إلى منزلهما؛ حيث رأت صورا لهما في شهر العسل في اليونان، واحتست النبيذ الأحمر كي لا تهينهما - رغم أنها لم تكن تتناول الشراب - واستمعت إلى قصص مضحكة ومخيفة عن مواقف حدثت لهما في جوبيلي؛ نظرا لكونهما ملحدين ومفكرين. واستمر إعجابها مرورا بمناقشة «أنتيجون»، وهدأ قليلا مع «هاملت»، وأصبح أكثر فأكثر خفوتا مع مناقشة «الجمهورية» و«رأس المال». فقد بدا كما لو أن لا أحد من حقه تكوين رأي سوى آل كومر، فهم يعرفون أكثر من أي شخص، وقد زاروا اليونان وحضروا محاضرات للأديب إتش جي ويلز، وهم دائما على صواب. اختلفت السيدة كومر مع أمي، فأثارت السيدة كومر قضية عدم التحاق أمي بالجامعة وأنها لم تلتحق إلا بمدرسة باكوودز الثانوية فحسب؛ تقولها أمي وهي تقلد لهجتها. راجعت أمي بعض القصص التي أخبراها بها وقررت أنهما يعانيان عقدة اضطهاد (تساءلت فيرن «وماذا يعني ذلك؟» فتلك المصطلحات كانت جديدة في ذلك الوقت)، بل وإنهما - من المحتمل - مصابان بمس من الجنون. كما أن منزلهما تفوح منه رائحة كريهة لم تذكرها لنا من قبل، وكان المرحاض الذي كان عليها أن تستخدمه بعد احتساء ذلك النبيذ الأحمر؛ مثيرا للاشمئزاز، مغطى بطبقة صفراء قذرة. وتساءلت أمي قائلة: «ما فائدة القراءة لأفلاطون وأنت لا تنظف مرحاضك أبدا؟» عائدة بذلك إلى قيم مدينة جوبيلي.
لم تشترك أمي في مجموعة مناقشة الكتب العظيمة في العام التالي، ولكنها التحقت بدورة تدريبية بالمراسلة بعنوان «المفكرين العظماء في التاريخ» من جامعة ويسترن أونتاريو، وأخذت تكتب خطابات للصحف. •••
لم تتخل أمي عن أي شيء، فداخل تلك النفس التي كنا نعرفها - والتي قد تبدو أحيانا مشوشة أو تحيد عن الطريق - كانت تحتفظ بذواتها الشابة المفعمة بالحيوية والأمل، وكانت مشاهد من الماضي تظهر إلى السطح في أي وقت فجأة مثل الصور الملونة الشفافة التي تعرض بالفانوس السحري على نسيج الحاضر المبعثر.
في بداية الأمر، قبل كل شيء، كان هناك ذلك المنزل الذي يقع في نهاية زقاق طويل - يحيط به سياج سلكي ونوافذ من السلك على الجانبين - في منتصف الحقول حيث تبرز الصخور - وهي جزء من الدرع الكندي الذي يعود إلى العصر ما قبل الكمبري - من التربة كما تبرز العظام من اللحم. بدا ذلك المنزل الذي لم أره في أي صورة قط - ربما لم تلتقط له أية صورة - ولم أسمع أمي تصفه إلا بطريقة متبرمة عملية («إنه مجرد منزل خشبي قديم لم يطل قط»)؛ واضحا في مخيلتي كما لو أني رأيته في الجريدة، فهو أكثر المنازل الخشبية القديمة تجريدا وإظلاما وارتفاعا، لكنه كان بسيطا ومألوفا وثمة شيء مخيف يتعلق به، وكأنه يحتضن بداخله شرا ما، وكأنه منزل ارتكبت به جريمة قتل.
وكانت أمي، التي كانت طفلة صغيرة آنذاك تدعى أدي موريسون، طويلة نحيفة على ما أتصور، وذات شعر قصير؛ رغبة من أمها في حمايتها من الغرور، تعود من المدرسة سيرا على الأقدام عبر الزقاق الطويل المخيف ويتخبط الصندوق الذي تحمل فيه غداءها بساقيها. ألم يكن الجو دائما كشهر نوفمبر؛ حيث الأرض وعرة، والجليد مبعثر على البرك الصغيرة، والأعشاب الميتة تطفو من بين الأسلاك؟ نعم، وكان الدغل قريبا ومخيفا بالرياح غير العادية التي رفعت الأغصان واحدا تلو الآخر. كانت تدخل إلى المنزل لتجد أن النار قد انطفأت، والموقد باردا، وأن الدهون التي تراكمت على الأطباق والمقلاة بعد تناول الرجال للعشاء قد تكثفت.
