ولا بد من الكفايتين لإصدار الصحيفة في موعدها الملائم، فإن لم توجد الكفايتان في رجل واحد، فقد توجدان في رجلين، وقد يهتدي أحدهما إلى الآخر بحكم المصادفة إن لم يهتد إليه بحكم الضرورة ...
وهكذا كان ...
بين العتبة والفجالة
فقد جدت في القاهرة ثلاثة مكاتب أو أربعة لتحرير المقالات حسب الطلب والاقتراح مقرها حانات وقهوات موزعة بين باب الخلق والعتبة الخضراء والفجالة وحي الحسين، وهي الأماكن التي كثرت فيها المطابع الصالحة لطبع الصحف الصغيرة؛ لأنها تكلف القليل من الأجور، وتتقبل المقالات ...
ورأينا من هذه «المكاتب» قهوة في العتبة الخضراء يجلس إليها محرر مشهور يكاد يرتجل المقالة في دقائق معدودات، وقد يكتب المقالات قبل اقتراحها على وجهين متناقضين، أحدهما للمدح والتأييد والآخر للقدح والتهديد ... ويجلس بهذه المقالات على ثقة من الطلب في حينه، وقد يأتيه الطلب على النقيضين من طالب واحد في ساعة واحدة، ولا يعجزه في اللحظة الأخيرة أن يدخل التعديل المطلوب في القياس والتفصيل، إن كان لا بد من تعديل!
كان المكتب العام من «مكاتب التحرير تحت الطلب» في قهوة على مفترق شارع محمد علي وميدان العتبة الخضراء، وكان المطعم الذي تعودت أن أتناول فيه الغداء إلى جوار تلك القهوة ... فكنت أجلس فيها هنيهة قبل الغداء أو بعده، وكنت ألقى فيها بعض الصحفيين والأدباء، وأحضر مجالسهم ومحاوراتهم، وأستمع إلى أحاديث غزواتهم وأحابيلهم في تحصيل إتاواتهم، فرأيت صاحب صحيفة من أشهر الصحف الأسبوعية في أيامها يجلس إلى مائدة «الشيخ المحرر»، ويبادره بطلب من «البار» على حسابه، ويفاتحه قبل حضور الطلب في موضوع مقالين مستعجلين، يثني في أحدهما على سري معروف من أصحاب القصور الباذخة على مقربة من حي عابدين؛ لأنه يثابر على عمل البر وإسداء المعونة إلى الجماعات الخيرية، وإصلاح المساجد التي تجاور قصره، وإطعام الفقراء الذين يترددون على تلك المساجد لوجه الله الكريم، وينحى في المقال الثاني على ذلك السري بعينه؛ لأنه مبتذل العرض والكرامة يغرر بالأبرياء، فيسوقونه إلى ساحة القضاء، ويطالبونه بالتعويض عما أصابهم به من الأدواء ...
ثمن الفخر والثناء
وخرجت من القهوة إلى المطعم والمقالان يكتبان، ولعلهما عرضا في ساعة واحدة على السري المصلح المفسد، النافع الضار، المحمود المذموم ... ولعله قد بذل الثمن ضعفين: ثمن الفخر وثمن السلامة من الخزي والبذاء.
ومجمل ما يقال في هذه الصحافة: أنها كانت في مجموعها على هذه الوتيرة ... بين صحافة صالحة تسرع إلى الاحتجاب، أو صحافة فاسدة تعيش متقطعة متسكعة، وينقطع لها الحثالة من نفايات البلد، وقل أن تعتمد على بضاعة غير بضاعة الجهل والاحتيال ...
ولنا أن نقول في كلمتين: إنها صناعة مرذولة ولا حرج، وعلينا أن نذكر أننا نتكلم عن الصحافة، وأن الصحافة يومئذ كانت ظاهرة اجتماعية تبحث عن مكانها ... ومن أعجل الأحكام أن تدان الظواهر الاجتماعية بحكم واحد في فترات النشوء والانتقال على نحو خاص، فلا بد من استثناء في هذه الفترات، بل لا بد من حكم متئد يقابل الحكم العاجل ، ويلغيه أو يكاد ...
Halaman tidak diketahui