أول مكان طلب مني أن أذهب إليه معه هو اجتماع لجمعية الشباب المعمدانيين. أو ربما أنه لم يطلب؛ إذ لم يقل سوى: «حسنا، سوف آتي لاصطحابك بعد العشاء.» ثم أقلني بشاحنته إلى ذلك المكان القريب من بيتنا وهو يأخذني مشدوهة وصامتة إلى آخر مكان في جوبيلي يتوقع أحد ظهوري فيه، ربما فيما عدا بيت الدعارة.
كان هذا ما استمررت في فعله كل ليلة إثنين طوال الربيع والصيف، أجلس على مقعد خشبي طويل في الكنيسة المعمدانية، وهو ما لم أعتده أبدا، فقد كنت دائما مندهشة ووحيدة مثل شخص بقي وحيدا بعد تحطم سفينته. لم يسألني قط إذا كنت أريد أن أكون في هذا المكان، أو ما رأيي في هذه الاجتماعات عندما أكون هناك، لم يسألني أي شيء. قال لي ذات مرة: «الأرجح أنني كنت سأعود إلى السجن مرة أخرى لولا الكنيسة المعمدانية، هذا هو كل ما أعرف، ولا أريد أن أعرف سواه.» «ولماذا قد تعود إلى السجن؟» «لأنني كنت معتادا على الشجار واحتساء الخمر.»
على ظهر المقاعد الخشبية الطويلة في الكنيسة كانت هناك قطع من العلكة الممضوغة القديمة، تحول لونها إلى الأسود الفضي وأصبحت صلبة كالحديد. كانت الكنيسة تفوح برائحة حمضية كرائحة مطبخ جرى تنظيفه بمياه قذرة وتركت خرق التنظيف القذرة لتجف خلف الموقد. أما هؤلاء الشباب، فلم يكونوا كلهم شبابا؛ إحداهم كانت كادي ماكويج التي تعمل في محل جزارة مونك، تلقي قطع اللحم النيئ في مفرمة اللحوم وتقطع سيقان الأبقار بمنشار كبير وهي مرتدية مئزرا أبيض مغطى بالدماء، وكانت ضخمة البنية ومرحة مثل مونك نفسه صاحب المحل الألماني. أما في الكنيسة فكانت ترتدي فستانا من قماش الأورجانزا منقوشا بالزهور ويداها النظيفتان تعزفان على آلة الأرجن، وعنقها الأحمر عار لأن شعرها قصير وتبدو وديعة ومهذبة. وكان هناك شقيقان - إيفان وأورين وولبول - قصيرا القامة وجههما يشبه وجوه القرود يؤديان حركات رياضية. وامرأة ممتلئة الثديين ذات وجه بارد كانت تعمل مع فيرن دوجرتي في مكتب البريد وكانت فيرن تسميها «بيتي المقدسة». وفتيات من متجر تشينواي وهن شاحبات مغبرات ككل فتيات متجر تشينواي لأنهن كن الأقل أجرا والأقل مكانة اجتماعية بين جميع الفتيات اللاتي يعملن في المتاجر في جوبيلي. وكانت إحداهن - لا أذكرها أيهن - من المفترض أن تكون وضعت مولودها.
كان جارنيت هو الرئيس، وأحيانا كان يقود الصلاة بادئا بصوته الثابت: «أبانا الذي في السماوات ...» اختفت حرارة شهر مايو المبكرة وبدأت أمطار الربيع الباردة تغسل النوافذ. خامرني ذاك الشعور القوي الغريب بأنني في حلم وأنني سأصحو منه الآن. وفي البيت كانت على الطاولة في الغرفة الأمامية كتبي المفتوحة وقصيدة «آندريا ديل سارتو» التي بدأت قراءتها قبل أن أخرج، والتي لا تزال كلماتها تتردد في ذهني:
الضوء الرمادي يغطي كل شيء باللون الفضي
وقت الشفق، أنا وأنت متشابهان ...
