78

فالعمل في التدريس لا أمل فيه، بعد أن مارسته سنتين مع صديقي المازني في مدرسة بعد مدرسة من كبريات مدارسنا الثانوية، وجرت العادة في كل مدرسة أن ينتهي عملنا فيها بأزمة من أزمات الخلاف على تصحيح أوراق الامتحان ؛ لأننا كنا نصحح أسئلة وأجوبة، وكانت خزائن المدارس تنظر إلى أوراق الامتحان كأنها أوراق الرصيد المنتظر في حساب المصروفات.

فلما وصلنا إلى الأوان المقدور للأزمة السنوية خرجنا من المدرسة متفقين على سكنى الإمام الشافعي، حيث تقيم أسرة الأستاذ المازني من زمن بعيد، وقدرنا أن اختزال النفقات المعيشية بالسكنى بين عالم الحياة وعالم الموت قد يغنينا عن التعجل في طلب العمل بضعة أشهر، ويفرجها ربك بعد ذلك أو قبل ذلك كما يشاء.

وقلت للمازني: ابحث يا صاح عن عمل في صناعتك ولا ترتبط بي في بحثك، ودعني أنتظر العمل في صناعتي حيثما اتفق، فلا حيلة لنا في استعجاله ولا في البحث عنه؛ لأنه معلق بانتهاء الحرب العالمية فيما قدرناه.

ووجد صديقنا المازني عمله ناظرا للمدرسة المصرية الثانوية، ولبثت أنا بالقاهرة أترقب أوائل الشتاء لأعمل فيما يتهيأ من عمل أرتضيه، أو أزمع الرحلة إلى أسوان.

وكنت أحسبني مترقبا على غير جدوى؛ لأن ركود السياسة الوطنية في إبان الحرب قد ذهب بالصحف اليومية، التي كانت تنطق بألسنة الهيئات السياسية، ثم هبطت أزمة الورق بالصحيفتين الباقيتين - وهما المقطم والأهرام - إلى ورقة واحدة في صفحتين لا متسع فيها لغير البرقيات، وأنباء الدواوين، وما هو من قبيل «المحتويات» التقليدية في الوقائع المصرية، فاكتفت كل صحيفة بمن فيها من المحررين والمترجمين ...

وكنا «نفد» على المدينة من «حي» الإمام الشافعي مرة كل أسبوع، وكان يوم السبت على الأغلب هو موعد هذه الزيارة الأسبوعية؛ لأنه يوم متوسط بين بطالة الجمعة وبطالة الأحد، فلم أكد أقبل على المكتبة التي كنت أتردد عليها في هذه الزيارات حتى تلقاني صاحبها قائلا، بل صائحا: أين أنت يا أستاذ؟ إن الأستاذ عبد القادر حمزة قد حفيت قدماه وهو يأتي إلى المكتبة ويعود ليسأل عنك وقد يئس من لقائك، فأوصى الأستاذ «عبد المؤمن كامل الحكيم» بالبحث عن مكانك، والاتصال بك في شأن هام كما قال، وقد كان الأستاذ عبد المؤمن هنا الساعة، وترك عنوانه لدينا، وكتبت له عنوانك كما أعرفه بالإمام، ولا أدري في أي مكان هو بأنحاء الإمام ...

وعلمت بعد لقاء الأستاذ عبد المؤمن أنني مطلوب للتحرير في صحيفة «الأهالي» بالإسكندرية، وأنني أستطيع أن أعد نفسي للسفر خلال أسبوعين أو ثلاثة، وعنده تفويض بتسليمي مرتب شهر وما أطلبه من تكاليف السفر، وعنده كذلك تفويض بمراجعة الصحيفة في تقدير المرتب، إن كنت لا أرضاه.

قلت له: لا حاجة إلى المراجعة الآن، ولعلها في الإسكندرية أجدر وأيسر، وانثنيت يومئذ إلى الإمام لإعداد حقيبة السفر، واختيار ما أحمله معي من الكتب إلى الإسكندرية، والاستغناء عما هو معد للبيع في يومين أو ثلاثة، ولم يكن طلابه بالقليلين في تلك الآونة ... لانقطاع البريد الأوروبي في الفترات بعد الفترات على غير انتظام.

كانت في الثغر الإسكندري ثلاث صحف يومية هي البصير، ووادي النيل، والأهالي.

وكانت «البصير» صحيفة القطن والتجارة، لا تعرض للبيع في خارج الإسكندرية، ولا تعرض للبيع في الإسكندرية نفسها إلا على مقربة من البورصة ومخازن الميناء، وكانت الصحيفة تعيش باشتراكات التجار والسماسرة، ورسوم الإعلانات القضائية من المحاكم المختلطة، ولا تذكر فيها شئون السياسة المصرية إلا كما تذكر صحيفة «خارجية».

Halaman tidak diketahui