وفي القهوة، وفي القطار، وفي الديوان، لا تجد الرافعي وحده إلا وفي يده كتاب، وكان في أول عهده بالوظيفة كاتبا بمحكمة طلخا، فكان يسافر من طنطا كل يوم ويعود، فيأخذ معه في الذهاب وفي الإياب «ملازم» من كتاب أي كتاب ليقرأها في الطريق، وفي القطار بين طنطا وطلخا «وبالعكس» استظهر كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام علي، وكان لم يبلغ العشرين بعد ...
في الوظيفة
في أبريل سنة 1899 عين الرافعي كاتبا بمحكمة طلخا الشرعية، بمرتب شهري أربعة جنيهات، وأعانه على الظفر بهذه الوظيفة ما كان لأبيه وأسرته من جاه في المحاكم الشرعية، وما كان الرافعي ليجهل جاه أبيه وأسرته في هذه المحاكم، وما كان منكورا لديه أن لهم يدا على كل قاض في القضاء الشرعي، فنشأ بذلك نشأة الدلال في وظيفته، لا يراها إلا ضريبة على الحكومة تؤديها إليه عمل أو لم يعمل؛ لمكانة أسرته من النفوذ والرأي، ولمكانته هو أيضا ...
ألم يكن يرشح نفسه ليكون أديب هذه الأمة؟ ... هكذا كان يرى نفسه من أول يوم، وظل كذلك يرى نفسه لآخر يوم ...
وكانت إقامته بطنطا في هذه الحقبة، فمنها مغداه وإليها مراحه في كل يوم، يتأبط حقيبة فيها غداؤه وفيها كتابه، وما كان أحد ليستطيع أن يلفته إلى ضرورة التبكير إن جاء في الضحى، أو يسأله الانتظار إذا دنا ميعاد القطار ولم يفرغ من عمله.
لم يكن يرى الوظيفة إلا شيئا يعينه على العيش؛ ليفرغ لنفسه ويعدها لما تهيأت له، فما انقطع عن المطالعة والدرس يوما واحدا، وما أكثر ما كان ينقطع عن وظيفته.
وقضى الرافعي في طلخا زمنا ما، ثم نقل إلى محكمة إيتاي البارود الشرعية، ثم إلى طنطا، وفي طنطا انتقل من المحكمة الشرعية إلى المحكمة الأهلية بعد سنين؛ لأنه رأى المجال في المحاكم الأهلية أوسع وأرحب، والعمل فيها أيسر جهدا وأكثر أجرا، وظل في محكمة طنطا الأهلية إلى يومه الأخير.
وحياة الرافعي في طلخا وإيتاي البارود وطنطا لا تخلو من طرائف، وتاريخه في الوظيفة حافل بالصور والمشاهد التي كان لها أثرها من بعد في حياته الأدبية، ففي طلخا عرف الكاظمي شاعر العراق الكبير واتصل به وانعقدت بينهما أواصر الود على ما سيأتي تفصيله، وفي إيتاي البارود تفتحت زهرة شبابه للحب وتعطشت نفسه إلى لذاته، وعلى «جسر كفر الزيات» فيما بين إيتاي البارود وطنطا مسته شعلة الحب المقدسة فكشفت عن عينيه الغطاء ليرى ويحس ويشعر ويكون «شاعر الحسن» من بعد، وفي طنطا كان نضجه وتمامه وإيناع ثمره.
وما أستطيع أن أصف بتفصيل واضح كيف كان يعيش الرافعي في تلك الأيام البعيدة، ولا كيف كانت صلته بالناس، ولكني أعرف أن روحا رفافة كانت تطيف به في تلك الأيام فتنتزعه من وجوده الذي يعيش فيه لتحلق به في أجواء بعيدة وتكشف له عن آفاق مجهولة لم يسمع بها ولم يعرفها، فتوحي إليه الشعور بالقلق وألم الحرمان والإحساس بالوحدة، فلا يجد متنفسا ينفس به عن نفسه غير الشعر، وكان ذلك أول أمره في الأدب، وإليه كان آخر ما يمتد أمله، فما كانت له أمنية إلا أن يكون شاعرا، شاعرا وحسب. •••
وعرف حبيبته الأولى «عصفورة» فتعلم الحب، ولكنه لم يتعلمه مما يسمع في مجالس الشبان كما يتعلم أبناء هذا الجيل من أكاذيب المنى التي يتداولونها في مجالسهم فيتعلمون الحب منها فنا له قواعد مرسومة وغاية محتومة ... لكنه استمع إلى وحي الحب أول ما استمع في همسات روحه، وخلجات وجدانه، وخفقات قلبه، وانفعال أعصابه، إلى ما كان للحب في نفسه من صورة مشرقة شائقة مما قرأ من أخبار العذريين من شباب العرب، فأحس كأن شيئا ينقصه فراح يفتقده، وشعر كأن إنسانة من وراء الغيب تناديه وتهتف باسمه في خلوة نفسه وجلوة خاطره تقول: ها أنا ذي ... فهام بالحسن ينشده شعره وينشد فيه مثاله الذي يدور عليه، وطار على وجهه كالفراشة الحائمة تقول لكل زهرة: أأنت التي ...؟ فلا يستمع إلى جواب، والصوت البعيد دائب يهتف في أذنيه: إنني هنا، إنني هنا يا حبيبي فاقصد إلي ...
Halaman tidak diketahui