وعلى هذه النشأة نشأ مصطفى صادق، فاستمع إلى أبيه أول ما استمع تعاليم الدين وحفظ شيئا من القرآن، ووعى كثيرا من أخبار السلف، فلم يدخل المدرسة إلا بعد ما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين، فقضى سنة في مدرسة دمنهور الابتدائية، ثم نقل أبوه قاضيا إلى محكمة المنصورة، فانتقل معه إلى مدرسة المنصورة الأميرية، فنال منها الشهادة الابتدائية وسنه يومئذ سبع عشرة سنة أو دون ذلك بقليل.
ومن أساتذته في المدرسة الابتدائية شيخنا العلامة الأستاذ مهدي خليل المفتش بوزارة المعارف،
2
وكان يدرس له العربية، وكان الرافعي رديء الخط لا يكاد يقرأ خطه إلا بعد علاج ومعاناة، فكان الأستاذ مهدي يسخر منه قائلا: «يا مصطفى، لا أحسب أحدا غيري وغير الله يقرأ خطك»، وقد ظل خط الرافعي رديئا إلى آخر أيامه.
وهنا أذكر حكاية طريفة تدل على مبلغ وفاء الرافعي وتكشف عن شيء من خلقه، فقد صحبني مرة منذ عامين إلى نادي دار العلوم - وما أكثر ما كان يصحبني إليه إذا هبط القاهرة - وجلس وجلست معه في جمع كبير من المفتشين والمدرسين ورجال التعليم، وكان المرحوم الأستاذ أبو الفتح الفقي نقيب المعلمين السابق جالسا إلى جانب الأستاذ الرافعي يتحدثان، وأنا بينهما أترجم للرافعي حديث محدثه كتابة في ورقة، وإنا لكذلك والحديث يتشعب شعبه وينسرب في مساربه، والجمع حولنا مرهف الآذان يستمع إلى حديث الرجلين؛ إذ نهض الرافعي واقفا، فانتبهت، فإذا القادم الأستاذ مهدي خليل، يبدو من طوله وجسامته واكتمال عضله كأنما يطل علينا من نافذة ... وإذا الرافعي يطأطئ له وينحني يهم أن يقبل يده، ثم عاد إلى مجلسه فمال علي يقول في همس: «هذا أستاذي مهدي خليل ...» وكان في صوته رنة هي أقرب إلى صوت الطفل لأبيه حين يمر بهما معلم الغلام فيميل إلى أبيه يسر إليه ... ومضى الأستاذ مهدي غير عابئ ولا ملتفت، بما فيه من طبيعة المرح وعادة الإغضاء، وأحسبه لم يعن بالسؤال عن هذا الزائر الذي نهض له، أو بالنظر إلى وجهه، على حين ظل ذكره على لسان الرافعي طول اليوم. •••
وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية - وهي كل ما نال من الشهادات الدراسية - أصابه مرض مشف أثبته في فراشه أشهرا، وأحسبه كان التيفويد فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثرا كان حبسة في صوته ووقرا في أذنيه من بعد.
وأحس الرافعي آثار هذا الداء توقر أذنيه، فأهمه ذلك هما كبيرا، ومضى يلتمس العلاج لنفسه في كل مستشفى وعند كل طبيب، ولكن العلة كانت في أعصابه فما أجدى العلاج عليه شيئا، وأخذت الأصوات تتضاءل في مسمعيه عاما بعد عام كأنها صادرة من مكان بعيد، أو كأن متحدثا يتحدث وهو منطلق يعدو ... فإن صوته ليتضاءل شيئا بعد شيء، حتى فقدت إحدى أذنيه السمع ثم تبعتها الأخرى، فما أتم الثلاثين حتى صار أصم لا يسمع شيئا مما حواليه، وانقطع عن دنيا الناس.
وامتد الداء إلى صدره فعقد عقدة في حبال الصوت كادت تذهب بقدرته على الكلام، ولكن القدر أشفق عليه أن يفقد السمع والكلام في وقت معا، فوقف الداء عند ذلك، ولكن ظلت في حلقه حبسة تجعل في صوته رنينا أشبه بصراخ الطفل، فيه عذوبة الضحكة المحبوسة استحيت أن تكون قهقهة ...
وكانت بوادر هذه العلة التي أصابت أذنيه هي السبب الذي قطعه عن التعليم في المدارس بعد الشهادة الابتدائية، لينقطع لمدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه، وكان هو فيها المعلم والتلميذ.
وحظ الرافعي من الشهادت العلمية مثل حظ أبيه، فإن الشيخ عبد الرازق الرافعي - على علمه وفضله ومكانته، وعلى أنه كان رئيسا للمحكمة الشرعية في كثير من الأقاليم - لم تكن معه شهادة «العالمية» حتى جاء إلى طنطا، ولأمر ما نشب خلاف علمي بينه وبين بعض علماء طنطا حفزه وهو شيخ كبير إلى طلب الشهادة، فتقدم إلى امتحانها ونالها، لغير غرض تسعى إليه إلا أن يستكمل براهينه في جدال بعض العلماء.
Halaman tidak diketahui