لا يوجد أثر لوجود أبيها أو أشقائها الكبار الذين انتهوا من الدراسة، فلم يكونوا يتجولون حول المنزل، وكانت تذهب عبر الغرفة الأمامية إلى غرفة والديها، حيث كانت غالبا ما تجد أمها راكعة على ركبتيها منحنية على فراشها تصلي. وكانت تتذكر ذلك الظهر المحني والكتفين الضيقتين في سترة رمادية أو سمراء على ثوب فضاض أو ثوب منزلي متسخ أكثر وضوحا من تذكر وجه أمها، وخلفية الرأس ذات الشعر الخفيف الذي جذب بقوة من المنتصف ليكشف من تحته فروة رأس بيضاء بصورة غير صحية؛ بيضاء كالرخام، بيضاء كالصابون.
قالت أمي عن تلك المرأة الراكعة، التي كانت أحيانا ما يجدونها ترقد على ظهرها وتبكي، لأسباب لا تحب أمي الخوض فيها، وقطعة قماش رطبة على جبهتها: «كانت متعصبة دينيا.» وذات مرة في المراحل الأخيرة اللاعقلانية من اعتناقها المسيحية، اتجهت إلى الحظيرة وحاولت إخفاء ثور صغير في كومة القش عندما رأت رجال الجزار وهم قادمون. كان صوت أمي وهي تقص تلك الأمور محملا بيقينها أنها تعرضت للخداع، وبمشاعر جياشة بالغضب والخسارة. «هل تعلمين ماذا فعلت؟ هل أخبرتك بما فعلت؟ هل أخبرتك عن المال؟» وكانت تأخذ نفسا عميقا كي تستعيد رباطة جأشها وتتابع قائلة: «حسنا، لقد ورثت بعض المال؛ فقد كان بعض أهلها يملكون المال وكانوا يعيشون في ولاية نيويورك، وورثت هي مائتين وخمسين دولارا، لم يكن مبلغا كبيرا، ولكن قيمته وقتها كانت أكثر من الآن، وأنت تعلمين أننا كنا فقراء. أتظنين أننا فقراء الآن، ولكن ذلك «لا شيء» بالمقارنة بما كنا عليه من فقر آنذاك. لا أزال أذكر المشمع على المائدة، كان مهترئا حتى إنه كان بإمكانك رؤية الألواح الخشبية العارية. كان معلقا وهو ممزق، كان خرقة لا مشمع مائدة. وإذا ما حدث وارتديت حذاء، كنت أرتدي أحذية صبية؛ مخلفات أشقائي. لقد كنا نعيش في مزرعة لا يمكنك فيها زراعة الأعشاب التي تقتات عليها الطيور، وفي عيد الميلاد كنت أحصل على بنطلون أزرق داكن، ودعيني أؤكد لك أنني كنت أسعد به؛ فقد كنت أعلم ما هو الشعور بالبرد.
حسنا، استلمت أمي المال وطلبت صندوقا كبيرا من الأناجيل التي أتت عن طريق الشحن السريع، وكانت من أغلى الأنواع، فكانت صفحات خرائط الأرض المقدسة ذات حواف مطلية بالذهب، وكل كلمات المسيح محددة باللون الأحمر. «طوبى لفقراء الروح» ما المميز في أن يكون المرء فقيرا في الروح؟ لقد أنفقت كل مليم.
وهكذا، كان علينا أن نخرج كي نوزعها. كانت قد اشترتها كي توزعها على الوثنيين، وأعتقد أن شقيقي قد خبآ بعضا منها في المخزن. كنت أعلم أنهما قد فعلا ذلك، ولكنني كنت أكثر حمقا من أن أفكر في ذلك، فكنت أسير في جميع أنحاء البلدة وأنا في الثامنة من عمري أرتدي أحذية الصبية ولا أملك زوجا من القفازات وأوزع الأناجيل.» «ولكن ذلك قد شفاني من الدين طوال حياتي.»
ذات مرة تناولت الخيار واحتست اللبن لأنها سمعت أن ذلك المزيج سام وكانت ترغب في الموت، وكانت تشعر بالفضول أكثر منه بالإحباط، فرقدت وتمنت أن تستيقظ في الجنة التي سمعت عنها كثيرا، ولكنها بدلا من ذلك فتحت عينيها على صباح يوم جديد. وكان لذلك أيضا تأثيرا على إيمانها، ولكنها لم تخبر أحدا في ذلك الوقت.
Halaman tidak diketahui