بعد انتهاء ما يسمى بخدمة العبادة، كنا ننزل إلى قبو الكنيسة حيث توجد طاولة للعب كرة الطاولة، حيث كان يجري تنظيم مسابقات. وهناك كانت كادي ماكويج ومعها إحدى فتيات تشينواي يخرجان شطائر أحضرتاها من المنزل وتعدان الكاكاو على السخان الكهربائي. وكان جارنيت يعلمهم لعب كرة الطاولة ويشجع فتيات تشينواي اللاتي بالكاد يستطعن رفع المضرب، ويمزح مع كادي ماكويج التي تصير صاخبة عندما تنزل إلى القبو بالضبط كما تكون في محل الجزارة. «إنني أشعر بالقلق عليك حين تجلسين على كرسي الأرجن الصغير هذا يا كادي.» «ماذا تقول؟ ما الذي يقلقك؟» «يقلقني جلوسك على كرسي الأرجن الصغير، إنه يبدو صغيرا عليك.»
قالت بصوتها العالي المنفعل المبتهج ووجهها أحمر كاللحم الطازج: «هل تخشى أن يختفي؟»
فأجابها جارنيت بصوت نادم وهو مطأطئ الرأس: «لا يا كادي، لم أفكر هكذا أبدا.»
كنت أبتسم للجميع غير أني كنت أشعر بالغيرة والهلع وأنتظر بلهفة أن ينتهي كل هذا؛ أن تغسل أكواب الكاكاو وتطفأ أضواء الكنيسة، وأن يصطحبني جارنيت إلى شاحنته. ثم كنا نذهب بالسيارة عبر ذلك الطريق الموحل الذي يقود إلى مكان بورك تشايلدز (قال لي جارنيت: «إنني أعرف بورك، إذا ما علقت فسيعيرني سلسلة ويساعدني على الخروج.» وقد تسبب التفكير في أنه يشعر بالتوافق الاجتماعي مع بورك تشايلدز - الذي كان بالطبع معمدانيا - بخيبة أمل تغمر قلبي، وهو الشعور الذي صار مألوفا بعد ذلك). لكن الآن، لا شيء يهم؛ فاللاواقعية والإحراج أو الملل الذي كان يخيم على الأمسية الطويلة كان يتلاشى تماما في كابينة الشاحنة؛ في رائحة المقاعد الممزقة القديمة، ورائحة علف الدواجن، ومرأى جارنيت وهو يشمر عن ساعديه ويداه حرتان وحذرتان تتشبثان بعجلة القيادة. والمطر الأسود الذي يضرب النوافذ المغلقة يحمينا. وعندما يتوقف المطر، كنا ننزل زجاج النوافذ ونستنشق الهواء العليل قرب النهر الذي لا تصل إليه أعيننا، ونشم رائحة النعناع الذي ينسحق تحت عجلات الشاحنة حيث توقفنا على جانب الطريق المؤدي إلى الحديقة. كنا نتوغل خلال الشجيرات التي كانت تحتك بغطاء محرك السيارة المعدني. ونوقف السيارة بعد المطب الأخير الصغير الذي كان بمثابة إشارة الوصول، بمثابة تصريح، وكان نور السيارة يشق ظلمة الليل بخفوت، ثم كنا نخرج من السيارة ويستدير إلي جارنيت بالتنهيدة نفسها، بالنظرة الجادة المستترة نفسها، ثم كنا نمضي قدما إلى الريف ؛ حيث الأمان التام ، حيث لا توجد أية حركة لن تضفي علينا بهجة، حيث لا مجال لخيبة الأمل. لم أشعر بهذا الشعور من قبل - إلا حين أكون مريضة بالحمى - شعور بالتحليق والوهن والاحتواء، وفي الوقت نفسه شعور بأنني أملك قوة لا حدود لها. كنا لا نزال في الخطوات الأولى إلى ممارسة الجنس، فكنا نلف وندور، نتقدم ونتقهقر، ونتردد؛ ليس لأننا خائفين أو لأنني وضعت أي قيود على «التجاوز» (كان مثل هذا النوع من المصارحة في تلك البلدة ومع جارنيت أمرا غير وارد) وإنما لأننا شعرنا بالتزام - كالذي شعرنا به وقت طاردت أيدينا بعضها على ظهر المقعد - بألا نتسرع، وبأن نتراجع مؤقتا بخجل في وجه مثل هذه اللذة. بل إن كلمة «لذة» نفسها تغيرت بالنسبة لي، كنت أعتقد أنها كلمة لطيفة تدل على تدليل معتدل بسيط للذات، أما الآن فقد صرت أراها كلمة متفجرة وحروفها مشتعلة كالألعاب النارية وتنتهي نهاية حالمة.
Halaman tidak diketahui